“العقل الهادئ”.. سلاح إيران الإستراتيجي (1)

من المرجَّح أن يستفزَّ بعضُ الخطاب السّياسي والدّبلوماسي الإيراني أغلبَ الأفراد المتابِعين من ذوي العقول الغربيّة التّكوين تحديداً (أي، ومع التّبسيط: "العقلانيّة" على الطّريقة الدّيكارتيّة كما فصّلنا في السّابق من المقالات)، وكذلك الحال بالنّسبة إلى ذوي العقول العربيّة التّكوين والتّنشئة (أي، ومع التّبسيط أيضاً: القريبة جدّاً من النّزعة الأوروبيّة السّالفة الذّكر).

قد يكفي البعضَ أن يتابعوا مؤتمراً صحفيّاً واحداً لوزير خارجيّة إيران مثلاً.. حتّى يقضوا نهاراً عصبيّاً ومتوتّراً، لما قد يعتبرونَه برودةً راديكاليّةً، أو لفّاً ودوراناً و”علْكاً” حول فكرة مركزيّة باطنيّة.. لا يعلمُها في الغالب: إلّا الله، وبعض الرّاسخين في معرفة “العقل” الأمني والجيوسياسي الإيراني (اللهمّ اجعلْنا منهم ولو بعد حين..).

ولكنّ مشكلة هؤلاء وغيرهم، ممّن ينفّره الخطاب والسّلوك الجيوسياسي الإيراني بالذّات، تكمن، برأيي: في عدم فهمهم لما يُمكن تسميتُه بـ”العقل الجيوسياسي الإيراني” أو “بالمفهوم الإيراني للجيو-سياسة”. لماذا أستعمل مصطلح “مفهوم” (Concept) ولا أكتفي بمصطلح “عقل” (Esprit)؟ لسبب متعلّق بأبحاث سابقة، قد فصّلناها فيما سَلَف، وهي التي تجعلني أميل إلى تجنّب استعمال مصطلح “العقل” من غير احتياطاتٍ منهجيّة ومفاهيميّة (كانطيّة وفيبريّة) معيّنة وواجبة.. قد تمّ تناولها من قِبلي في سلسلة الثّورة الكانطيّة في الإسلام، أيضاً على موقع 180Post.

المهمّ، وخصوصاً في هذه المرحلة من “الطّوفان” الفلسطيني العظيم، وفي مرحلة “طوفان الطّوفان” الإقليمي والدّولي المُبين: لا بدّ – برأيي – من محاولة العمل على بناء ودراسة النّموذج-المثالي لما يُمكن تسميته إذن – مع بعض الاحتياطات كما رأينا – “بالعقل الجيوسياسي الإيراني”.

فما هي، برأينا، أهمّ المعالم الجوهريّة والنّموذجيّة والمُمَيِّزة (معاً) لهذا “العقل” أو “المفهوم”؟

في البداية، لا بدّ من التّذكير بالعلاقة الجوهريّة المؤكّدة وشبه البديهيّة: بين هذا العقل الجيوسياسي الإيراني.. وبين “العقل الإيراني” ككلّ (إن صحّ التّعبير). وهذا بحثٌ آخر طبعاً، ولكنّ من المهمّ أن نتذكّر هذه النّقطة على الدّوام، لأسباب بيّنة سوف تتّضح بشكل أوفى فيما يلي:

سمة أولى: لطالما يكون الآجلُ خيراً من العاجل!

حسب تصوّري: العقل الإيراني المذكور يمشي، في الغالب، بما يتّفق مع هذه القاعدة. الآجلُ يأتي غالباً بما هو خيرٌ ممّا يأتي به العاجل. لا يُحبّ العقل الإيراني المذكور، برأيي: الاستعجال ولا الاندفاع. من النّادر أن يؤمنَ بأنّ العاجلَ خيرٌ من الآجل.

