المَصْرف

صادفت أزمةً تتعلق بأحد الأقسام القديمة في مستشفى عام. دوراتُ المياه تتعرَّض للسَّدد مرة تلو الأخرى دون أن يتمكنَ المُشرفون على المكان من العثور على حَلٍّ جِذري. بعد مُداولات ونقاشات تبيَّن أن المواسيرَ شِبه مغلقة وأن البالوعاتِ صارت بدورها ضيقة.

لم يكُن في الأمر سرٌّ؛ فجذور الأشجار الضخمة التي ناهزت أعمارُها قرنًا من الزمان، قد امتدَّت وتوغَّلت واخترقت المَصارِفَ، وأدت للموقِف العسير. قطع شجرةٍ لا يمثِّل حلًا بكل تأكيد؛ فكفى بنا ما فقدنا في أعوام سابقة من نبات وغطاء شَجريّ، والرأي المقبولُ أن يُقامَ نظامُ صَرف بديل يَسلك مسارًا مناسبًا؛ لكن عمليةَ الحَفر تتطلَّب ما يستعصي توفيرُه، والحال إذًا تبقى على ما هي عليه؛ علاجٌ وقتيٌّ للعَرَض وتعايشٌ مع أصلِ المَرَض.

***

المَصرَف اسم مكان من الفعل صَرَف؛ وهو مَوضِع حَركة وجريان، الفاعلُ صارفٌ والمفعولُ به مَصروف، أما الصرَّاف بتشديد الراء فصيغة مُبالغة تشير لكثرةِ مُمارسة الفعل، ومِهنة يقوم صاحبها بتوزيع النقود المستحقَّة بينما الناس ينتظرون على أحرِّ من الجَّمر.

***

على مدار يومين تكرَّرت المشاهد الهزليَّة المعتادة بمناسبة انتخابات مَجلِس الشُّيوخ، وكم يصادف المتابع لها مِن مُضحِكات مُؤسيات؛ وبخاصة وصلات الرقص التي تتوالى أمام اللجان، والتي لا تجد لها محلًا من الإعراب. الرَّقصُ خِفَّة وهَزل بينما التَّصويت عملٌ جاد، وبصَرف النظر عن كون بعض الأعمال تؤدى نظير مُقابِل؛ فإن الموقف يبقى مشينًا مُقززًا.

***

في أزمنة ماضية؛ تألف مصروفُ اليدِّ الذي يُعطيه الأهلُ للأبناء من قروشٍ مَعدودات؛ لكنها كانت كافيةً لشراء ما لذَّ وطاب خلال اليوم الدراسي وربما أثناء العودَة أيضًا. تحوَّلت القروشُ بمرور الوقت إلى جنيهات، والجنيهات إلى عشرات؛ لكنها غدَت عاجزةً عن توفير أقلِّ القليل بعدما فقدت قيمتها وتدنَّت قدرتُها الشرائية.

***

نادرًا ما نستخدم في حديثنا اليومِيّ كلمةَ ”المَصرف“، فقد جرَت العادةُ بنا على أن نحكي عن البنكِ؛ محليًا كان أو أجنبيًا، والكلمةُ مستعملة في اللغات ذات الأصول اللاتينية؛ إذ البنوك نظام غربيُّ المنشأ، لا مشتقات عربية منها، وغالب الظنّ أنها ذاعت على الألسنة؛ كونها أخفَّ نطقًا وأسهل تداولًا.

***

تصاريفُ القَّدر أحداثٌ لا يرتبها الناسُ ولا يُسهمون فيها بنصيبٍ رئيس، كما لا يملكون تبديلها وتغييرها. إنها تقع بغضِّ النظر عن مدى استحكام الظروف ومبلغ تعقدها. تأتي الأقدار بما قد لا تدركه التوقُّعات ولا يُفصح عنه الأفق، يُعوِّل عليها المقهورون في تخفيفِ مُعاناتهم، ويتشبَّثون بإمكانات النجاةِ من حيث لا يَحتسب أحد.

***

من صُروفِ الدَّهر ونوائبه أن تقعَ حربٌ شرسةٌ على الحدود، وأن يستغيثَ الأهلُ والأشقاء من ويلاتها؛ فلا يُجيرهم أحدٌ ولا ينتفضُ من أجلِهم حكامُ العرب وملوكهم وأمراؤهم، إنما يَصُمُّون أسماعَهم ويغلقون أعينَهم ويشيحون بوجوههم بعيدًا؛ عسى أن ينتهيَ الأمر في سرعة، فلا يضطرون لاتخاذ إجراءاتٍ فاعلة، تضعهم في مُواجهاتٍ حقيقية مع مَصالحهم الآنية.

