في زمن الالتباس.. جورج عبدالله يُحدّد وجهة الإشتباك!

ثمة خيط رفيع بين حرية جورج عبدالله ورحيل زياد الرحباني. الأول، لا يملك في أولى ساعات حريته إلَّا قاموس فلسطين وغزتها الجريحة. الثاني قرّر، أن يتوقف عن الكلام والعلاج والدواء منذ 18 شهراً، تاريخ "الطوفان". لماذا فعلت ذلك يا زياد؟ جوابُه المُضمر: فلسطين، بحسب رواية ثلة المقربين منه حتى أيامه وساعاته الأخيرة. في زمن الالتباسات، سأتحدث عن جورج عبدالله وربما تكون لنا عودة لاحقة إلى زياد الرحباني.

عندما استمعت إلى كلمات الرفيق المناضل الأممي جورج إبراهيم عبدالله، وهو يخاطب الجماهير من مطار بيروت، شعرت بغصة غريبة جمعت بين الجمال والوجع والحنين والأمل في آن. حملتني كلماته ونقلتني بلمح البصر إلى زمن يعرفه جيلي جيداً، زمن كانت فيه المعرفة نتاجاً ثورياَ أصيلاً للبُنى الاجتماعية المشتبكة في مشروعها التحرري. أمام طوفان كلماته الصادقة، كان شعوري مثل كهلٍ يستمعُ إلى أغنيات عاشها أيام الطفولة والشباب عندما كان الفن عزيزاً نقياً، أو كمن تذكر فجأةً، بعد اغترابه الطويل، أناشيد الحصاد وأهازيج الفلاحين في استقبال المواسم في ضيعته البعيدة.

وددت لو كنت في استقباله، لأحتضنه وأهمس له ما قالته أم سعد في رواية غسان كنفاني: “برعمت الدالية يا ابن العم. وسنوات عمرك الطويلة في الأسر أثمرت أبطالاً وحكايات بطولة في جنوبنا وجنوبكم وجنوب العالم كله”. كنت أتمنى ذلك، لأن لا شيء يعادل العمر عند المناضلين إلا ثمار المقاومة التي نبتت على سواعدهم وروتها أفكارهم. لكنه طبعاً كان يعرف ذلك وينكره على نفسه في تواضع العظماء. كان صلباً أكثر مما توقعنا، وكانت كلماته الأولى في الفضاء العام مثل رياح البشائر تهزُ أشجارَ معرفتنا ليتساقطُ عنها الثمرُ الرديء والورقُ الميت. بدا أنه لم يخرج من زنزانة كان لها شرف رفقته 41 عاماً، بل جاء ليخرجنا من زمن طويل من الالتباس، ليعيد ضبط البوصلة، ويُعيد طرح سؤال الجذر السياسي على كل أدواتنا الثقافية.

عندما غادر المثقف موقعه الطبقي الوطني المشتبك.. حلَّت المؤسسة الممولة من الخارج المُعادي محل الحزب والمنظمات الجماهيرية ذات الوظيفة الاجتماعية التقدمية، وتصدرت النصائح والفتاوى وثقافة تطوير الذات المشهد بعد غياب الأيديولوجيا التحررية

لنعد سريعاً إلى وصف المرحلة ما بين اعتقال جورج عبدالله وانتصار الحرية بعودته لوطنه. في زمن الالتباس المعرفي، أخذت العلاقة بين المثقف والبنية الاجتماعية تتحلل بهدوء، ثم تنفصم بدرجات متفاوتة من التواطؤ أو العزلة، حتى غدت الثقافة نفسها في كثير من تجلياتها خطاباً هُلامياً بلا عمود فقري، وبلا عضلات اجتماعية، وبلا وظيفة تحررية. إن المثقف الذي كان ينظر إليه، وفق أنطونيو غرامشي، كوظيفة اجتماعية تنبع من قلب الصراع الطبقي والتاريخي، بدأ يتحول تدريجياً إلى وسيط ومحلّل لا يواجه ولا يطرح البدائل. وتجلّى ذلك الانفصال حين بدأت الثقافة تُنتج خطاباً محايداً، مسالماً، يتوسّل النُّظم القائمة بدل أن يشتبك معها، وتماهت المؤسسات الثقافية مع معايير المانحين أكثر من تطلعات الجماهير، فغاب المثقف الذي ينتمي إلى البنية الاجتماعية المنتجة، وظهر المثقف الطارئ الذي يكتفي بالتموضع فوقها، فلا ينزل من عليائه إلى غبار الشارع للالتحام مع أدوات العدو حتى لو عبّر في مواقفه عن وطنيته والتزامه.

