بعد تماثله للشفاء، نشر جون برسيفال حكايته مع المرض، وغرقه لساعاتٍ طويلة في بحر الهذيان؛ فبالنسبة إليه، كان يشكّل تعميم تجربته جزءاً من المهمّة التي أخذها على عاتقه، بعد فراره من المصحّة: الدفاع عن حقوق المرضى الذهانيّين، وتغيير سُبل التعامل السيّئ معهم (الذي دفعه للفرار). وفي هذه الحكاية، يجزم برسيفال أنّه كان يسمع، في عزلة “منفاه”، أصواتاً تصرخ داخل رأسه وتطلب منه أموراً لينفّذها، فيطيع باستسلامٍ تام، مثلما يفعل أيّ إنسان يعيش حالة استلاب.
لكنّ برسيفال، كما يروي، كان يحسّ بألمٍ جسديّ حقيقي، عندما كان “الصوت” يكتسب نطقاً معيّناً ويناديه؛ إذْ كان يتحوّل، عندئذٍ، إلى لغةٍ مؤلمة تزداد حدّة ألمها، تدريجيّاً، ما يجعله يخطئ في سماع بعض الجُمل، فينطق بكلماتٍ مبهمة أو محرَّفة، شأنه شأن سائر الذهانيّين. وما يحصل مع هؤلاء، للإشارة، يحصل كذلك لدى أُناس عاديّين سليمي العقل عندما يخطئون، نتيجة شرودٍ ذهنيٍّ خاطف، فيزلّ لسان أحدهم، ويخلط آخر، بين ما هو مجازيّ وما هو حرفيّ في الكلام. ما مناسبة الحديث عن الفصام والهذيان وزلاّت اللسان؟
لا أعرف لماذا وأنا أقرأ عن الفصاميّ جون برسيفال، كانت تمرّ في ذهني صور شخصيّاتٍ سياسيّة لبنانيّة (وغير لبنانيّة)، ولا سيّما متى وُجِدت هذه الشخصيّات في وضعيّات التكلّم والتصريح والخطابة. فكنتُ أبتسم، وأحياناً أخاف؛ إذْ كنتُ ألاحظ، كم إنّ الشَبَه كبير، بين لغة هؤلاء السياسيّين وبين هذيان برسيفال، فأسأل نفسي عمّا إذا كان “الهذر الفصاميّ” الذي يخرج من أفواه سياسيّينا، يرقى إلى مستوى الخطاب السياسي، في الشكل أو المضمون أو الأسلوب؟!
لا يعبِّر خطاب مَنْ يسوس لبنان عن محتوى، بقدْر ما يعبِّر عن خواء، فكيف لنا، والحال هذه، تصنيف الصادرِ عنهم من كلام؟ إنّها لَمعضلة موصوفة
صحيحٌ أنّ تدنّي أسلوب الخطاب السياسي أضحى آفةً عالميّة لافتة، ولا سيّما مع صعود الزعماء الشعبويّين في أميركا وأوروبا، إلاّ أنّ هذه الظاهرة تصبح أكثر حساسيّة وأشدّ خطورة، في الدول التي شهدت (وتشهد) حروباً أهليّة، كحال لبنان، مثلاً، حيث تتدحرج فيه لغة التخاطب باتّجاه انحدارٍ سحيق، لا قعرَ له. فلقد بنى السّاسة اللبنانيّون وأسّسوا حالةً تاريخيّة خاصّة وفريدة في المشهد العامّ، بحيث بلغ السلوك الإنقسامي في خطابهم حدّ التعفّن. إنّها لَمهمّةٌ صعبة، في الحقيقة، أن يحاول المرء أن يقرأ في المشهد السياسي اللبناني أو يقاربه، لكنّ المهمّة الأصعب هي، عندما يحاول الباحث (في علم الخطاب) أن يكتب عن الخطاب السياسي في لبنان أو يؤطِّره. فتقصّي اللغة، بحثاً عن عباراتٍ لائقة لتوصيف هذا الخطاب، هو مكابدة شاقّة؛ إذْ لا يعبِّر خطاب مَنْ يسوس لبنان عن محتوى، بقدْر ما يعبِّر عن خواء، فكيف لنا، والحال هذه، تصنيف الصادرِ عنهم من كلام؟ إنّها لَمعضلة موصوفة. يُجمِع علماء الاجتماع والسياسة والاتصال على الدور المركزي الذي يلعبه الخطاب السياسي (والديني)، على كافّة الصُعد، عندما تعصف اللحظات العصيبة بتاريخ الأمم، بخاصّة في توجيه سلوكيّات الجماهير. فأيّ دورٍ لخطاب سياسيّينا، في أيّام لبنان القاتمة؟
عندما ترتفع دعوات التغيير والإصلاح في مجتمعٍ ما، بحدّة، فإنّ ذلك يعني، أنّ النظام السائد في هذا المجتمع قد وصل إلى درجةٍ كبيرة من العجز عن أداء وظائفه الأساسيّة، ولم يعد قادراً، بالتالي، على حلّ تناقضاته الداخليّة والتحدّيات الخارجيّة التي تواجهه. ومن مظاهر هذا العجز، أن يفقد الخطاب المعبِّر عن هذا النظام كلّ مصداقيته وقدرته على التأثير، حتى بين الشرائح الاجتماعيّة التي ترتبط مصالحها بسيادة هذا الخطاب واستمراريّة الأوضاع القائمة. حصل هذا في لبنان. ففقدت السلطة مصداقيتها (منذ زمن طويل؟)، وصار خطابها مجرّد هذيانٍ فصاميٍّ على الطريقة البرسيفاليّة (نسبةً إلى صديقنا البريطاني برسيفال).
