على جاري عادتهما، إقتحم ولداي مكتبتي المنزلية، مكاني المحبب، من قبل موسم الحجر الصحي المفروض جراء تفشي فيروس كورونا. دخل الولدان بخطى واثقة وكأنهما عاصفة “مونسون” تريد إسقاط حِملها من الأمطار بسرعة. وبأعلى صوت، تسابق فريد وفيصل في نقل الرسالة، وهما يصرخان “غايا..غايا”.
“لم أفهم.. ولن أفهم عليكما”، خاطبتهما وقلت لهما “السرعة في الكلام لا تعني السرعة في إيصال المعلومة”. باءت محاولتي بالفشل. طفلان في عمر تطغى عليه روح المنافسة على كل شيء. أصغيت إليهما مرة ثانية، وهما يصرخان “غايا.. غايا”.
“غايا”؟ تساءلت مستغرباً. بعدها، تبادرت الى ذهني أسطورة إغريقية من زمن سحيق.
هي أسطورة غايا إحدى آلهة الإغريق. وغايا، وفق الأساطير اليونانية القديمة، هي الأرض. أول إله ينبثق منها بقية الألهة. جاءت غايا في زمن الفوضى، لكن بعد انحسارها، أعلنت نفسها الأم الراعية. خلقت زوجها أورانوس وأنجبت منه ابنها كورونوس وإخوته العمالقة.
تتمتع الأساطير اليونانية بخيال واسع وغير مألوف، وهو ما ساهم في ابحاري بعيدا بقصة عائلة غايا. دقّقتُ، فتبين لي أن لإبنها كورونوس قصة في الميثولوجيا الإغريقية أكثر تشويقاً. حرّضته والدته غايا على خصي والده أورانوس.
تحكي الأسطورة عن قيام الأم غايا بتقديم المنجل الى ابنها كورونوس مطالبة إياه بأخذ الثأر، وأنه بعمله هذا، سينقذ إخوته القابعين في سجن والدهم.
تروي الأسطورة نفسها، تفاصيل دقيقة عن تلك المؤامرة. تسلل كورونوس الى فراش والديه وباغت أبيه بضربته القاضية. على الأثر، تربع كورونوس على عرش العالم حاكماً، ليبدأ معه العصر الذهبي.
لم تنته الحكاية هناك. أبحرت أكثر فأكثر في أساطير الإغريق علني أفكك بعض حروف قصة كورونوس الإله، بينما كانت ترتسم على وجه كل واحد من أولادي مسحة من السعادة والتعجب لإنكاري غير المفهوم لأخبارهما الجميلة وصراخهما المتكرر.
بعد ان استقر الحكم لكورونوس، جعل ريا زوجة له. وحتى لا يتكرر معه ما فعله هو بوالده أورانوس، قرر كورونوس إبتلاع كل ولد تلده زوجته. بحسب الأساطير، التهم كورونوس كل أبنائه ما عدا الطفل زيوس. لماذا؟ لأن الأم قامت باستبداله بحجر مقمط بالقماش وقدمته لزوجها على أنه طفلهما الرضيع. انطلت الحيلة على كورونوس وعاش ابنه زيوس في مغارة في إحدى الجبال سنين طويلة. ترعرع زيوس وغدا لاحقاً بطلاً إغريقياً كبيراً بانتصاره على ابيه وإخراج إخوته من بطنه.
كانت غايا بالنسبة إلى الإغريق مقدمة الأحلام ومغذية النباتات والأطفال ونعمة على الآلهة. كيف لا وهي ربة الأرض تقدم العطاء المطلق من دون مقابل كأي أم. بالمقابل، كان كورونوس الابن الذي سئم من سوء إدارة ابيه ومن خوفه الدائم على رأس ماله وموقعه.
ما نعيشه اليوم ليس أسطورة. ثمة معركة تتحالف وتتآلف فيها الأرض مع فيروس كورونا ضد الإنسانية. فُرِضَ علينا الزمان والمكان. وصوّب الفيروس على أهم خصلة بشرية: الاجتماع والتلاقي
طرحت على نفسي أسئلة مستحيلة: هل يمكن أن تكون الأساطير الإغريقية حقيقية؟ لما لا، فنحن نعيش في زمن نجد فيه رجالا يتصرفون كآلهة وأبناء يتمردون على التقاليد بحثا عن السلطة. أصلا خيال البشر لا يتكوّن من الفراغ. لعل ما يجري في عالمنا اليوم هو تتمة لتلك الأساطير، عندما إجتاحت جائحة كورونا بلاد الإغريق قبل آلاف السنين، فكانت نهاية الأسطورة. من يقدر أن ينفي أسطورة؟
المؤسف أن ما نعيشه اليوم ليس أسطورة. ثمة معركة تتحالف وتتآلف فيها الأرض مع فيروس كورونا ضد الإنسانية. فُرِضَ علينا الزمان والمكان. وصوّب الفيروس على أهم خصلة بشرية: الاجتماع والتلاقي. ها هي الساحات مغلقة والأعمال معطلة وأصبحنا أسرى السجن الطوعي في بيوتنا. نجلس في منازلنا كأننا مشردين. تائهين. أفراد يرسمون حدودا بين بعضهم البعض. عدنا إلى البدايات. كيف نملأ وقتنا بين أربعة جدران. كيف نصمد في حيز جغرافي صغير لمدة أشهر؟ كيف يصبح البيت مدرسة وحضانة وجامعة ومركزا للعمل؟ كيف ننبش ذكرياتنا، صورا وأوراقا وأفلاما وحكايات؟ هناك حرب تدور على سطح كرتنا الأرضية ضد جرثومة غير مرئية. تدخل أجسامنا وتختفي. لا نستطيع تقفي أثرها إلا بعد أن تنهك جسدنا. تعبئة لا مثيل لها في التاريخ إلا في أساطير اليونان القديمة، وكورونا هي كورونوس. أما الأم ريا، ففيها روح الشر والإنتقام والمؤامرة.. والغواية.
إنقطع سيل أفكاري. صاح فريد وفيصل مجدداَ: “مبروك.. مبروك”. أدركت هول فعلتي. إستفسرت منهما سر مباركتهما. سألتهما من منكما فاز على الآخر، فإذا بهما يتنافسان على قولها معاً: “مبروك غايا، ابنة خالتنا الجديدة”.
قبّلت كل واحد منهما. باركت لهما لعبتهما الجديدة. حاولت أن أشاركهما الحماسة والسعادة، بأكثر مما كانا يتوقعان. ثم بادرتهما متسائلا: “ما هو الشيء الذي ستتذكرونه في المستقبل عن زمن كورونا؟ الغياب عن المدرسة أم “الزربة” (الحجر) في المنزل؟ أم ماذا”؟
أجابا ببراءة مطلقة أغبطهم عليها: “سنتذكر بيبي غايا ابنة خالتنا ريم”.
إليكما حيث تعزفان ألحان الحياة في جنوب أفريقيا: ألف مبروك ريم. ألف مبروك فراس.