صباح الغد: ماذا بعد الكورونا؟

لا تعلم "ناجين" ولا ابنتها "فاتو" متى بدأ ذلك الرّوتين المسائي المحبط، ولكنّهما كانتا تنخرطان فيه مع الآخرين مع غروب شمس كلّ يوم. كان الجميع يجتمعون ليطّلعوا، بقلوب مرتجفة، على الخطّ البياني لعدد ضحايا ذلك اليوم. وكما في كلّ مرّة، ومنذ زمن طويل، لم تكن هناك إلّا الأخبار السيّئة: الخسائر لا تتوقّف والخطّ البياني يكاد يصبح عموديّا مع الوقت. وبعد ليلة أخرى مليئة بالكوابيس، ينخرط الجميع في جهد سيزيفي لإيقاف النّزيف و"تسطيح المنحنى". ولكن لا شيء يتغيّر وتتواصل المأساة الّتي بدأت منذ أكثر من قرن.

كان يوم ١٩ آذار/مارس ٢٠١٨ يوما فارقا في حياة “ناجين” وابنتها “فاتو” وسيظلّ طعمه المرّ يلازم كلّ منهما إلى آخر حياتهما. كان عليهما يومها أن تواجها الخبر المشؤوم الّذي طالما أرعبهما شبحه: لقد مات رفيقهما المحبوب “سودان” ولم يبق على وجه الأرض من أفراد السّلالة غيرها. وبرغم أنّ مواقع الانترنت ما فتئت تتناقل من حين لآخر أخبارا مقتضبة ومتناقضة عن احتمال انبعاث ما في مختبرات البيولوجيين، فإنّ المسألة بالنّسبة إليهما قد طويت من يومها. اليوم، هما تنتظران بصمت، في محميّة أو آي بيجيتا الكينيّة، المصير المحتوم: بموتهما ستغرب شمس السّلالة، سلالة وحيد القرن الأبيض الشّمالي، إلى الأبد.

ليس مصير وحيد القرن الأبيض الشّمالي استثنائيّا، ففي كلّ عشرين دقيقة (تخيّلوا!)، هناك كائن حيّ من حيوان أو نبات يختفي نهائيّا من على وجه الأرض بعد أن عاش فوقها ملايين من الأعوام.

وللأسف، ليست الكائنات البيولوجيّة هي وحدها الّتي تندثر كلّ يوم، ولكن كذلك الكائنات الثّقافيّة كاللّغات والطّقوس وعادات الشّعوب. لا أدري كم يلزم من جيل لكي تولد لغة ويكتمل بهاؤها، ولكن في زمننا هذا تموت واحدة كلّ أسبوع!

من المسؤول عن تلك المذابح؟ لا سرّ في الأمر، فالقصّة قصّة موت معلن والقاتل معروف ويعلن عن نفسه من فوق السّطح. إنّه الإنسان، المفترس، الفائق الذّكاء، الّذي يلتهم كلّ شيءٍ من حوله. هو إنسان الرأسماليّة الجشعة والمهووسة باستنزاف الموارد ومراكمة الأرباح، إنسان التّنميط وسلعنة الثّقافة والقيم.

كلّ ذلك معروف ولا جديد تحت الشّمس، برغم أنّ انتشار الخراب بدأ يتسارع بشكل مرعب متسبّبا في أضرار قد تكون غير قابلة للإصلاح لآليّات كونيّة، كتوازن المناخ وتماسك طبقة الأوزون.

هناك فيروسات أخرى كانت ولا تزال تنهش جسد الإنسانيّة: فيروس الجوع، فيروس العطش، فيروس الأميّة والفيروسين الأخبث والأشدّ عارا عليها وهما الاحتلال والأبارتيد

أمّا الجديد، وهذا خبر السّاعة في كلّ أرجاء الأرض، فهو أنّ ذلك المفترس الكبير يتعرّض هاته الأيّام لهجوم كاسح من مفترس في منتهى الصّغر: فيروس كورونا.

