ما حصل مع استقالة سعد الحريري، التي فرضتها انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر الشعبية، كان طي صفحة التسوية الرئاسية عام 2016 التي وافقت عليها ضمنيا كل من واشنطن وطهران خلال رئاسة باراك اوباما، والتي مهدت لها مرحلة 2014-2016 التي شهدت هدنة بين اميركا وايران بعد صعود “داعش” وقرار التفاوض حول برنامج ايران النووي. التعبير عن هدنة عام 2014-2016 كان تولي تمام سلام رئاسة الحكومة اللبنانية بعد تفاوض حزب الله وتيار “المستقبل” برعاية رئيس مجلس النواب نبيه بري.
حكومة حسان دياب هي امتداد لحكومة تمام سلام مع الاخذ بعين الاعتبار تغيير موازين القوى، اي حكومة حيادية تميل الى حزب الله وحلفائه برئاسة دياب بعدما كانت حكومة تمام سلام تميل الى تيار “المستقبل” وحلفائه. ما سقط مع حكومة الحريري هو التسوية الرئاسية التي أتت بعون رئيساً للجمهورية وأعادت الحريري إلى رئاسة الحكومة، وليس قرار الهدنة الاميركية-الايرانية منذ عام 2014.
هذا الامر يعني عمليا استدامة قرار حزب الله والحريري بعدم المواجهة السياسية المباشرة وابقاء موازين القوى على حالها من ناحية الجيش والقوى الامنية والمصرف المركزي بالنسبة للاميركيين ونفوذ حزب الله داخل وخارج الدولة اللبنانية بالنسبة الى الايرانيين. حكومة دياب حسمت النقاش حول عدم احداث تغييرات في هذه المواقع الرسمية التي تتواصل بشكل مباشر مع المسؤولين الاميركيين ولا حتى الضغط السياسي عليها، وفي المقابل، لا يستعيد الحريري خطاب المواجهة مع حزب الله. مهما رفع سعد الحريري سقف خطابه في المجلس النيابي او خارجه، تبقى حكومة حسان دياب تحت حماية الاجهزة الامنية التي تدور في فلك نفوذ الحريري الذي خرج من السلطة وليس من الحكم.
حكومة حسان دياب وظيفتها ادارة الانهيار الاقتصادي في لبنان وليس تعديل موازين القوى عبر قرارات تنفيذية في هذا الاتجاه، بما في ذلك انتخابات نيابية مبكرة، كما ادارة المرحلة ضمن المبادئ العامة للسياسة الخارجية للحكومة الاخيرة
حكومة حسان دياب وظيفتها ادارة الانهيار الاقتصادي في لبنان وليس تعديل موازين القوى عبر قرارات تنفيذية في هذا الاتجاه، بما في ذلك انتخابات نيابية مبكرة، كما ادارة المرحلة ضمن المبادئ العامة للسياسة الخارجية للحكومة الاخيرة.
ويبدو أن سعد الحريري يريد استغلال هذه المرحلة الانتقالية من أجل شد عصب قاعدته السنية التي تنحسر بانتظار عودته المحتملة الى السلطة، بعد خروج لبنان من فترة تخفيف اعباء الانهيار الاقتصادي والمالي عند انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون بعد نحو ثلاث سنوات. والسبيل لذلك فتح معركة رئاسة الجمهورية مبكرا والتطلع الى مرحلة ما بعد ميشال عون في تقاطع مصالح مع بعض حلفاء حزب الله.
في المقابل، يواجه حزب الله تحد في حاضنته الشعبية لكنه يتمسك ايضا بقرار عدم المبادرة بالمواجهة مع الحريري، بل استمرار الامر الواقع، اي تحالف بين سلاح يردع اسرائيل ويحمي نفوذ الحزب ونيو ليبرالية تحمي الاوليغارشية في حنين لمرحلة تسعينيات القرن الماضي من تاريخ لبنان الحديث. التسوية الرئاسية ساعدت حزب الله على تجاوز الجمود في السلطة التنفيذية على حساب سياسات حكومية ساهمت في تسريع وتيرة الانهيار الاقتصادي والمالي، وسقوط هذه التسوية يعني تحول الحزب الى وسيط بين “التيار الوطني الحر” و”تيار المستقبل”.
ادارة ترامب لم تمانع خروج سعد الحريري من الحكم لكنها تتوقع منه مقاربة اكثر تشددا حيال حزب الله عبر الاستفادة من التحول في المزاج الشعبي في لبنان، وكان ذلك واضحا في بيان الخارجية الاميركية الذي صدر باسم مايك بومبيو في ذكرى اغتيال رفيق الحريري للتذكير ان القرار الاتهامي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان يوجه اصابع الاتهام الى اعضاء في الحزب وان واشنطن تدعم مطالب اللبنانيين.
في المقابل، كان النظام الايراني يرغب ضمنيا بتشدد مواقف حزب الله تجاه النفوذ الاميركي في لبنان بعد مقتل قاسم سليماني طالما أن فتح الحدود اللبنانية الجنوبية مع اسرائيل غير متاح، لكن في نهاية المطاف هناك ادراك في واشنطن وطهران ان استمرار الهدنة يخدم مصالحهما على المدى البعيد وليس هناك حاجة للتسرع بالدخول في دورة جديدة من الصراع السياسي يقودها حلفاء وضعيتهما السياسية هشة في الداخل اللبناني.
المعادلة القائمة تحاول وضع اللبنانيين امام خيارين، اضطراب سياسي – امني عبر مواجهة غير متكافئة بين حزب الله والحريري او ابقاء الامر الواقع عبر ادارة ازمة النظام السياسي بدل معالجة جذورها
هذا الجمود يجعل الانتفاضة الشعبية المستمرة الورقة الاصعب في محاولة تثبيت معالم صراع النفوذ في لبنان باعتباره اكثر الجبهات هدوءا بين واشنطن وطهران. تحدي هذه الانتفاضة هو تحويلها الى حالة سياسية لترجمة مطالبها ويمكنها الاستفادة من جمود الصراع الاميركي-الايراني لتحقيق هذه الغاية، في ظل عدم قدرة السلطة على قمعها بشكل كامل. لكن، في المقابل، هذه العوامل الخارجية لن تساعد الانتفاضة بطبيعة الحال على الدفع نحو هذا التغيير، اقسى ما يمكن لواشنطن فعله لهذه الانتفاضة هو تلميحها للمساعدة على استعادة الاموال المهربة الى الخارج واقسى ما يمكن لطهران ان تفعله هو عدم التشجيع على الذهاب بعيدا في تطويق الانتفاضة كما حصل في العراق.
لبنان عام 2020 عنوانه اقتصادي ومالي واجتماعي حتى يتضح مصير العلاقة بين واشنطن وطهران، لا سيما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية في الخريف المقبل. عدم اجراء انتخابات نيابية مبكرة في لبنان، يفيد المصالح الاميركية والايرانية نظرا لعدم استعداد حلفائهما اللبنانيين خوض هذه المواجهة في لحظة انهيار اقتصادي ـ مالي يتحملان مسؤوليته بطريقة مباشرة او غير مباشرة. هذه المعادلة القائمة تحاول وضع اللبنانيين امام خيارين، اضطراب سياسي – امني عبر مواجهة غير متكافئة بين حزب الله والحريري او ابقاء الامر الواقع عبر ادارة ازمة النظام السياسي بدل معالجة جذورها.