عندما يغادر المثقف موقعه

يشرحُ مهدي عامل هذا التحول بوصفه انقطاعاً في وظيفة الثقافة الثورية، حين تصبح أدوات التعبير منفصلة عن أدوات الإنتاج الاجتماعي، وتتحول الثقافة إلى موقع للتسويق الرمزي، تفتقد للممارسة التاريخية. المثقف الذي انبثق سابقاً من داخل لحظة المقاومة، من النقابات، من المنظمات الجماهيرية، ومن صفوف المعتقلين والمنفيين، صار الآن ينتج في فراغٍ محكوم بلغة التقدير المتبادل، والحذر المؤسسي، وانحسار الأفق الراديكالي. هكذا، لم تعد الثقافة وظيفة كاشفة أو منتجة، بل تغريبية، تُجمّل القائم ولا تفضح تضاريسه. وبهذا الانسحاب، خسرت الجماهير جزءاً من أدواتها في فهم ذاتها، وفي تنظيم وعيها، وفي نقد شروطها، فغاب المثقف المنخرط، وبقي الشبح، مثقف الشاشة، والمهرجان، والمقال المعقم، الذي لا يُراكم وعياً ولا يصنع قطيعة معرفية، بقدر ما يصنع الالتباس.

غادر المثقف تدريجياً موقعه الطبقي الوطني المشتبك، انخرط عبر تحولات المشهد في بنى ومنظومات نشأت في ظل تراجع العمل الثوري ووعيه وأحزابه أيضاً، فكانت نتاجاً لما قد يصلح تسميته هنا بالهزيمة الذاتية، فحلت المؤسسة الممولة من الخارج المعادي محل الحزب، وصعدت منظمات “الإنجي أوز” على حساب المنظمات الجماهيرية ذات الوظيفة الاجتماعية التقدمية، وتصدرت النصائح والفتاوى وثقافة تطوير الذات المشهد بعد غياب الأيديولوجيا التحررية، ولأن من انتمى لهذه المنظومات في غالبيتهم ثوريون سابقون، التبس الخطاب، وتحول إلى شكل للمراوغة للبقاء والهيمنة، يسقط ويتراجع بل ويتغير في وظيفته زمن الاشتباك الحقيقي.

لقد انعكست هذه القطيعة بين الثقافة وبنيتها الاجتماعية المنتجة، على جوهر الوعي بالصراع التحرري في المنطقة، فتحول الصراع العربي الصهيوني من كونه اشتباكاً تاريخياً جذرياً مع مشروع استعماري إحلالي، إلى كونه “أزمة مرحلة” أو “كارثة إنسانية” تُحل عبر تقنيات الإدارة، وتحسين الشروط، والتعايش، دون المساس بالبنية الاستعمارية العميقة التي أنتجت النكبة وما تلاها. فأمام الانسحاب الأيديولوجي للمثقف، تحول مفهوم الاحتلال من بنية ينبغي تفكيكها عضوياً وبشكل جذري، إلى حادثة طارئة في الزمن، أو “سوء تفاهم طويل”، يُحَّل بـ”خفض التصعيد” و”تهيئة بيئة ملائمة للتفاوض”. وهكذا، أصبحت تجليات المشروع الصهيوأميركي الإمبريالي الرجعي، غير مرئية في خطاب الثقافة الطارئة، لأنه يُنظر إليه كأثر ومجموعة ممارسات، وليس بوصفه منظومة عسكرية واقتصادية وثقافية متكاملة مترسخة في داخلنا الوطني عبر حوامل ومغذيات كبرى.

جورج عبدالله أعاد إلينا المعنى العميق للمثقف العضوي كما ينبغي أن يكون، ضمير الجماهير وحارس كرامتها، والمقاتل من أجل حقها في التحرر عبر الفعل والتحريض والانحياز المطلق

في ظلّ هذه الثقافة المجتزأة والمقطوعة عن سياقها، أُفرغت مفاهيم مثل التحرر الاجتماعي، والكفاح الأممي، والانتماء الطبقي، من مضمونها التاريخي، وأعيد إنتاجها كرموز أخلاقية مجرّدة تصلح للحملات العابرة فقط. هذا الانحراف المفاهيمي جعل التوصيف السائد للصراع مشبعاً بالحياد الأخلاقي، منزوعاً من أدوات التفكيك والتحليل، بحيث تُرى المجازر كأنها تداعيات، وليست استراتيجية استعمارية. فتُختزل معاناة الفلسطيني في مشهد إنساني لا في تاريخ مادي من التهجير والاستيطان، ويوصف العدوان الصهيوني على لبنان وجنوبه وضاحيته بأنه تصعيد يُمكن التراجع عنه بالمزيد من إخضاع الداخل، فيُستدعى “السلام” بوصفه قيمة مجردة تُعلّق في الفراغ، دون مساءلة النظام العالمي الذي أنتج الاحتلال ويدير شروط استمراره. وبهذا، لم تلتبس اللغة فقط، بل اختُطفت الجبهة الثقافية بأكملها.