الاسم الدّقيق الّذي اجترحه الإنسان، الكائن الوحيد الّذي يستطيع التّجريد وتسمية الأشياء، لذلك الكائن المجهري هو فيروس كورونا ٢٠١٩ (اختصارا كوفيد ـ١٩). أمّا هو، فلا يحفل بأي اسم تسمّى به وهو مبرمج لمهمّة وحيدة وهي التسلّل إلى خلايا الرّئة والتّعشيش فيها مسبّباً، في حالاته القصوى، متلازمة الشدّة التنفّسية الحادّة (acute respiratory distress syndrome)  الّتي يمكن أن تؤدّي إلى الموت.

لا شكّ أنّ تاريخ الإنسان مع الفيروسات من أمثال الكورونا طويل ومؤلم منذ وجوده على سطح الأرض. ولقد عانى من بطشها به في مرّات كثيرة، كما أنّه استعملها كذلك في حروبه ومشاريع سيطرته في مرّات أخرى. فكما تحالف الجدري مع المستعمرين البيض في إبادة الشـّعوب الأصليّة في أميركا، نرى دونالد ترامب هذه الأيّام يضيّق الحصار على الشّعب الإيراني مستغلّا ابتلاءه بالكوفيد-١٩. ولكن تبقى فضيلة الفيروس الصّغير على أبناء جلدتنا أنّه، على الأقلّ، قاتل غير عنصريّ لا يقتل على الهويّة أو لون البشرة.

تخوض كلّ الإنسانيّة الآن معركة شرسة ضدّ الكوفيد-١٩ ومهما تكن خسائرها فلا شكّ أنّها ستنتصر عليه في النّهاية، وسوف يكون لها غد جديد ومتجدّد. ولقد خيضت معارك كثيرة مشابهة من قبل أو في ظروف أشدّ قسوة وضدّ فيروسات أشدّ فتكا (الطّاعون الأسود مثالا)، وكان هناك انبعاث من جديد في كلّ مرّة. ولكن سيكون على الإنسانيّة إعادة تقييم مسارها ومساءلة خياراتها الاقتصاديّة والمجتمعيّة.

تنبّأ المنظّر الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي جاك آتالي في مقال نشره يوم ١٩ آذار/مارس الجاري أنّ هذه الجائحة “ستؤسّس لشرعيّات جديدة للسلطة قوامها التّعاطف مع الآخر والعودة إلى ما هو جوهري وتهيمن فيها قطاعات الصحّة والتّغذية والتّعليم والبيئة بالاستناد أكثر على شبكات كبيرة من الإنتاج وتوزيع الطاقة والمعلومات”. وختم مقاله بالتّأكيد “أن دورنا الآن يتمثل في جعل هذا الانتقال يمر بأقلّ الخسائر حتى لا نرث حقلا من الخراب”.

أعتقد أنّ المسألة يجب أن تكون أعمق من مجرّد إعادة انتشار لقطاعات الإنتاج. الإنسانيّة معنيّة بالتوجّه لآفاق جديدة عمقها التّصالح الحقيقي والحميمي مع الأرض ومن عليها. لا تحتاج الإنسانيّة إلى إعادة تدوير قوى الهيمنة في تعايش براغماتي مع الواقع الجديد، بل هي في حاجة لقطع حقيقي وجدّي مع نظريّات اقتصاديّة يكون فيها الاستهلاك المفرط دليل عافية ونهب مخزون الأرض تجارة واستثمار. هي ليست في حاجة للتّعاطف كمعطى انتظام مجتمعي ولكن كشعور بالأخوّة الحقيقيّة يترجم لسلوك تجاه إخوتنا في الإنسانيّة ونظرائنا في الخلق.

لن تكون هناك ولادة جديدة ما لم ينتبه العالم أخيراً أنّ هناك فيروسات أخرى كانت ولا تزال تنهش جسد الإنسانيّة: فيروس الجوع، فيروس العطش، فيروس الأميّة والفيروسين الأخبث والأشدّ عارا عليها وهما الاحتلال والأبارتيد.

إقرأ على موقع 180  بايدن لروسيا والصين.. لا تنازل عن عرش الأحادية الأميركية

ذكّرنا الكوفيد-١٩ مرّة أخرى أنّ مصائر البشر فوق هذا الكوكب مترابطة. ولا أدلّ على ذلك من أنّ سلسلة من المصافحات باليد بدأت في مدينة ووهان الصّينية انتهت بعد ثلاثة أشهر عند أمير الغال في قصره بالمملكة المتّحدة ومعها الفيروس الصّغير.

