“… إنَّ حبّة الحنطة إِن لَم تَقع في الأرض وتَمُتْ، تبقى مُفرَدة. أمَّا إذا ماتت فإنَّها تأتي بثمرٍ كثير”. بهذا المقطع من إنجيل يوحنا، إختار المطران بولس عبد الساتر أن يبدأ، بالتحديد، عظته التي ألقاها لمناسبة عيد القديس مارون، بحضور ترويكا الحكم (ميشال عون – نبيه بري – حسان دياب)، مُنادياً إيّاهم بالاسم كمنادى مقصود بالنداء. عشية جلسةٍ برلمانيةٍ مفصلية في لبنان (لمنْح الثقة للحكومة أو حجبها عنها)، تموضع مطراننا في مقلب الثورة والثوار، وإنْ من دون اعترافٍ صريح أو شعاراتٍ رنّانة زائفة ضبطها اللبنانيون، بالجرم المشهود، تتسلّق على وجعهم ومطالبهم كيفما اقتضت ظروف المتسلّقين.
وبهجومٍ كلاميّ قاطعٍ بلياقته، لخصّ المطران عبد الساتر بالمقطع الإنجيلي المذكور أعلاه، الإشكالية العميقة التي يطرحها التوظيف السياسي للدين في لبنان، من خلال حكم طبقةٍ سياسية يتقلّب أفرادها منذ عشرات السنين، حصْرياً، مع بعض الأتباع والمحظيّين، في شتى المناصب الحقيقية والوهمية بأقلّ مستوى مطلوب من الكفاءة. إذْ من الأمور القليلة التي يُجمع عليها معظم اللبنانيّين، ربما، هو الضحالة الفكرية والقيادية لهؤلاء السياسيّين، وعجزهم النادر عن تقديم إنجازات فعليّة للناس، ما يدفعهم إلى الاستثمار، ومن دون خجل، في خطاب طائفي ممجوج وركيك. بحيث أنّ هؤلاء، وعندما يتحسّسون الخطر يقترب من منظومة مصالحهم، تراهم يسارعون لتوسُّل خطاب في الدين والطائفة والملّة والعشيرة يرمونه حبلاً على القطعان المتفلّتة، ليشدّوا به عصبها كما تُشَدّ الأعناق وتُسحَل الأجساد المشوّهة عبر شوارع الطوائف.
قالها لهم المطران عبد الساتر في عظته ومن دون أن يقول، بأنّكم يا حكّام لبنان أناسٌ غير “مثمرين” في حياتكم، ومسؤولون غير مسؤولين في مجتمعكم ووطنكم، “فما قيمة الإنسان إن كانت حياته عقيمة، وما نفعه إذا جاء إلى هذه الدنيا ورحل ولا يترك إلاّ الذِكر السيّئ من الأنانيّة والتسلُّط والمكابرة على الله والعِباد؟”.
خطب المطران محدِّقاً في عيونهم، فنظروا إليه بوجوه الـ Poker Face (أي الوجه الذي لا يمكن قراءة ملامحه أو فكّ شيفرتها)، وصفّق الحضور لكلامه بألم المؤمن الملدوغ من الجُحْر مرتيْن وثلاث … ومئة مرّة. فهُم تنشقوا من خطبته عطر مواجهةٍ للمتسلّط ومقاومةٍ للغاصب، كان يفوح ذات زمن من جبال لبنان وكهوفه حيث عاش شفيعهم مارون حياة النسك في العراء، وتقرّب من الإنسان بعيداً عن العالم، واتحد بالله بمنأى عن فلسفات اللاهوت وخطّط لتكوين جماعة تعيش على الخير وتنمو على الحقّ وتقاوم الباطل، بحسب ما تتّفق عليه معظم روايات الباحثين.
في كلّ مرّة كان يخفت فيها نجم الزعامات السياسيّة المارونيّة، كما هو الحال اليوم في لبنان، كان يسطع نجم الكنيسة ويعلو صوت بطاركتها وأساقفتها ومطارنتها، ليعيدوا إلى الأذهان الدور الإيجابي البنّاء الذي لعبته (ويمكن أن تلعبه) هذه الكنيسة في بدايات القرن الماضي
لقد صدر كلام شتّام كثير قبل اليوم ضدّ الحكّام اللبنانيّين، ولا سيّما منذ تفجُّر الانتفاضة الشعبية، إلاّ أنّ الأهمية التي حظي بها خطاب رئيس أساقفة بيروت للموارنة كانت لافتة؛ فالكلام صدر عن مرجعيةٍ دينية كبيرة، لطالما تباهى موارنة لبنان بدورها التاريخي، وبمكانتها الرفيعة المعترَف بها كمقام كهنوتي وحيد مثبَّت منذ العصور القديمة في الجبل اللبناني. صحيح أنّ الكنيسة المارونيّة لم ترتبط، تاريخياً، بأيّ نظام سياسيّ، لكنّ وجودها ارتبط، غالباً، بفكرة الوطن اللبناني، ولم تقتصر مهمّتها على تدبير الأمور الكهنوتيّة والروحيّة للطائفة، إنّما كانت لها، على الدوام، زعامة شعبيّة تفرض عليها الاهتمام بشتّى الأمور الزمنيّة، ما دفعها للانغماس بشكلٍ مباشر بالحياة السياسيّة اللبنانيّة. وفي كلّ مرّة كان يخفت فيها نجم الزعامات السياسيّة المارونيّة، كما هو الحال اليوم في لبنان، كان يسطع نجم الكنيسة ويعلو صوت بطاركتها وأساقفتها ومطارنتها، ليعيدوا إلى الأذهان الدور الإيجابي البنّاء الذي لعبته (ويمكن أن تلعبه) هذه الكنيسة في بدايات القرن الماضي.
من هنا، دغدغت عظة المطران بولس عبد الساتر “الثورية” كما وُصِفت، وجدان الجمهور، الماروني والمسيحي واللبناني، المتطلّع بقلقٍ إلى مستقبل البلاد، وأعطت دفعة تفاؤل لشعبٍ يغلي على صفيح ساخن، فيما حكّامه يعيشون في ثكنات عسكرية وكأنّهم باتوا على كوكبٍ آخر. عظةٌ في غاية الأهمية، نطقت بكلماتٍ وضعت النقاط على حروفها، وصَبت إلى موقفٍ أخلاقي ومسؤولٍ وحكيم لزعماء لبنانيّين احتارت القواميس العربية والغربية في آن، على اجتراح أوصافٍ لهم. وبعد أن أُسمعوا تقريراً بما “جنت وتجني الناس من زرع أيديهم”، رسم لهم المطران بولس عبد الساتر خارطة طريق لعلّهم يهتدون: “أعيدوا للشعب كرامته وحقوقه أو ارحلوا بشرف”. وأنهى عظته قائلاً بالعاميّة اللبنانية: “ما حدا بيقدر يحبس المَيْ (المياه)، والناس مثل المَيْ إلاّ ما تلاقي (تجد) منفذ تنفجر منو”، ومطراننا اليائس من أيّ قدرةٍ إنسانية يمكن أن تضع الحكمة والرحمة في نفوس حكّام لبنان، لم يجد سبيلاً إلاّ مناشدة صاحب المناسبة (القديس مارون) لطلب شفاعته إنقاذاً للبنان وشعبه: “نطلب بشفاعة القديس مارون أن يُلهمكم الربّ ما يجب أن تقوموا به، ويمنحكم الإرادة لتفعلوه. آمين.”
(*) أستاذة في الجامعة اللبنانية