البلاد نفسها التي انطلق منها وباء قاتل، كان يهدد بالقضاء على أعداد هائلة من مواطنيها، احتفلت، بعد شهرين من بداية الأزمة، بانتصارها على العدو الخفي في مدينة ووهان.. ليس أمراً عادياً أن تشهد هذه المدينة، التي بدت حقل أشباح ذات أمس قريب، ماراتوناً يشارك فيه ألف مواطن صيني، تفرّج عليهم سكان الأرض من مخابئهم يركضون نحو الحياة، بعد أن كان الموت وجهتهم الوحيدة.
ثمة جهد هائل بذلته الصين لتغيير واقعها، وقد نجحت في ذلك إلى حدود الإبداع. الأمبراطورية التي شهدت الكثير من الأهوال عبر تاريخها السحيق أمكنها التحول نموذجاً للتطور جديراً بأن يحتذى. جذبت الكثير من الأنظار. أثارت الدفين من الهواجس. شقت العديد من الدروب الوعرة.. والواضح أنها ستستمر في ذلك.
لعل بين أهم ما يميز الصين امتلاكها رؤية استراتيجية مغايرة للمألوف والسائد. هي لم تظهر اهتماماً بقهر أعدائها بقدر ما سعت إلى جعلهم حلفاء عبر إبهارهم بنموذجها الحضاري. حوّلت قصص نجاحها إلى مصدر إلهام للآخرين، بمن فيهم أولئك الذين وجدوا أنفسهم معنيين بمواجهتها. بالنسبة للدول التي وصفت بأنها عظمى قد تكون مهادنة الصين مكلفة، لكن المؤكد أن الوقوف بوجهها سيغدو أقرب إلى الإنتحار.
من الخطأ التعامل مع الصين، أو حتى النظر إليها، بوصفها مجرد كتلة سياسية واقتصادية وعسكرية تنمو باضطراد. هي أقرب إلى مصنع غزير الإنتاج لأفكار ورؤى غير مألوفة تبسط نفوذها المعنوي والقيمي والأخلاقي عالمياً وبسرعة غير مسبوقة.
ما يحدث في الصين راهناً هو حكاية عصر ستتأثر بها الأجيال القادمة. سيكون على التاريخ أن يفرد الكثير من صفحاته لعملاق تسلل خلسة إلى مقدم المشهد ثم شرع يعيد تشكيل الأحداث وفقاً لصياغة غير متوافق عليها. سيتحدث المؤرخون عن كتلة بشرية تمثل خمس سكان العالم صحت فجأة واستطاعت خلال حقبة زمنية لا تتخطى الثلاثة عقود أن تمتلك قابلية مدهشة للتأثير على مسار عالمٍ كان الظن أنه أسلس قياده لقطب أوحد. سيبحثون مطولاً في خصوصية ذلك المارد الديموغرافي ذي الشهية المفتوحة على التهام الطاقة والإسمنت والمعادن والكتب أيضاً.. وحتى لا نستغرق في المفارقات التي تثيرها الأرقام، يكفي أن نشير إلى أن الصين تحتاج إلى تحديث خرائط بعض مدنها كل أسبوعين، وهي تبني مدينة بحجم عاصمة بريطانيا (العظمى) كل عام، أما فترة انتقالها من المجتمع الزراعي إلى الصناعي، فقد احتاجت منها إلى ثلاثة عقود، في حين اعتبرت أوروبا جديرة بالثناء إذ أنجزت المهمة خلال مائتي سنة.
يمكن لقراءة مبسطة في تاريخ الصين الحديث أن تكشف عن مفارقة مؤثرة على واقعها الراهن. عندما تأزم الوضع السياسي الصيني في القرن التاسع عشر، لم يجد المصلحون الفكريون من أتباع كونفوشيوس حرجاً في تدعيم جوهر النظام الامبراطوري الذي اطلقوا عليه تسمية (تي) باستخدام المعرفة القادمة من الغرب والتي اصطلحوا على منحها مسمى (يونغ). هكذا أمكن الكشف عن حيثية معرفية متفردة في الذهن الصيني تنحاز إلى المواءمة بين مرجعيات متناقضة.
يمكن لتلك الخصوصية أن تفسر ما يمكن اعتباره لغزاً حضارياً مساهماً في تحقيق القفزة الإنجازية النوعية التي تمكنت الصين من تحقيقها، وهي تتمحور حول قابلية العقل الصيني للتوفيق بين عناصر تحتمل إختلافاً في مصادرها.
سيكون على التاريخ أن يفرد الكثير من صفحاته لعملاق تسلل خلسة إلى مقدم المشهد ثم شرع يعيد تشكيل الأحداث وفقاً لصياغة غير متوافق عليها
وفقاً لهذه القدرة على التخطي، أمكن لصين اليوم أن تتآلف، في بنيتها الحضارية، مع ثلاثة مكونات تستبطن تبايناً جوهرياً: الإلتزام بثقافة تقليدية متوغلة لآلاف السنين في أعماق حضارة شكلت رافداً أساسياً للتاريخ البشري، معطوفاً على تجربة جديرة بالإهتمام أفرزتها مرحلة الحكم الشيوعي بقيادة ماو تسي تونغ الذي مارس إبداعية فاعلة في صلب النظرية ولم يكتف بتبنيها، ومنفتحاً، بكثير من الهدوء والتعقل، على زمن السوق الرأسمالي وما يتيحه، بل يفترضه، من حرية وحماية للحقوق.. حتى يمكن الزعم أن هذه الهجانة الفكرية المصغى إليها بعناية هي التي استولدت ما يصح وصفه بالمعجزة الصينية.
العقل الصيني القابل للتفاعل، دون استلاب أو خضوع، مع المؤثرات الوافدة من الخارج، والمستبطن لمخزونه الماضوي، والمتمكن من استيعاب التجارب التاريخية المثمرة، أمكنه انقاذ الصين من الفخ الذي وقعت فيه شعوب كثيرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتكريس الولايات المتحدة قطباً كونياً أوحد. هذا الفخ أسماه المفكر الصيني القومي وانغ شياو داونغ بـ”العنصرية المعاكسة”، هي تجد تعبيرها الواقعي في الهرولة التي يمارسها المغلوب نحو الإرتماء في أحضان الغالب، والتنكر لإرثه الفكري والحضاري بسهولة مثيرة للريبة.
إعتماداً على هذه الرؤية، أمكن للصين التي لم يجذبها “ماكدونالد” وهوليوود ومشروب الكوكا كولا أن تنجز ما يسميه المفكر الصيني كوي جيوان بـ”الحداثة البديلة”، فتحولت إلى هاجس مؤرق للولايات المتحدة التي افترضت أن بوسعها الإستمرار في السيطرة على العالم بالإعتماد على مطابخها الصاخبة واستوديوهاتها الباذخة.