للمرة الأولى، منذ نشوء لبنان الكبير، قبل مئة سنة، يسقط التقسيم العامودي الطائفي للشعب اللبناني، في الشارع. وللمرة الأولى، نحن أمام إنتفاضة عفوية تفتح الأبواب أمام إبتكار أشكال جديدة من التعبير والتنظيم والمبادرات، وحتى عندما تتخذ الأمور طابعاً عنفياً، كما شهدنا في الأيام الأخيرة، عبر إستهداف القطاع المصرفي تحديداً، لاحظنا أن المحتجين لم ينزلقوا إلى تكسير محلات أو المس بالممتلكات الخاصة.
مع إنتهاء الشهر الثالث، وعشية اليوم الـ 100 للإنتفاضة، يبدو أن السلطة السياسية دخلت في ازمة حادة لا تملك فعليا مفاتيح الخروج منها. حكومة المحاصصة مستقيلة؛ رئيس حكومة مكلف من دون غطاء طائفي يضمن حفظ توازن انبثق عنه الحكم الحالي من خلال بدع “الميثاقية” و”الديمقراطية التوافقية”؛ إختلاف على توزيع الحصص الوزارية داخل صفوف الأكثرية؛ أزمة مالية واقتصادية خانقة أنتجتها السلطة القائمة عبر سياستها المالية بشراكة كاملة مع المصرف المركزي صاحب الأمرة النقدية؛ تهريب جزء من الأموال الى الخارج؛ محاولة إعادة انتاج حكومة جديدة للمحاصصة والصفقات.
الانتفاضة في مرحلة مخاض صعب، فبعد نجاحها في الإستقطاب الشعبي وبإفشال جميع المحاولات للنيل منها، لم تنتقل حتى الآن الى مرحلة الفعل او المبادرة بطرح مخارج للازمة الراهنة والذي تستوجب بالدرجة الأولى التوحد حول برنامج مشترك من دون الوقوع في مطب توحيد القيادة.
المواجهة طويلة وصعبة، هي معركة وجود بالنسبة إلى منظومة الفساد. لا أبالغ في القول إننا نواجه ترسانة نفذت (وما زالت تنفذ) احدى أكبر عمليات السلب والنهب والهدر المنظَّم في التاريخ المعاصر. الدليل أن بعض الصحف الأجنبية اشارت الى ان ودائع اللبنانيين من أرباب السلطة في البنوك الاوروبية تخطت الـ800 مليار دولار خلال الـ 30 سنة الماضية. بالطبع، تمت هذه العمليات من خلال منظومة متكاملة من القرارات السياسية، التشريعية، المالية، القضائية والامنية وبشراكة مع رموز من المقاولين والمصرفيين ورجال الأعمال إلخ… رؤوس هذه الشبكة، وان إختلفوا ظاهرياً، سوف يستشرسون بالدفاع عن وجودهم وتغطية أفعالهم، بغض النظرعن مشاركتهم او عدمها في السلطة.
أكثر من 90 يوماً من الاحتجاج والتعبير المتواصل في الشارع وفي الساحات من دون اكتراث السلطة. ردود فعلها توحي برغبتها بدفع البلد والناس إلى الهاوية، وعندها تنتفي المحاسبة وتصبح الناس بحاجة إلى من ينقذها، وعندها يكون العصب الطائفي والمذهبي هو الصنارة التي يريدون أن يتصيدوا من خلالها الجمهور الذي تفلت منهم تحت ضغط الإنتفاضة.
كيفية المتابعة
ككل حركة احتجاج شعبية، عبرت الانتفاضة عن رفض فئات واسعة من الشعب اللبناني لكل أشكال الاستغلال المعتمدة من قبل مافيا الحكم المتجذرة منذ ثلاثين عاماً، والتي أدت إلى إفقار غالبية الشعب اللبناني من خلال تدمير ما تبقى من طبقة وسطى وجعل أغلبية الشباب يفقد الأمل بحد أدنى من الحياة الكريمة في بلده. من الطبيعي، ان يعبر هؤلاء عن سخطهم ووجعهم وجوعهم بطرق وأشكال متعددة ومن خلال أنماط مختلفة من العمل، المنظم وغير المنظم، المتجانس أو غير المتجانس، العفوي أو المتقن التنظيم.
إنَّ ما استطاعت تحقيقه هذه الانتفاضة حتى الان، بالرغم من عدم وجود تنسيق فعلي بين معظم المجموعات، يشكل الأرضية الغنية للإنتقال إلى المرحلة القادمة من الصراع والتي تتطلب قدرة كبيرة من الإستعداد للمواجهة وصولاً إلى التحضير للمرحلة القادمة، أي مرحلة السلطة البديلة.
في هذا السياق، أتقدم ببعض الاقتراحات:
أولا، تفادي التأثير الخارجي، الذي تناولته في مقالي السابق ( http://180post.com/archives/7290 )، وخصوصا لجهة التصدي لكل الإغراءات الأميركية والغربية بالمساعدات المالية والاقتصادية من أجل خلق نظام يخضع لاستراتيجية التفتيت والشرذمة حفاظاً على مصالح الغرب بما في ذلك محاولة رهن أية مساعدات بموضوع سلاح المقاومة، وفي المقابل، عدم جعل لبنان أسير طموح أي دولة إقليمية تريد توسيع نفوذها في المنطقة على حساب التشرذم العربي.
ثانيا، العمل على إيجاد الحد الأدنى من التنسيق بين مختلف المجموعات والتشكيلات المشاركة في الانتفاضة. لا اقصد في هذا الإطار تشكيل قيادة بالمعنى التقليدي، لا بل خلق أُطُر للتواصل تؤمن أكبر توافق على التحركات وشموليتها.
ثالثا، متابعة الضغط عبر إبتكار أساليب جديدة ونموذجية للتحرك تتلاقى مع الهموم اليومية وتبقي أدوات السلطة في موقع ردة الفعل دون القدرة على المبادرة.
رابعا، التوافق على وسائل اعلام مستقلة، متناسقة وشاملة تعتمد بشكل أساسي على وسائل التواصل الاجتماعي من اجل الخروج من مستنقع الاعلام الخاص الذي يأتمر بأوامر الممولين.
خامسا، توثيق فضائح الهدر والنهب والفساد تحضيرا لطرحها امام قضاء مستقل وإذا تعذر الامر طرحها امام المحاكم الدولية بإسم الشعب اللبناني، والاستفادة من الوجود اللبناني في الاغتراب للمتابعة من جهة وكونه يشكل الوسيلة المثلى للتحرر من الضغوط المحلية.
سادسا، بلورة برنامج إنقاض اقتصادي وإجتماعي ومالي ينبثق عن حوار شفاف ومنفتح يقوده خبراء مشاركون بشكل مباشر بالانتفاضة او أولئك الذين وضعوا أنفسهم في تصرفها.
سابعا، وضع تصور واضح لأسس نظام سياسي جديد، قوامه قانون إنتخابي خارج القيد الطائفي، قانون مدني جديد للأحوال الشخصية، سلسلة قوانين تكرس إستقلالية القضاء.
ربما تكون رؤية مثالية بعض الشيء، آتية من مهاجر غير متواجد على الأرض. بكل تواضع مساهمتي تندرج من غيرتي وإنتمائي ووطنيتي، والأمل الذي ولّدته هذه الانتفاضة بوجود فرصة جدية للتغيير.
(*) مهندس لبناني مقيم في فرنسا