كل ما قيل عن جبهة سياسية قيد التبلور وظيفتها إسقاط حكومة حسان دياب، لا يتعدى التنظير السياسي، حتى الآن. حتى لا يطول الشرح، فإن سعد الحريري، أشبه بالغريق في هذه الأيام. أقصى طموحه هو لملمة بيته الداخلي وهاتِ أن ينجح في ترتيبه. الواقع السني أفلت من يديه، ولا سيما في العاصمة بيروت. تتعدى المسألة قدرة شقيقه بهاء على منافسته، أو قدرة آخرين على الحرتقة. بألطف تعبير، يصح القول إن الحريرية، بمعناها المألوف لبنانياً منذ ثلاثة عقود ونيف من الزمن، توشك على الأفول. تستطيع عناصر وشروط وظروف معينة إعادة تعويمها، لكن لا الكاريزما موجودة ولا الخبرة ولا القدرة ولا المال ولا حافظ الأسد ولا فهد بن عبد العزيز ولا إلياس هراوي أو من يوازيه.
أما وليد جنبلاط، فها هو يحاول أن يستخدم صلاحية زمنه وقدراته وكاريزماتيته بمفعول مستقبلي، علّه يستطيع أن يعوّض نقص وريثه تيمور ويحد من الخسائر المحسوبة، ليس في البيت وحسب، بل في الزعامة الدرزية وأدوارها وتوازناتها. قلق جنبلاطي مجبول بفيروس ليس مسموحاً له أن يلامس شطآن الجبل والمعاقل الدرزية. تكفينا الديموغرافيا القاتلة، فلماذا نشرّع أبوابنا للموت الأسود، سواء أتى عن طريق كورونا أو حسابات سياسية خاطئة؟ قالها جنبلاط للجميع: لا أخذل نبيه بري حليفي التاريخي ولا أعادي حزب الله.. عدا ذلك، تبقى أبواب الإجتهاد مفتوحة، وليكن العمل “على القطعة”.
سمير جعجع حساباته مختلفة عن الحريري وجنبلاط. بينه وبين الأول جبال وسهول وبحار ومحيطات وأزمة ثقة مفتوحة بالإتجاهين. ما أعطاه 17 تشرين/أكتوبر لجعجع لم تعطه له 14 آذار/مارس لا في عزها ولا في زمن أفولها. الدليل محاولة الإنتساب المتأخرة من قيادة التيار الوطني الحر إلى 17 تشرين (جوهر مؤتمر باسيل اليوم).
العونية التي بُنيت مدماكاً تلو مدماك، طيلة ثلاثين سنة، سرعان ما تحولت، في غضون أشهر قليلة، من ظاهرة شعبية جارفة إلى ظاهرة حزبية محدودة. أية عودة قواتية إلى التموضعات السابقة، ستضيف لرصيد الآخرين، لكن حتماً ليس لرصيد القوات. لا بأس بالتموضع الضبابي. حتى عندما إستضافت معراب مؤخراً موفدين جنبلاطيين، لم يغب عن بالها أن جنبلاط “فاتح بازار”، فإذا أخذ من حسان دياب مرشحه لقيادة الشرطة القضائية، لن نستغرب رؤيته في اليوم التالي في السراي الكبير. هذا دليل إضافي لفقدان الثقة بين أبرز مكونات 14 آذار/مارس، فكيف الحال بين الحريري وجنبلاط؟
جاءت ملامح الفوضى بمثابة بدل عن ضائع. فوضى سياسية ومالية ونقدية. غريب أمر هذا اللبنان. كيف أمكن له أن لا يسقط في إمتحان كورونا، وها هو يسقط في إمتحان الدولار والليرة ورغيف الخبز؟
في اللحظات الوطنية، يتحمل القادة مسؤولياتهم ويتخلون عن الصغائر. في لحظة كورونا، ولبنان كله في حرب مع هذا العدو الوبائي، إفتقدنا للمناعة الوطنية. في لحظة الإنهيار الإقتصادي والمالي، وبدل أن يتوحد اللبنانيون، حماية لإستقرارهم ومستقبلهم، وحتى لا يستعيدوا صوراً سوداء لم ينشف حبرها بعد، كان الإنقسام سمة تعاملهم مع الأزمة. الإستثمار لحسابات طائفية أو سياسية أو حزبية أو شخصية.
