يوم في الساحة.. اللبنانيون يعيدون إكتشاف ذواتهم

إنه اليوم الرابع من أيام الحراك الشعبي. يوم بيروتي خريفي لكن فرح وحار. ليس كمثله يوم. طوفان بشري بدأت سواقيه تتجمع منذ ساعات الصباح نحو ساحتي وسط بيروت: رياض الصلح والشهداء. الساحتان اللتان شكلتا منذ العام 2005، ملعباً لمقلبين سياسيين وأهليين تمترس في كل منهما محور، نجحت هبة 17 تشرين الأول/ أكتوبر في توحيدهما. باتت الساحتان ساحة واحدة. وحناجر من يفترشهما حنجرة واحدة برغم التلاوين والمشارب الطائفية والإجتماعية والطبقية التي يأتون منها.

من قلب بيروت إنطلقت الشرارة، لكن من أشعل اللهيب الشامل هو المشهد غير المسبوق في صور وطرابلس. هناك كسر حاجز خوف عمره من عمر النظام. كسرت المحرمات. إنه الجوع والمعاناة من الفساد والبطالة التي جعلت كل مواطن لبناني ينتفض على خوفه ويخرج إلى الشوارع والساحات.

“صور” النموذج صارت تتغنى بها حناجر الهاتفين في ساحة رياض الصلح “بدنا نثور يا صور”. وكأنها عروس ثورتهم. وطرابلس التي ألبست ظلماً في ما مضى ثوب ” قندهار” ها هي تصدح بأجمل أغاني كورال الفيحاء ومارسيل خليفة، ويتردد صداها هنا في ساحة الشهداء.

من هذه الساحة حيث مسجد محمد الأمين بإتجاه كنيسة مار جريس المجاورة فساحة رياض الصلح، تتلون الصيحات بتلون المجموعات التي تشكل المساحة الهائلة من البشر. تحاول الإستدلال عن ميول الجموع من الاغنيات والاناشيد التي تبثها مكبرات الصوت. لا جدوى. من الشعارات. أيضاً لا جدوى. من الأعلام. لا علم سوى العلم اللبناني. علم إحتل السواعد والجباه والخدود أيضاً ولف الأعناق. هذا أمر جديد. إستثنائي. في كل الحراكات التي شهدتها بيروت كانت الشعارات السياسية والحزبية تدلل على من يشارك فيها. وبالتالي تدلل على هويته الطائفية والمذهبية. اليوم لا أحد يهتم. لا أحد يسأل. كأن قلب الساحة إتسع وإتسعت معها صدور اللبنانيين. حتى إطلاق الشعارات “الاستفزازية” لم يعد يستفز أحداً. تُطلق الشتيمة بحق سياسي فتُقابل إما بصمت أو بضحكة. إن طالت الإهانات زعيماً أو إثنين أكثر من غيرهم يحاول آخرون تعديل كفة الميزان بإطلاق صرخة “كلن يعني كلن”. قبل هذا التاريخ كان لمثل هذا الأمر أن يشعل معركة في الشارع أو في الساحة. وحدة في التنوع وتنوع في الوحدة. أمر أجمل من أن يصدق. ما هي القوة السحرية التي دفعت اللبنانيين الى إكتشاف ذواتهم وإكتشاف الآخرين؟ إكتشاف القوة الكامنة فيهم؟ إكتشاف حبهم للحياة وحبهم لبعضهم؟

هي القوة نفسها التي جذبتهم إلى الساحة. كان النهار قد شارف على المغيب. وأنهر الناس ترفد هذا البحر من ناحية بشارة الخوري، جسر الرينغ، الصيفي، زقاق البلاط، رأس بيروت. يشبه المشهد “النهارات المليونية” ذات صباحات 8 و14 آذار/ مارس من الأعوام التي تلت 2005، لكن هذه المرة من دون تجييش سياسي، حزبي، طائفي، اعلامي، وإمكانات مادية وتنظيمية هائلة كانت ترصد لإنجاح ساحات “النضال” حينها، عندما كانت المناطق اللبنانية برمتها، تُيمّم شطر بيروت. اليوم طاف قلب بيروت بأهلها. وطافت كل ساحة في كل منطقة بأهلها أيضاً.

اليوم الخامس هو يوم الإمتحان. فيه يُكرم الحراك أو يُهان

وكما الفرح الذي إنتشر أريجه أهازيج وحلقات دبكة، تلونت جدران الابنية المحيطة بالساحة بالشعارات. منها ما يحمل الشكوى والوجع. ومنها ما يعكس روح النكتة. تهكم لا ينضب. بعضها تسلق تمثال الرئيس الراحل رياض الصلح طالبه بـ”لباسه الداخلي لسد الديون”. آخر سأل “72 ساعة؟ ليش؟ شو فحص بول؟. ثالث دعا لـ”كب الوزير بالبير”. رابعة رفعت يافطة توزع عناقات مجانية “free hugs”… وفي الأيدي هواتف جوالة تتناقل مئات النكات التي فجرها اللبنانيون في وجه حكامهم. كثير من السباب. لكنه الغضب وقد ثار. تم ترداده حتى تحول إلى لازمات موسيقية، بأنماط مختلفة. مضحك ومبكي.

وقبل إستقبال كل هؤلاء المشتكين-المبتهجين، وغالبيتهم من الشبان والصبايا، كان من بين هؤلاء من بادر إلى تشكيل مجموعات تولت جمع الأوساخ من المكان. آخرون شكلوا سداً لحماية القوى الأمنية الموجودة عند تخوم السرايا الحكومية، من أي عناصر “مشاغبة” قد تحرف الحراك عن مساره.

خوف اللبناني على ثورته مقيم. بدأ يدب في اليوم التالي. اليوم الخامس بدأ يحمل عبر الشاشات تناقضاً في مطالب المحتجين… بدأ العد العكسي لإمتحان الساعات. كيف سيتعامل المحتجون مع ورقة الإصلاحات التي ستقرها حكومة سعد الحريري؟ هل تمارس السلطة ضغطا أمنيا ونفسيا وماديا وطائفيا وإعلاميا من أجل شق صفوف المحتجين؟ هل تحول السلطة السياسية الثورة إلى فورة؟

نقطة قوة الحراك أنه بلا قيادة، ما يجعل سقف مطالبه مفتوحا ولا يقبل بأقل من إسقاط الحكومة، غير أن نقطة ضعفه الأكبر أنه بلا قيادة تقرر بإسم الحشد وتحدد المقبول والمرفوض. اليوم الخامس هو يوم الإمتحان. فيه يُكرم الحراك أو يُهان.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إيران و“طالبان“.. "ربيع مؤقت" أم صيف حار؟
جمانة بعلبكي

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  إما تجديد جامعة العرب أو جامعة عربية موازية