***

“الجيش بيقول اتصرف”. عبارة شهيرة نستخدمها كثيرًا، والقَّصد من ورائها أن يجدَ المرءُ حلًا لم يكن مطروحًا ولا مرئيًا. حلٌ لمشكلٍ يحتاج التدخُّل العاجل؛ لا تهمُّ الوسيلة إنما ما تسفر عنه. المَعنى فيه إيجابية ولا شك؛ لكن المُخاطَب قد يتصرَّف بطريقة تخلقُ أزمةً أكبر وأعمق، والحقُّ أن القولَ سديدٌ ما توجَّه لشخصٍ يعي ويَعقل، فإن توجَّه لأحمق؛ كان الحاصلُ سلبيًا.

***

تزايدت مصروفات الجامعات والمدارس بما ضاعف الأعباء على معظم الأسَر. على مدار الأعوام القليلة الفائتة، صادفت عددًا من الشُّبان الصِّغار؛ يحكي أهلوهم في بؤسٍ وسُخط أنهم اختاروا عدم إكمال الدراسة والنزول لسوقِ العمل؛ توفيرًا للوقت والجهد. ثلاثة من أربعة؛ قرَّروا أن يلتحقوا بأحد المَخابز، وأن تكون هذه المهنة مستقبلهم، وربما كان اختيارهم ذا دلالة؛ فقد درجنا على الحديث عن الخبز بصفتِه مُرادفًا للعيش، إن توفر كانت الحياة مُحتمَلة وإن شحّ انهارت.

***

يقول المثلُ الشعبي: “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب“، والمراد حَثٌّ على التمتُّع بالدنيا ومباهجها، وتخفيفٌ من مشاعر القلق التي قد تعتري الواحد إزاء مقدار ما يملِك، وما يمكن أن يكفيَه في المستقبل الغائم شرَّ الحاجة والسؤال. على كل حال؛ باتت أغلبُ الجُّيوب خاويةً ليس فيها ما يمكن إنفاقه، وأما الغيب فيلوح بناءً على المُعطيات مُضببًا قتيرًا.

***

حين تتعقد الأمور بسبب فعل غير مسئول من شخص أو آخر، استجلب الأذى دون داعٍ، يلومه الآخرون ويحملونه عبء التصرُّف قائلين: “اللي حضَّر العفريت يصرفه”. العفريت رمز للضرر الحاصل، وصرفه يعني إبعاد مصدر التهديد، والحقُّ أن القضاء عليه أوجب وأسلم.

***

برغم الحملات الإعلانية المكثفة التي تقوم بها بعض المصارف رغبة في جذب العملاء، وبرغم التسهيلات والمزايا التي تغري بها جماهير المتلقين، فإن الخدمة تبقى غير مرضية إلى حد بعيد. يزعم المَسؤولون الاهتمام بالمودعين؛ بينما المعاملات اليومية تثبت العكس، والتواصل الهاتفي لا يأتي بالنتيجة المرجوة، إنما يضيع الوقت ويهدر الجهد، أما الزيارة فتمنى بالفشل ما كان الزبون على عجالة من أمره، وكثيرًا ما يغادر المصرف حانقًا دون أن ينجز هدفه.

إقرأ على موقع 180  الهزيمة كمفهوم.. أزمة الوعي العربي

***

التصرُّفات العقارية ضريبة مقررة على البائع؛ نسبة يدفعها للدولة من إجمالي المبلغ الذي يتلقاه من الشاري. نشطت مصلحة الضرائب مؤخرًا في مُطالبة المواطنين بأداء هذه الضريبة التي تشكل حصيلة ضخمة، وحفّزتهم على تسجيل عقاراتهم عبر إحصاء المزايا التي ستعود عليهم؛ والحق أن كثير الناس يشعرون أنهم لا يتحصَّلون على خدمات حقيقية في المقابل، ويجدون في هذا السَّعي المَحموم لجباية الأموال منهم؛ مُبالغة غير مَحمودة ولا مُنصِفة.

***

بعضُ المرَّات تُصرَف للموظف مكافأةٌ، وفي مرَّات أخرى تُصرَف له سُلفة؛ وكلاهما من النوادر التي إن تمت بنجاح؛ استحقَّت الاحتفالَ واستقبال التهاني. على كل حال فإن المكافآت تذهب عادة لمن لا يستحق، أما السُّلف فتتطلب ضمانات عديدة، ومع الظَّرف الاقتصادي العصيب؛ يتعذر السَّداد وتتفاقم البلوى.

***

إذا احتدم الخلاف بين اثنين فربما استعان أحدهما بثالث قائلًا: “شُف لك صِرفة معاه”، والمراد أن يتدخل كي يقنعه، وينهي الخلاف. يُصبح حكامُ العرب ويُمسون وهم يدعون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية؛ كي يجد له “صرفة” مع مجرم الحرب الإسرائيلي، يكيلون لترامب المدائح ويعظمون شأنه؛ وكأنهم لا يعرفون كم يدعم حليفه ويساعده ويحميه ويوفر لأفعاله الغطاء الشرعي ويستعمل حق النقض ما اقتربت منه الإدانة. السياسة لعبة شيقة؛ لكنها تفقد جاذبيتها ما تلونت بالحمق والبلادة.

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  أوباما وسوريا.. "خط أحمر " وإستعصاء تاريخي (2)