هل هناك من أسرّ في أذن حسان دياب بأن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم؟
هجم الرجل على رياض سلامة حاكم المصرف المركزي. حاول الأخير مراراً طلب موعد منه ولم يأته الجواب. تدخل “أصدقاء مشتركون”، وعندما جاء إلى السراي الكبير، قبل خمسة أيام، سأله دياب ما هي كلفة تدخلك في الأسواق شهرياً لحماية الليرة؟ أجابه سلامة بأنها قد تصل إلى حدود 80 مليون دولار. قال له دياب يعني أن الكلفة السنوية لن تتجاوز المليار دولار. أجابه بالإيجاب، فقال له دياب: تدخل في هذه الحالة. نحن وفّرنا عليك بالتعثر عن دفع اليوروبوند وبتوفير مبالغ أخرى، حوالي خمسة مليارات. أجابه سلامة أنه لا يوجد “كاش” في مصرف لبنان يكفي لأكثر من تغطية الأساسيات. طلب منه أن يأتي بـ”الكاش” من الخارج، فأجابه أن الأميركيين لا يقبلون معنا بذلك، ويمكنهم أن يضعونا، إذا فعلنا ذلك، في خانة تمويل الإرهاب أو تبييض الأموال، وأنت تعرف أن عينهم مفتوحة على حزب الله في هذه الأيام.
أدرك حسان دياب أن في الأمر “قطبة سياسية” وليس فقط محاذير نقدية. قرر الإنتقال من الدفاع إلى الهجوم. لم تكن زيارة وزارة الدفاع وخطابه هناك إلا في هذا السياق. أكمل المهمة في اليوم التالي بزيارة مقر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. الخطوة الثالثة زيارة يفترض أن يقوم بها إلى مقر المديرية العامة للأمن العام. جوابه للذين يريدون تنفيذ “الإنقلاب” بأنه مستعد هو أيضاً لـ”إنقلاب” من نوع آخر. لا أحد يستطيع التنبؤ بردات فعل حسان دياب ولا بحساباته. لا طائفة تمشي خلفه ولا مشروع وطنياً يدعمه ولا حزب سياسياً يرفعه على الراحات. حساباته بسيطة للغاية. تجريبي فقط لا غير.
مهما بلغ التحشيد، لن توافق قيادة الجيش على وضعها في مواجهة الناس. أصلاً ثمة مشكلة لا أحد يتحدث عنها. معنويات الضباط والعسكريين “في الأرض”، بسبب إنهيار سعر صرف الليرة. الضابط الذي يقبض أكثر من خمسة ملايين (حوالي 3500$) صار راتبه يوازي ألف دولار. العسكري الذي يقبض مليون ليرة صار راتبه يوازي 200$
ماذا بعد؟
بقراءة نص جدول الأعمال الموزع على الوزراء لإقراره في جلسة الثلاثاء المقبل في السراي الكبير، يتبين أن الرجل يمضي وبأسرع مما يتوقع كثيرون، في “المعركة”. تحديد الحسابات التي أجريت منها تحويلات مالية وإتخاذ إجراءات بحق أصحابها وإسترداد اموال تم تحويلها إلى الخارج بعد 17 تشرين/أكتوبر وإستعادة الأموال المنهوبة. جدول أعمال من ثلاثة أسطر يضعه في مواجهة ضارية مع “الدولة العميقة”، فهل هو قادر على المضي بها ومن سيربح في النهاية؟
بخلاف رسائل التطمين التي ينقلها دميانوس قطار من بكركي إلى رئاسة الوزراء، كان موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي متوقعاً إلا عند قطّار نفسه: “الاستهداف الطاعن بكرامة حاكم مصرف لبنان والمؤسسة التي لم تعرف مثله منذ انشائها غير مقبول وفيما كنا ننتظر من رئيس الحكومة خطة الإصلاح والمحاسبة، إذ بنا نفاجأ بحكم مبرم حيال رياض سلامة”.
