تكوّن إنطباع لدى أوساط متابعة للملف اللبناني في باريس مفاده ان فرنسا بدأت بصمت وبهدوء ومن دون ضوضاء تنفيذ “عقوبات سياسية على البارد” بحق كل من عرقل العملية السياسية والاصلاحية التي نصت عليها مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون التي اطلقها الصيف الماضي، وهذه “العقوبات” قد تكون أفعل وأوجع من الاكتفاء باتخاذ عدد من الاجراءات الادارية أو المالية بحق المعرقلين.
صحيح أن زيارة قائد الجيش اللبناني الى باريس والالتفاتة المميزة وغير المعتادة من خلال خصه باستقبال في قصر الإليزيه حملت “رسالة” واضحة لكل المعنيين، الا ان هذا السلوك الفرنسي الجديد بدأ مع الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الفرنسي جان-ايف لودريان الى بيروت و”الاشارات السياسية” التي حملتها شكلاً ومضموناً.
ما هي ظروف واجواء زيارة جوزف عون الى العاصمة الفرنسية؟
أولاً، تكمن أهمية هذه الزيارة في توقيتها وبرنامجها الحافل عسكرياً (رئاسة الأركان) وسياسياً (وزارة الدفاع) ونوعية المحادثات الصريحة والمُعمقة التي تضمنتها.
ثانياً، تواصل القيادتين العسكريتين الفرنسية واللبنانية ليس بجديد والتعاون بينهما مستمر الا انه أخذ دفعاً جديداً تعبيراً عن تمسك فرنسا بالمؤسسة العسكرية اللبنانية وتقديرها لنهج قائدها في هذه الظروف الصعبة والحرجة التي يجتازها لبنان.
ثالثاً، الموقف الفرنسي الداعم للمؤسسة العسكرية اللبنانية ليس منعزلاً بل يأتي من ضمن قناعة أوروبية وأميركية في ضرورة تدعيم “الحصن الاساسي” لحماية الاستقرار في لبنان.
رابعاً، “الرسالة الابرز” جاءت عبر مبادرة ماكرون استقبال قائد الجيش في قصر الاليزيه. هنا تتوقف الاوساط عند ظروف اللقاء الذي يعتبر سابقة لافتة للإنتباه. فالجدول الرسمي الاسبوعي لنشاط الرئاسة الفرنسية لم يلحظ هذا اللقاء ذلك ان هذا الجدول كان حافلاً لجهة وجود الرئيس الفرنسي معظم وقته خارج الاراضي الفرنسية من بروكسيل لحضور القمة الاوروبية ثم السفر الى راوندا ومنها الى افريقيا الجنوبية بشكل لم يبق له سوى يوم واحد لنشاطاته الفرنسية الداخلية المتعددة من انعقاد مجلس الدفاع الى الجلسة الاسبوعية لمجلس الوزراء الى اجتماع وزاري موسع مخصص لمتابعة الوضع الصحي واللقاحات للتصدي لوباء كورونا. وبالرغم من كل هذه الانشغالات وجد ماكرون متسعاً من الوقت لتنظيم إستقبال مميز للعماد جوزف عون.
تسارع الاوساط الفرنسية الى التوضيح ان “لا رهانات في غير محلها” و”لا دلالات سياسية رئاسية خفية” تهدف الى ابراز شخص قائد الجيش كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية، ذلك ان ما يهم باريس هو “المؤسسة” وليس “الأشخاص” برغم اهمية أدوارهم
خامساً، ابرز ما في مضمون الرسالة الفرنسية الرئاسية:
-إصرار فرنسا على اعتبار الجيش بقيادته الحالية صمّام أمان للبنان وحصناً منيعاً لحماية الإستقرار في هذا الوقت الصعب من تاريخ لبنان.
-التأكيد على الوقوف الدائم والمستمر الى جانب المؤسسة العسكرية واستمرار مدها بالدعم اللازم والعمل على تفعيله في شتى المجالات وذلك في ظل التجاذبات السياسية القائمة التي لا تراعي حساسية المرحلة البالغة الدقة التي يمر فيها لبنان.
-التعويل على مهام الجيش في هذه المرحلة بالذات، ذلك ان المؤسسة العسكرية تمثّل العنصر الأساسي للاستقرار اللبناني، كونها ملتزمة اعلاء مصلحة الوطن على اي مصالح سياسية وفئوية وطائفية ضيقة.
-استعداد فرنسا للعب دور ناشط في سبيل تأمين التعبئة الدولية لعقد مؤتمر دولي اقترحه العماد عون من اجل تامين المساعدات الملحة لدعم الجيش اللبناني وتمكينه من الاستمرار في القيام بمهامه العديدة، اضافة الى كيفية توفير سبل دعم العسكريين لتجاوز الوضع الاقتصادي الدقيق.
