تتجلى أجواء التصعيد الجديدة في الشمال السوري بالهجوم الذي شنه الجيش التركي والفصائل الموالية له، أمس، على بلدة عين عيسى إثر عجزها عن التعامل مع استعصاء بلدة تل تمر، وكذلك برفع الجيش السوري لوتيرة عملياته العسكرية في جنوب إدلب. وتتراوح رسائل هذا التصعيد المتبادل بين جس النبض تمهيداً لرسم خريطة السيطرة النهائية، والتفاوض بالنار على بعض القضايا الخلافية التي ما زالت تحول دون تكريس التهدئة.
وتداخلت الخطوط بين جبهة إدلب وجبهة شرق الفرات بفعل التعقيدات الأخيرة، علماً بأنه منذ قرار الانسحاب الأميركي كانت قد برزت رغبة جماعية بالفصل بين هاتين الجبهتين. وسعى جميع الأطراف إلى التفرغ لجبهة شرق الفرات وتركيز الجهود على رسم معادلاتها الجديدة وتثبيت خرائط السيطرة فيها، غير أن تضارب المصالح والتعقيدات التي رافقت تنفيذ الاتفاقات الثنائية، دفعت على ما يبدو إلى إعادة تسخين جبهة إدلب في إطار تبادل الرسائل والضغوط.
تتراوح رسائل التصعيد بين جس النبض تمهيداً لرسم خريطة السيطرة النهائية، والتفاوض بالنار على بعض القضايا الخلافية
ومن الواضح أن العامل التركي هو السبب الرئيسي في التصعيد الأخير، إذ تتحرك أنقرة على وقع عدم رضاها عن اسلوب تنفيذ اتفاقياتها مع كل من موسكو وواشنطن، حيث تولد لديها شعور بأن التنفيذ لا يحقق مصالحها أو ما كانت تطمح لتحقيقه خاصة لجهة الانسحاب الكردي وشموليته من المناطق المتفق عليها. لكنها في الوقت ذاته تجد نفسها مقيدة بأحكام هذه الاتفاقات وأبعادها السياسية، لذلك تحاول إيجاد هامش للمناورة وممارسة الضغوط من دون الدفع نحو إنهاء الاتفاقات واللجوء إلى التصعيد الكبير.
وربما هذا ما يفسر أنه منذ إعلان تركيا تعليق عملية “نبع السلام” في 23 تشرين الثاني/نوفمبر، لم تلتزم بهذا التعليق واستمرت في سياسة الاستفزاز العسكري بدءاً من الاشتباكات في تل تمر وليس انتهاء بهجومها أمس على بلدة عين عيسى.
وإذا كانت هذه الاستفزازات تنطوي على رسالة تركية موجهة إلى روسيا في محاولة لتحسين بنود بعض الاتفاقات حول بعض المناطق وشروط تنفيذها، إلا أن الرسالة الأهم تركياً قد تكون موجهة إلى واشنطن وليس روسيا، لا سيما في ظل الشكوك التي تحيط بموقف قوات “قسد” من بعض الاتفاقات ورفضها العلني الالتزام بها.
وهناك من يرى أن تعثر الاتفاق حول تل تمر كان بسبب توجيهات أميركية مباشرة لقوات “قسد” لعدم الالتزام به بسبب ما يمكن أن يترتب عليه من تضييق على تحرك الأرتال الأميركية وبالتالي إيصال الدعم إلى قسد عبر طرق سهلة وآمنة.
تتحرك أنقرة على وقع عدم رضاها عن اسلوب تنفيذ اتفاقياتها مع كل من موسكو وواشنطن
ويبدو أن بلدة تمر بموقعها الاستراتيجي الكائن على تقاطع طرق رئيسية، وبتركيبتها الديمغرافية، اتسمت بحساسية عالية وتحولت إلى نقطة استعصاء عجزت القوات التركية والفصائل الموالية لها عن تجاوزها، لذلك انتقلت الضغوط التركية إلى جبهة عين عيسى التي تعتبر عاصمة الإدارة الذاتية الكردية.
وكشف الهجوم التركي على عين عيسى عن استمرار علاقة عدم الثقة بين قوات قسد من جهة وقوات الجيش السوري من جهة ثانية. وبرز ذلك من خلال الاتهامات التي وجهها إعلاميون تابعون لـ”قسد” إلى قوات الجيش السوري بأنها لم تواجه الهجوم التركي وسارعت إلى الانسحاب إلى قاعدة اللواء 93، وقد لعب المرصد السوري لحقوق الانسان على ذات الوتر ونقل معلومات بوجود تعليمات للقوات السورية بعدم الانخراط في أي مواجهة مع الجيش التركي.
ورغم أن هذه الاتهامات تتنافى مع الرواية الرسمية التي نشرتها وكالة “سانا” وتحدثت عن تصدي الجيش السوري للهجوم التركي، إلا أن هذا التناقض يكشف عن حقيقة أن التفاهمات الروسية والسورية المشتركة مع “قسد” لم تستطع حتى الآن منافسة النفوذ الأميركي على هذه القوات، وقدرته على توجيهها بما يخدم السياسة الأميركية ومصالحها.
ويرى بعض المراقبين أن الموقف الروسي من الاستفزازات التركية موقف رمادي غير حاسم، بمعنى أنه لا يمانع من ممارسة أنقرة ضغوطاً عسكرية على “قسد” لدفعها إلى الخروج من العباءة الأميركية والالتزام بما يتم التوافق عليه، ولكن من دون أن تؤدي هذه الاستفزازات إلى التلاعب بالخطوط الحمر لدى موسكو ودمشق، والتي يأتي الطريق الرئيسي (M4)على رأسها.
انطلاقاً من هذه النقطة، يمكن تفسير ما يقوم به الجيش السوري من تسخين لجبهات القتال في جنوب إدلب، وبالتالي تفسير عودة التداخل إلى الخطوط بين إدلب وشرق الفرات في قطيعة مع سياسة الفصل بينهما، فقد أصبحت إدلب هي الجبهة الوحيدة القادرة على نقل الرسائل التي تعبر عن حقيقة الموقفين الروسي والسوري، وذلك بعدما تبيّن أن أي تصعيد من قبلهما في شرق الفرات سواء لمواجهة أنقرة أو للضغط على “قسد” يمكن أن يُفسَّر على أنه إما تماهٍ مع التوجهات الأميركية أو بالعكس على أنه تماهٍ مع التوجهات التركية، وهو ما لا تريده موسكو ولا دمشق.
لا ينفي ذلك أن تقدم الجيش السوري إلى بعض النقاط في جنوب إدلب، إنما يأتي أيضاً ضمن السياق العام للاستراتيجية السورية التي تقوم على قاعدة مكافحة الارهاب واستعادة أي شبر من الأراضي السورية، مع إمكانية توظيفه في ذات الوقت لوضع رسائل في صندوق بريد أنقرة لتذكيرها بالخطوط الحمر في شرق الفرات.
وقد لا يقتصر التصعيد في إطار تبادل الرسائل على الجبهات العسكرية فقط، إذ من المتوقع أن تشهد الجولة الثانية من اجتماعات اللجنة الدستورية المصغرة التي تعقد اليوم في جنيف، ارتفاعاً في حرارة النقاشات وسط تسريبات عن تحضير كل من وفد المعارضة ووفد الموالاة أوراقاً متباينة لوضعها على طاولة النقاش.