وهذه عقليّة من شأنها – إذا صحّت – أن “تُجنّن” كلّ عقلٍ غربيٍّ و/أو عربيٍّ نموذجي مُبين. الأصلُ، في العقليّة الرّأسماليّة الغربيّة وعند تُجّار العرب (كما وصلنا من خلال التّراث الإسلامي المنقول تحديداً): هو أنّ العاجلَ خيرٌ من الآجل. الاستثناء هو انتظار الآجل. لو سمع أحد أساتذتي الاقتصاديّين اللّيبراليّين في فرنسا وغيرها: أنّي أتجرّأ على مجرّد القول بأنّ “القاعدة هي أنّ الآجلَ خيرٌ من العاجل”.. لساءت سُمعتي كثيراً بينهم.

علينا أن نعيَ أهمّيّة ومركزيّة هذه النّقطة. فإنّ نظريّة الاقتصاد الجزئي (La théorie microéconomique) اللّيبراليّة الرأسماليّة تقوم بشكل أساسيّ على نظريّة الحسم الزّمني (La théorie de l’escompte temporel)، وهي بدورها تشكّل جزءاً أساسيّاً – ومؤسِّساً – من النّظريّة الماليّة الرّأسماليّة (ونظريّة المحافظ الماليّة) المعاصرة.

تقوم هذه النّظريّات كلّها، مع التّبسيط، على تصوّر أنّ مكسَباً (أو مَغنَماً في الأفصح) تنالهُ اليومَ، هو خيرٌ من المكسب نفسه – أي بنفس قيمته الإسميّة أو الظّاهرة (Nominale) – تنالهُ في المستقبل. مع التّبسيط الشّديد والمبالغ فيه عن قصد: أن تربحَ ١٠٠ دولار اليوم هو خيرٌ من أن تربحَ ١٠٠ دولار بعد سنة (لا سيّما بسبب التّضخّم المتوقّع، والذي يتضمّنه سعر الفائدة في الأسواق.. إلى ما هنالك من زوايا متعدّدة للمفهوم الرّأسمالي عينه).

ولكن، وفي الثّقافة الغربيّة خصوصاً، تحوّلت هذه القاعدة الماليّة-الرّياضيّة برأيي: إلى قاعدة سلوكيّة، فرديّة وجماعيّة، عامّة.. ليس فقط في الاقتصاد، وإنّما تحوّلت أيضاً إلى قاعدة سياسيّة ونفسيّة واجتماعيّة وثقافيّة (وعسكريّة ربّما) عامّة. كلّ شيء أصبح يدور حول شراء العاجلِ بالآجل: الجميع يريد العاجل.. في كلّ شيء وفي كلّ أمر. الكلّ متوتّر ويريد الحصول على النّتائج العاجلة (راقب جيّداً: سلوك الكيان الإسرائيلي اليوم في حرب “الطّوفان” مثلاً). المسألة أصبحت في الأغلب: مسألةً مرضيّةً أكثر من أيّ شيء آخر.

الأصلُ، في العقليّة الرّأسماليّة الغربيّة وعند تُجّار العرب: هو أنّ العاجلَ خيرٌ من الآجل. الاستثناء هو انتظار الآجل. لو سمع أحد أساتذتي الاقتصاديّين اللّيبراليّين في فرنسا وغيرها: أنّي أتجرّأ على مجرّد القول بأنّ “القاعدة هي أنّ الآجلَ خيرٌ من العاجل”.. لساءت سُمعتي كثيراً بينهم

في الجيو- سياسة بشكل خاص، وهو موضوع نقاشنا: بخلاف العقل الرّأسمالي الغربي الغالب حاليّاً، لا يتقبّل العقل الجيوسياسي الإيراني عقليّة الNow or Never! هذه. لا يُمكن للعقل الرّياضي-الذّهني البحت، ولا للعقل المالي البحت بطبيعة الحال، أن يفرضا قواعدَهما على كلّ جوانب الحياة ومجرياتها. في أغلب الأمور وأهمّها: قد يكون من الحكمة اعتبار أنّ الآجلَ خيرٌ من العاجل.