سادساً، حرصاً منها على قطع الطريق على كل التأويلات حول الأبعاد “الرئاسية” لهذا التعامل الفرنسي مع زيارة قائد الجيش، تسارع الاوساط الفرنسية الى التوضيح ان “لا رهانات في غير محلها” و”لا دلالات سياسية رئاسية خفية” تهدف الى ابراز شخص قائد الجيش كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية، ذلك ان ما يهم باريس هو “المؤسسة” وليس “الأشخاص” برغم اهمية أدوارهم، اضافة الى انطلاقها من اعتبارات عدة منها:
-الوقت لا يزال مبكرا للحديث عن الانتخابات الرئاسية المقبلة وان الامور مرهونة باوقاتها في ظل متغيرات دولية واقليمية وظروف داخلية معقدة قابلة للتطور.
-حرص فرنسا على عدم التدخل في استحقاق داخلي يجب ابعاده عن التجاذبات الخارجية.
-هناك اولوية ملحة تتمثل في انقاذ لبنان اليوم وقبل الغد من الانهيار الكامل والحؤول دون وقوع فوضى عارمة نتيجة استفحال الازمة الاجتماعية بفعل تدهور الاوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية.
لوحت هذه الاوساط الى ان باريس تمتلك، الى جانب التدابير الادارية والاجراءات المالية، الكثير من الاوراق السياسية التي تحتفظ بها، أكان على الصعيد الفرنسي او الاوروبي او الدولي
إشارات لودريان.. بداية مسار فرنسي جديد
على صعيد آخر، رأت هذه الاوساط ان هذه الرسالة الرئاسية الفرنسية في اتجاه قيادة الجيش اللبناني ليست منعزلة بل تعتبر امتداداً لمسار فرنسي جديد افتتحه وزير الخارجية جان-ايف لودريان في زيارته الاخيرة الى بيروت، فاكتفاء رئيس الديبلوماسية بزيارة “بروتوكولية” الى الرئيس ميشال عون، والاكتفاء باستقبال رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري في قصر الصنوبر “بناء على إلحاحه وتوسطه لدى أكثر من جهة خارجية”، وزيارة رئيس مجلس النواب نبيه بري دون الاتصال بحزب الله، وعدم زيارة بكركي ولا لقاء البطريرك الماروني بشارة الراعي، كل هذه الخطوات شكّلت “إشارات سياسية عقابية” تعمد لودريان توجيهها، وهي تندرج في اطار مسار فرنسي ارادي جديد لنوعية التعامل مع الفرقاء اللبنانيين المعنيين ويأخذ في الاعتبار كيفية تصرف هؤلاء فعلاً لا قولاً مع متطلبات المبادرة الفرنسية.
ولوحت هذه الاوساط الى ان باريس تمتلك، الى جانب التدابير الادارية والاجراءات المالية، الكثير من الاوراق السياسية التي تحتفظ بها، أكان على الصعيد الفرنسي او الاوروبي او الدولي. ومن بين هذه الاوراق موقفها من الفصل بين الجناحين السياسي والعسكري لـ”حزب الله” ومشاركتها في القوة الدولية العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل) او غيرها من الاوراق ذات الاهمية الحيوية.
وقد تلقت هذه الاوساط بكثير من الاستهزاء بعض التعليقات اللبنانية حول ما سمته “فشل لودريان وخسارة رهان ماكرون”، ورأت في هذه المواقف “دليل خفة وعدم جدية وتهرب من تحمل المسؤولية وتضييع الفرص”.
وهنا اشارت هذه الاوساط وبمرارة الى ان السودان ودول افريقية اخرى عرفت كيف تستفيد من الدعم الفرنسي حيث بادرت باريس الى استضافة مؤتمرين دوليين لحشد الدعم لهذه الدول وتوفير المساعدات الدولية لها في وقت لا يزال الفرقاء السياسيون اللبنانيون منهمكين بنكدهم وبمنافعهم الشخصية الضيقة على حساب شعبهم ومصلحة وطنهم العليا.
تنهي هذه الاوساط مشددة على ان فرنسا، المصابة “بحالة من القرف والخيبة” من الطبقة السياسية اللبنانية، لا تزال متمسكة بـ”علاقات الصداقة المميزة مع الشعب اللبناني”، وترى ان الاولوية هي ضرورة العمل على كيفية توفير الدعم الانساني المباشر والملح لفئات المجتمع الأكثر حاجة وعوزاً، وفي خط مواز، تأمين المساعدات للقوى الامنية اللبنانية وفي مقدمها الجيش اللبناني حرصاً منها على صيانة الاستقرار وهو الثروة الاخيرة الحيوية للبنان.