إنها الثامنة صباحاً في وسط العاصمة دمشق. شعار “خليك بالبيت” قد يسري على كثر إلا الأطباء. ثمة حالة استنفار معلنة في مختلف المشافي. لا فرق بين تخصص وآخر. الجميع بات متأهباً. قد يأتي المريض من تلقاء نفسه، لعارض صحي بسيط أو متوسط او حتى شديد، وقد تتكفل سيارات الاسعاف بنقله من مستوصف أو مركز خارج المدينة، غير أن النتيجة واحدة.. فريق طبي ينتظره عند أبواب أقسام الطوارئ وثمة جهد مضاعف يحدث هنا. الإجراءات أكثر من مشددة، وأخذ الاحتياطات من قبل الأطباء مطلوب منهم قبل غيرهم، ولكن ماذا عن محيط المريض وذويه؟ هلع الإصابة يدفع جزءاً من عائلته إلى مرافقته في كثير من الحالات، أي أن مزيداً من التوتر ينتشر في ردهات سيارات الإسعاف وممرات أقسام المشافي، لا سيما حين لا يرتدي البعض الكمامات.. يحدث كل هذا في انتظار استكمال إجراءات التصوير والتحاليل المخبرية. هنا يتبادل الفريق النظرات والأسئلة؟ هل ننتظر الإعلان عن اصابة جديدة؟ ربما تكون هذه هي اللحظات الاصعب، لو تقرر ابلاغ المريض (أو ذويه) أنه مصاب وعليه سيتم عزله وبدء العلاج. لعل حالات مثل النزيف الدماغي أو حوادث السير أو حتى توقف القلب، باتت أهون بكثير من هذا المرض. سرعان ما ستكشف الصور الشعاعية علامات التهاب رئوي حاد.. تتسارع خطوات الاستقبال وأخذ عينات للتحليل وتبدأ عملية عزل عوائل المرضى، لتتزايد وتتشعب أسئلة محيطهم التي تبدأ ولا تنتهي. هنا يتدخل فريق آخر مخصص للعزل في داخل الأجنحة التي تفرغت بشكل شبه كلي لاستقبال مرضى “كوفيد 19”. فيما تتأهب مجموعة الإسعاف لاستقبال مريض جديد من دون إهمال عائلات المصابين المقيمة إحتياطا في الحجر الصحي لمدة أسبوعين.
حتى الآن، يمكن القول إن الامور ما زالت تحت السيطرة ولكن هاجس وصول المزيد من الإصابات وإرتفاع الأرقام، يثير الذعر في قلوب الجميع. الخوف من لحظة مشابهة لما يجري في بلدان أخرى. صحيح أن المشافي قادرة حتى اللحظة على الاستيعاب، ولكن الاحتمال الأسوأ يبقى قائماً.
ينتصف النهار ثم يحل المساء سريعاً. لا يعني حظر التجوال شيئاً بالنسبة للأطباء والعاملين في القطاع الصحي. يمر الوقت وتتراجع تدريجياً كمية الأدرينالين في أجساد الفريق المناوب، قبل أن تعود وتبلغ الذروة مجدداً سواء مع وصول حالة جديدة أو إعلان تسجيل إصابات جديدة أو حالة وفاة. تتكاثر الأسئلة والحالات المرضية معاً. هل نقل هذا المريض العدوى فعلاً لمحيطه؟ ماذا عنا نحن؟ هل إلتقطنا شيئا من رذاذ المريض أو ممن كانوا معه، وهل يحتمل أن تصاب أجهزتنا التنفسية في عز الانشغال بالمرضى وتدبيرهم؟ هل أصبنا بالفعل وقضى جهاز المناعة على الفيروس أم أن أياماً صعبة تنتظرنا؟
تتشابك كل هذه الأسئلة قبل أن تعود وتهدأ مع خلع الأقنعة أخيراً إيذانا بانتهاء أربع وعشرين ساعة من العمل واستعداد فريق جديد لبدء مهامه في مختلف الأقسام.
لا تقل رحلة العودة إلى المنازل خطورة عن العمل في المشافي. لا أحد يريد الحديث عما يجري. يريد الجميع نسيان ما جرى علّهم يخرجون قليلاً من حالة التوتر المتواصلة طيلة اليوم، ولكن سلسلة مشاهد تعيد كل شيء إلى الواجهة، بدءاً من ازدحام الناس في الشوارع والأسواق. المشهد في الحالة العادية لا نبالي به.. لكن الازدحام هنا، يعني خطورة انتشار الاصابة ويعني مزيداً من القلق سيعيشه الفريق الطبي.
ينتهي بنا الأمر، يومياً، بالوصول إلى البيت. الحديث عن المنزل يبدو مجازاً بالنسبة لمن قرر ألا يلتقي بأفراد أسرته طيلة فترة انتشار كورونا، أو قرر نقل أفراد عائلته إلى مكان آمن (الأرياف مثلاً) فأصبح منزله مهجوراً، قبل أن تتشابك الأسئلة مجدداً: هل أصابني الوباء وهل نقلت العدوى لأحد؟ ماذا عن المسنين والصغار هنا وهناك؟ هل ثمة حاجة لاستراحة طويلة الأمد للتخلص من عناء التفكير والمرض والعدوى معاً؟
ربما يكون ذلك مفيداً، ولكن حالة الاستنفار الطبي لا تسمح لهؤلاء بأكثر من إستراحة ساعات ترتفع بعدها مستويات الادرينالين من جديد.