الأصلُ – حسب هذا العقل المذكور – هو: أنّ ما سوف نغنَمُه من خلال الصّبر الحكيم، والتّروّي المتبصِّر، والتّفكير الهادئ المطمئن.. خيرٌ وأبقى ممّا سوف ننالهُ من خلال التّركيز الهَوَسي على المكتسبات الآنيّة. حسب هذا العقل “الشّرقي-العرفاني” الطّابع عموماً: لتحقيق النّجاح، يلزمك “ذكاء ذهني” + “إرادة” على الطّريقة الدّيكارتيّة التّقليديّة طبعاً.. ولكن، يلزمك أيضاً: البصيرة المتعالية على الذّكاء الذّهني هذا من جهة؛ والصّبر شبه اللّا-متناهي من جهة ثانية.

إقرأ على موقع 180  أيُ مسيحٍٍ يُولد في لبنان 2022؟

يؤمن هذا العقل حسب تصوّري: بالتّكامل ما بين التّفكّر الذّهني والإرادة والصّبر. وذلك بخلاف العقل الغربيّ النّموذجي المذكور (والعقل النّموذجي العربي التّقليدي أيضاً) الذي يكاد يعطي الذّهن والإرادة مرتبةً مقدّسةً من جهة؛ ويكاد يُغفل – عمليّاً – أهميّة الصّبر كطريقٍ أساسيٍّ نحو النّصر والفرج المُبين من جهة أخرى.

لكي تستطيع تأويل السّلوك الأمني والجيو-سياسي الإيراني بشكل صحيح، وفي أيّ مرحلة من المراحل، عليك برأيي أن تفهم هذه النّقطة وبتعمّق. ليسَ المكسبُ العاجلُ خيراً من المكسبِ الآجلِ دائماً، بل الأصل هو العكس! لنتذكرْ هذه القاعدة-العقيدة جيّداً قبل الولوج فيما سيلي:

سمة ثانية: تصوّر “العقلانيّة الواقعيّة”.. الرّاديكالي إلى حدّ بعيد

إلى جانب هذه النّظرة إلى دور الزّمن إن صحّ التّعبير، علينا إضافة مَعلم أساسي آخر من مَعالم هذا العقل الجوهريّة: وقد سمّيته بـ”المدرسة الإيرانيّة في العقلانيّة-الواقعيّة”. فنحن أمام عقلانيّة على الطّريقة السّيناويّة-المشّائيّة-الإسلاميّة من جهة.. والمتأثّرة أيضاً – كما رأينا – بالطّريقة الغربيّة الدّيكارتيّة المعاصرة، خصوصاً على المستوى المنهجي-التّقني، ومن جهة ثانية.

ولكنّ العقلانيّة هذه.. واقعيّة أيضاً، أي أنّها تتبنّى نظرة واقعيّة إلى الأمور. بتعبير آخر: هي تأخذ بحقيقة الواقع الخارجي وجوديّاً ومعرفيّاً ومنهجيّاً وعمليّاً وسلوكيّاً. فتكون بذلك: عقلانيّة.. لكن شديدة الواقعيّة، وإلى حدٍّ كبير البُعد في الجانبَين.

لكي تفهم هذه الفكرة في إطار حديثنا، عليك برأيي أن تتخيّل وجود بُعدَين (وجوديّين ومعرفيّين) في الكون وفي الحياة (مع التّبسيط):

(١) بُعد المُلك أو الظّاهر؛

(٢) وبُعد المَلَكوت أو الباطن.