في ضوء هذا الموقف العالي السقف الصادر عن البطريركية المارونية، هل يستطيع دياب أن يتحصن فقط خلف موقف جبران باسيل والعهد (ثمة تطابق في المصطلحات بينه وبين باسيل) حتى يمضي في معركته ضد رياض سلامة، وماذا عن بيئته كرئيس للحكومة، وهل يمكن للأمور أن تتخذ منحى مختلفاً.. وهل يمكن أن يكون الشارع هو المخرج للجميع؟
خلال الأسابيع الثلاثة المقبلة، سنكون أمام عدد من التحديات والمخاطر والمخاوف يمكن إيجازها على الشكل الآتي:
أولاً، خطر إنفلات جنوني لسعر صرف الدولار الأميركي، وملامسة سقوف لم تكن موجودة من ضمن كل التقديرات التي قيلت حتى الآن. وهذا ما سيضع الناس في الشارع بمعزل عن إجراءات كورونا. طبيعة النزول إلى الشارع ستكون مختلفة عن 17 تشرين. ما حصل في صيدا في الساعات الأخيرة، قد يتكرر ولو بأشكال عنفية مختلفة.
ثانياً، مهما بلغ التحشيد، لن توافق قيادة الجيش على وضعها في مواجهة الناس. أصلاً ثمة مشكلة لا أحد يتحدث عنها. معنويات الضباط والعسكريين “في الأرض”، بسبب إنهيار سعر صرف الليرة. الضابط الذي يقبض أكثر من خمسة ملايين (حوالي 3500$) صار راتبه يوازي ألف دولار. العسكري الذي يقبض مليون ليرة صار راتبه يوازي 200$.. والحبل عالجرار. سؤال المؤسسة العسكرية مطروح ولا جواب عليه.
ثالثاً، تتجه الحكومة إلى تخفيف تدريجي لإجراءات العزل والحماية بدءاً من العاشر من أيار/مايو المقبل، وهذا الواقع سيشجع الناس أكثر على النزول إلى الشارع، برغم التقديرات التي تشي بأن الناس ستكسر الحظر، قبل بدء موسم التنزيلات الحكومية!
رابعاً، وهنا الأخطر، ينتظر أن يتزامن تخفيف الإجراءات مع صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في منتصف أيار/مايو المقبل، ووهو سيتضمن إتهاماً رسمياً صريحاً إلى قيادات وعناصر في حزب الله بإرتكاب جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري. السؤال، كيف سيتعامل الشارع السني مع هذا الحدث؟ وهل يكون مقدمة لإعادة رسم خطوط التماس السنية ـ الشيعية التي غابت صورها في السنوات الأخيرة (قصقص والطريق الجديدة والمزرعة في العاصمة.. والبقاع الأوسط وصيدا وساحل اقليم الخروب إلخ)؟
خامساً، هل ثمة مخاوف من تسلل إستخباراتي من خرم إبرة الفوضى المحتملة، لتنفيذ إغتيالات تهدد السلم الأهلي في هذه المرحلة الضبابية من تاريخ لبنان؟
سادساً، هل يمكن لـ”المعركة بين الحروب” المفتوحة بين حزب الله وإسرائيل على أرض سوريا تحديداً، أن تتدحرج إلى حيث لا يريد الطرفان، خصوصا وأننا أمام خيار حكومة وحدة وطنية في إسرائيل، معه يرتفع منسوب المخاوف، فكيف إذا كان الطرفان الأميركي والإيراني يريدان إختبار خياراتهما، في ميادين المنطقة وبحارها في الفترة الممتدة من الآن وحتى خريف العام 2020؟
مجرد أسئلة ومخاوف. لننتظر ما سيأتي به أيار/ مايو. على الأرجح، سيكون شهراً كالح السواد!