إقرأ على موقع 180  الفرنكوفونية كاستراتيجية إبادة ثقافية.. بن جلون نموذجاً!

المقاومة هي الحرية

بالعودة إلى الرفيق جورج عبدالله، منذ وطأت قدما الرجل أرض مطار بيروت ضخ فينا نفساً ثورياً كان قد أصبح من محتويات الأرشيف والذاكرة. كان بصوته وبعينيه المشرعة في الأفق، بجسده الذي يرتجف انفعالاً وصدقاً وبكل ما فيه، نموذجاً نابضاً عن حضور المثقف في قلب الصراع، ذلك الذي يفتح للوعي نوافذه في وجه السائد. رفع قبضته وقال: “شرط الحرية إلتفاف الجماهير حول المقاومة.. المقاومة هي الحرية”. أدار رؤوسنا نحو أدوات المشروع الصهيوأميركي الإمبريالي في المنطقة، وحسم الجدل حول كلفة المواجهة على المقاومة، وقال: “المقاومة قوية لأن قادتها شهداء، تكون ضعيفة حين يصبح قادتها خونة”. تحدث عن التحرر أكثر ما تطرق للانتصار، فالتحرر مصطلح يحمل أبعاده الاجتماعية والطبقية والتاريخية، أما الانتصار فقد يكون حسماً عسكرياً مجرداً من أي بعد.

هكذا عدّل لنا الرفيق جورج البوصلة، ووضع الفكر على مساره الصحيح، فالفرق بين دعم المقاومة وإلتفاف الجماهير حولها شاسع جداً.. قد يأتي “الدعم” تكتيكاً مؤقتاً من خارج البنية المشتبكة، أما “الإلتفاف” فخيارٌ عضويٌ استراتيجي. أما المقاومة فهي في نظر الثوري حرية بذاتها، تسبق خيار المقاومة وتنضج بحمل البندقية أو أي أداة من أدوات الاشتباك. الحرية في نظره وعي الضرورة، والثورة لا تنتظر الظروف السهلة، بل هي وليدة الظروف المجافية وانعدام جميع الآفاق إلا أفق الاشتباك. المصطلحات عند جورج عبدالله تحمل مهماتها وتلتزم بها. عندما يتحدث عن النضال الأممي، فهو يعي أن هناك مهمات أممية لم تُنجز بعد. وعندما يتحدث عن النضال الطبقي فهو يعي أن هناك مهمات طبقية اجتماعية على أجندة الثورة وأن سحب هذه المصطلحات من قاموسنا يعني أنها ماتت قبل أن تنجز مهمتها التاريخية، وأن هذه المهمات ستظل معلقة تعيق التحرر.

لقد كانت سنوات السجن بالنسبة للرفيق جورج عبدالله مساحات اشتباك متواصل، دخله صلباً في انحيازه الطبقي، واضحاً في اشتباكه المعرفي، ثابتاً في موقعه مثقفاً مقاتلاً، وخرج منه مبشّراً يصنع أفق النضال. يعيد للمعرفة دورها الجذري في إنتاج أدوات المواجهة، ويمنح الكلمة معناها التاريخي في أن تكون بذرةً صالحةً في حقول الفقراء من شعوب الأرض. لقد أعاد إلينا، في لحظات، المعنى العميق للمثقف العضوي كما ينبغي أن يكون، ضمير الجماهير وحارس كرامتها، والمقاتل من أجل حقها في التحرر عبر الفعل والتحريض والانحياز المطلق.

في زمن الالتباس والتكيّف، نحن أحوج ما نكون إلى هذا النموذج الذي يعيد صياغة العلاقة بين الثقافة والثورة، بين المعرفة والضرورة التاريخية، وبين الكلمة والرصاصة.

Print Friendly, PDF & Email
آدم كنعان

كاتب فلسطيني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الفرنكوفونية كاستراتيجية إبادة ثقافية.. بن جلون نموذجاً!