ضمن هذه النّظرة: لا يُلغي وجودُ الأوّل وجودَ الثّاني ولا العكس (أنطولوجيّاً وأبستمولوجيّاً ومنهجيّاً وعمليّاً وسلوكيّاً إلخ.). الظّاهر بلا باطن: لا وجود له حقيقةً. والباطن الذي ليس له ظاهر: لا وجودَ له أيضاً في الحقيقة (أو هو من الصّنف الذي من الصّعب جدّاً إدراكه بالحواس أو بالذّهن أقلّه). والإنسان يعيش في هذَين البُعدَين معاً، أو بالتّوازي! كلّ الموجودات، حسب هذه النّظرة، لها بُعدٌ مُلكي ولها بُعدٌ ملكوتي.. كلّ شيء بلا استثناء بين الموجودات له هذان البُعدان، ويعيش ضمنهما حتّى يأذن الرّحمن.

ولكنّ لكلّ بُعدٍ (بجميع العوالم التي يُمكن أن يتضمّنها): قوانينَه. فللْمُلك قوانينُه، وللمَلَكوت قوانينُه. ضمن هذا التّصوّر، يمكننا الادّعاء إنّه (ودون الدّخول في الازدواجيّة والانفصام وما إلى ذلك، بفضل الإيمان بوحدة هذه العوالم جميعها ضمنيّاً وهذا بحثٌ آخر): طالما أنّك في هذه الحياة الدّنيا خُلقت.. فقد “عَلِقْت”. من خُلق هنا فقد “عَلق”: وعليه بالتّالي أن يلتزم بقوانين الظّاهر التزاماً كلّيّاً، حتّى يتمّ تحريره من هذا الابتلاء والامتحان والعياذ بالله.

ومن تجلّيات هذَين الأخيرَين: ضرورة الأخذ بالسّببيّة الظّاهرة وبالأسباب الظّاهرة (والعياذ بالله أيضاً..)، وضرورة الالتزام بقوانين العقل المُفكّر والمنطق والفلسفة العقلانيّة.. والواقعيّة على أشكالها وبمختلف تجلّياتها: وصولاً إلى الواقعيّة السّياسيّة والجيو-سياسيّة.

عليكَ أن تعيَ ما سلفَ جيّداً، برأيي، لكي تفهمَ جوهر “العقل الإيراني” النّموذجي (بالمعنى الكانطي – الفيبري لنظريَّتَي المفهوم والنّموذج-المثالي) وجوهر “العقل الجيوسياسي الإيراني” قيد البحث والنّقاش.

فإذا ما أخذتَ بما سبق: عليكَ ألّا تتفاجأَ بتموضعات السّياسة الإيرانيّة والدّبلوماسيّة الإيرانيّة والجيو-استراتيجيا الإيرانيّة بشكل عام:

(١) الهادئة والصّبورة وذات الجلَد – على شبه الدّوام – من جهة؛

(٢) والعقلانيّة-الواقعيّة إلى حدّ بعيد جدّاً من جهة ثانية.. وقد يبدو هذا الحدّ الأخير متطرّفاً في أحيان كثيرة، وغيرَ مفهومٍ ولا مُبَرّرٍ من قبل أغلب الأفراد من ذوي العقول الغربيّة والعربيّة المهيمِنة.

ولا حاجة إلى تذكير قارئنا العزيز بأنّنا نقوم بهذا التّحليل من دون الدّخول في عالم الأحكام القيَميّة (Jugements de Valeur)، ولا في عالم التّأييد الأيديولوجي و/أو السّياسي من عدمه لهذا “العقل” أو ذاك (أقلّه، حتّى الآن..).

لذا، سنحاول في ما سيلي هذه المقالة، الخوض أكثر في سمات ومعالم هذا “العقل الجيوسياسي الإيراني”، مع توقّفٍ عند الجانب الرّوحي والرّوحاني بشكل أعمق.. قبل الانتقال إلى مناقشة كلّ ما سبق في ضوء معركة “الطّوفان” الحاليّة في غزّة وفلسطين، ومعركة “طوفان الطّوفان” في الإقليم.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إنها الحرب.. ألم تكشف المتصهينين بيننا؟