صفقة القرن.. حرب تموز جديدة

لم يكن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن صفقة القرن بحضور بنيامين نتنياهو وبيني غانتس وليد خطة خاصة بهذه الإدارة الأمريكية، بل في سياق زمني طويل، قد يعود إلى مرحلة إطلاق المشروع الصهيوني عام 1897 الذي أسست له بريطانيا في مؤتمر بال في سويسرا، وبواجهة شخصية هرتزل.

كان من المفترض وفق الحلم الأمريكي أن يكون القرن الحادي والعشرين قرناً أمريكياً بامتياز، وذلك يعتمد بشكل أساسي على النجاح في احتلال أفغانستان والعراق، وتحقيق الاستقرار فيهما اعتماداً على تحولات مجتمعية مهيكلة بأطر سياسية تابعة، غير أن الفعل المقاوم والمفاجئ، هنا وهناك، أسقط تلك الاستراتيجية، وزاد الطين بلة فشل الأمريكيين في انتاج “شرق أوسط جديد”، بعد هزيمة الإسرائيليين في حرب تموز/ يوليو (حرب لبنان الثانية) 2006.

لا بد إذاً من خطة بديلة للوصول إلى الهدف نفسه، لا سيما في ضوء تسارع الصعود الصيني والروسي المترافق أيضاً مع خروج إيران من تداعيات حرب الخليج الأولى، وإعادة بناء الدولة الإيرانية التي تستند إلى بنية تحتية وصناعية وتجارية قوية، ولعب ظهور تجمعات اقتصادية جديدة وخاصة منظومة دول “البريكس”، بالإضافة للإعلان عن استراتيجية روسيا ببناء عالم أوراسي جامع للدول مبني على التعاون وليس الهيمنة، فضلا عن إعلان الصين مشروعها – طريق واحد حيّز واحد – الذي يعتمد على اشتراك كل دول المشروع بفعل تكاملي بالعملية الصناعية والتجارية، كل ذلك زاد من حجم التهديد لدور الولايات المتحدة كقطب وحيد مهيمن على العالم وعلى منطقتنا.

يستند نجاح المشروع الجديد إلى مجموعة من الشروط التي يجب أن تتحقق بما يعيد استقطاب دول شمال إفريقيا والهلال الخصيب والإمساك بدول الخليج بشكل مطلق، مع الاعتماد على المشروع التركي الذي كان من المفترض أن يكون ناظماً لكل المنطقة الممتدة من إندونيسيا إلى المغرب، بما في ذلك آسيا الوسطى، وفقاً للدور المتفق عليه منذ 28 كانون الثاني/يناير 2005، بعد اجتماع رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان والرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش في واشنطن، وهذا ما توفره صفقة القرن الآن بعد فشل الإسلام السياسي في إنجاز المشروع السابق ذكره.

صفقة القرن ليست مسألة فلسطينية بحتة، بل هي إحدى محطات الصراع الدولي بين قوة مهيمنة وحيدة تقاتل بكل السبل لاستمرارها على سدة النظام العالمي، وبين قوى دولية وإقليمية تسعى لبناء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب

إن ما بعد الإعلان عن صفقة القرن يقتضي التخلص من القضية الفلسطينية، بما يتيح لإسرائيل إزالة كل الهواجس الأمنية والديموغرافية التي تهددها، ويتطلب أيضاً إخراج العلاقات العربية الإسرائيلية إلى العلن، بعد عقود من العلاقات السرية التي تمتد من ثلاثينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، وذلك الأمر يتطلب احتواء مجموعة من الدول التي تشكل عقبة أمام هذين الأمرين، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتدمير كل من ليبيا وسوريا والعراق، بالإضافة إلى اليمن الذي يشكل تهديداً للممر البحري إلى إسرائيل في البحر الأحمر، بالإضافة إلى بقية الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط.

وبرغم النجاح في تحقيق الكثير من الخطوات ضمن البرنامج الأمريكي، وخاصةً في ليبيا التي ما زال الصراع فيها وعليها مستمراً، واستباحة دمها النفطي بين القبائل والدول، بالإضافة إلى تدمير القسم الأكبر من البنية التحتية السورية، وتدمير المجتمع السوري باستقطابية عمودية وأفقية، وكذلك الأمر في العراق واليمن، والإعلان الرسمي عن علاقات واسعة بين أغلبية دول الخليج وإسرائيل، فإن احتمالية نجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد بنسخته الحالية، يرتبط بمجموعة عوامل قد تكون كفيله بإسقاطه على الأرجح؛ بدءاً بموقف الشعب الفلسطيني بغالبيته العظمى بمن فيهم أولئك الذين ذهبوا للتسوية مع إسرائيل، وتعاونوا معها أمنياً، فهؤلاء لا يستطيعون تحمل مسؤولية تاريخية بالموافقة على “الصفقة”، وليس مستبعداً أن نشهد انتفاضة فلسطينية جديدة، يضاف إليها الرفض القاطع من قبل تنظيمات المقاومة المسلحة في غزة، بالإضافة لكل من سوريا واليمن والعراق، التي على الرغم من كل الجراحات العميقة فيها، فإن التحولات العسكرية الكبرى فيها بالأشهر الماضية أعادتها إلى المعادلات الإقليمية من جديد كعنصر فاعل في رسم السياسات الإقليمية، بالإضافة إلى إيران التي استطاعت احتواء اغتيال القائد العسكري الأبرز قاسم سليماني، وانتقلت من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم بالتآزر مع حلفائها في العراق واليمن وأفغانستان وسوريا أيضاً، بالإضافة إلى ذلك، فإن الموقف الروسي حاسم في هذا الأمر، من زاوية إدارك موسكو بأن نجاح الولايات المتحدة في تطبيق صفقة القرن سيجعلها تخرج من حالة الإنكفاء، وهذا سيكون على حساب النجاحات الروسية التي تحققت، وبالحد الأدنى ستتوقف عند حدود بلاد محطمة تحتاج لتضافر دول كبرى في إعادة إعمارها، وهي لا تستطيع أن تعطي شرعية دولية لمن يريد إعادتها من المياه الدافئة وما تحتويه من ثروات نفطية وغازية، بالإضافة لاهتزاز صورتها التي تحاول رسمها باعتماد التوازن بين الدول المتناقضة والمتصارعة، وكذلك الأمر بالنسبة للصين التي تدرك أيضاً أنها مستهدفة بمشروع إذا ما قيض له النجاح فإنه سيقضي على مشروعها ويجعله متوقفاً على الحدود العراقية الإيرانية.

إقرأ على موقع 180  لم يبقَ أمام اللبنانيين إلا إستنساخ قرطاجة!

صفقة القرن ليست مسألة فلسطينية بحتة، بل هي إحدى محطات الصراع الدولي بين قوة مهيمنة وحيدة تقاتل بكل السبل لاستمرارها على سدة النظام العالمي، وبين قوى دولية وإقليمية تسعى لبناء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، ويحمل بجعبته جملة من الإنجازات المغمسة بالدم والألم والأمل.

(*) طبيب وكاتب سياسي

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الدرزي

كاتب وباحث سوري

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  موسى الصّدر.. في الطريق نحو بناء الدّولة المعاصِرة (٢)