عالم الغد سيبدأ من يقيننا أنّ الأرض بيت صغير وأنّ أمن ساكنيه معقود بقدرتهم على التّعايش في تضامن وتعاون ومن إدراكنا كذلك أنّ مصيرنا مرتبط بمصير المخلوقات الأخرى على سطحه وفي مياهه: النحل في المروج والغابات، الدّببة في القطب الشّمالي، الضّفادع في الأمازون والحيتان في المحيطات.

قدّم الرّياضي وخبير الأرصاد إدوارد لويرنتز استعارته (ميتافور) الشّهيرة حول تأثير الفراشة لشرح نظريّة الفوضي (chaos theory): تحريك جناح فراشة في البرازيل يمكن أن يتسبب بحدوث إعصارٍ مدمّر في تكساس

علينا خلال فترة الحجر الصحّي، ونحن معتكفون في منازلنا، أن نتأمّل في كلّ هذا وأن نفكّر في واقعنا بعد الكوفيد-١٩. علينا أن نعيد تقييم نسق حياتنا وفلسفة استهلاكنا للموارد وأن نستبطن يقينا بأنّ هذا الكوكب الفريد ليس للنّهب والتّدمير بل هو ملك لأبنائه جميعا من المخلوقات بأجيالها الحاليّة والآتية.

على كلّ إنسان، وخصوصا من يعيش في الدّول الغنيّة، أن يدرك قبل أن يضغط على زرّ الطّباعة في مكتبه أنّ في الورق الأبيض الّذي يستهلكه حصصا لغيره: حصّة للشّجر وأليافه، وحصّة للأنهار الّتي ستتلوّث، وحصّة للأطفال الّذين منعهم الفقر والحرب من رسم أحلامهم، وحصص كثيرة أخرى.

وعليه، قبل أن يفتح حنفيّة الماء، أن يتذكّر أنّ للملايين الّذين يفتقرون للماء الصّالح للشّراب وللبدو في الصّحاري – الّذين يسافرون عشرات الأميال بحثا عن نبع ماء – نصيب منه كذلك.

في عام ١٩٧٢، قدّم الرّياضي وخبير الأرصاد إدوارد لويرنتز استعارته (ميتافور) الشّهيرة حول تأثير الفراشة لشرح نظريّة الفوضي (chaos theory): تحريك جناح فراشة في البرازيل يمكن أن يتسبب بحدوث إعصارٍ مدمّر في تكساس. وربّما ليس هناك من مثال لذلك أصدق من الفيروس المجهريّ الذي تحرّك في سوق شعبيّة بوسط الصّين الصّينيّة، فأحدث أعاصير في كلّ عواصم الدّنيا في أسابيع معدودة.

أعتقد أنّ المبدأ يعمل كذلك في الاتّجاه المعاكس للفوضى وربّما تكون خطوات بسيطة نمشيها بشكل فردي في اتّجاه تصالح حقيقي مع محيطنا صانعة في يوم قريب لإنسانيّة جديدة.

وأخيرا يجدر بنا ربّما التسّاؤل عمّا يمكن أن يقدّمه شرقنا العربي المسلم (بالمعنى الحضاري) في معركة إعادة تشكيل الوعي هذه؟ هذا مبحث طويل ولكن أعتقد أنّنا نملك إرثا روحيّا يساعد في بعض تمظهراته (أو من زوايا فهم معيّنة) على تجاوز السرديّة المادّية الطّاغية في العالم. ليست المسألة سهلة، ولكن أحيانا أتمنّى أن نتوقّف كمسلمين – بالتّصنيف الحضاري وليس الشّعائري أو حتّى الإيماني مرّة أخرى – عند الحديث النّبوي: “الخلق كلهم عيال اللّه وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله”، ونقرّر أن نكون أصدقاء نافعين لكلّ الخلق: البشر والحيوان والشّجر.

(*) أستاذ مادة الرياضيات بجامعة ليل، فرنسا

Print Friendly, PDF & Email
صاحبي الكرعاني

كاتب تونسي (القيروان)، بروفسور في الرياضيات، جامعة ليل ـ فرنسا

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  لي قلقي المضحك.. ولكم قلقكم