وهذا ما تُرجِم، فعليّاً وعمليّاً، في انتفاضات وعاميّات الساحات اللبنانيّة، عندما انطلقت احتفاليّة غضب الـ”هيلا هيلا هو” في 17 تشرين الأول/أكتوبر. فلقد حطّمت هتافات الثائرين وخطاب الشتيمة، كلّ سقوف العلاقة بين السلطة والمواطن، والأخطر، أنّها نكّلت بصورة أركان المنظومة الحاكمة وهيبتهم وسطوتهم وكاريزمتهم (مَن كان له شيءٌ من الكاريزما). لقد ظهَّر الانفجار الشعبي للعنف اللفظي، مذّاك، شكلاً من أشكال المواجهة بين الشعب وممثّليه في الحُكم، وكشف، بالدليل القاطع، التبدّل الذي طرأ على ديناميّات القوة بين السلطة والناس. صدح خطابٌ مقابل خطابٍ يقول للحكّام بالصوت المدوّي، لعلّهم يسمعون، إنّ الزمن الأوّل تحوّل، ولم يعد الشعب يحتمل مجرّد وجودهم في مواقع السلطة، لعلّهم يفهمون. هل فهموا؟ كلا.
يُقال إنّ القادة الكفوئين يخلقون رنيناً، فأيّ “رنينٍ” يُسمَع من حناجر سياسيّينا؟
في كتابه “أثر الفراشة”، يوصّف محمود درويش الخطابة، بأنّها “الكفاءة العالية في رفْع الكذب إلى مرتبة الطرب، ويكون الصدق زلّةَ لسانٍ، فقط”. وكأنّ هذا التوصيف صيغ، خصّيصاً، لخطبائنا السياسيّين في لبنان، ولو إنّ كذبهم لم يُفضِ، يوماً، إلاّ إلى الطرب الهابط. ماذا عن خطابهم؟
عادةً، لكلّ خطابٍ آليّاته؛ وهي تعني الأساليب والطرق والوسائل التي يُنتَج من خلالها الخطاب، وتجعله يتّجه وُجهةً معيّنة. بعض هذه الآليّات يكون ظاهراً، وبعضها الآخر كامناً يسعى الباحث إلى استخلاصها، بضوء تحليله وفهمه لمقاصد الخطاب المدروس، والمسار الذي يسلكه، والجمهور المتلقّي المفترَض له. إحدى عشرة آليّة يمكن اعتبارها “عُدَّة الشغل”، الأساسيّة، للخطاب السياسي اللبناني الذي يتوجّه، غالباً، إلى جمهوريْن:
الأوّل، الجماعة التي ينتمي إليها الخطيب؛ والثاني، كلّ الشعب اللبناني. وفي بعض الحالات، يُضاف جمهورٌ ثالث إلى هذيْن الجمهوريْن، وهو “الخارج” (العربي أو الإقليمي أو الغربي…).
تتلخّص آليّات خطاب السياسيّين اللبنانيّين بالآتي: إشهار المظلوميّة (الطائفيّة غالباً) – التجييش الطائفي والمذهبي والغرائزي – المزايدة الإنفعاليّة في الدفاع (عن النفس أو الحليف) – تزوير وتزييف الحقائق والوقائع والمصطلحات والمفاهيم (وفق ما تقتضي الحاجة والمصلحة) – إقصاء الخصم (على أنواعه) وتخوينه – التذاكي والتشاطر والمناورة والتحايل (على المتلقّي) – الإصرار على التنصّل من كلّ مسؤولية (عن المشاكل والأزمات) وحصْرها بـ”الآخر” – تحديد محظورات وخطوط حمراء – التذكير الدائم باستحالة إقصاء أحد (والمقصود تحديداً صاحب الخطاب) – أحقيّة حصريّة تمثيل الجماعة (التي ينتمي إليها الخطيب) – التهديد بالويل والخراب في حال “التغييب أو الاستبدال” (لصاحب الخطاب). ونلحظ، من خلال هذه الآليّة الأخيرة، كيف يتسيّد الحقل المعجمي للموت والفناء والنهايات.
في مئويّة تأسيسه، يخوض لبنان معركةً وجوديّة، بينما تكتظّ مكاتب “قادته” بالخطط الإجراميّة والتقارير المشؤومة وخطابات العربدة، على أنواعها. في هذه الساعات اللبنانيّة العصيبة، يلعب هؤلاء القادة كلّ أوراقهم “على المكشوف”، ويعدّون أيامهم الزائدة في “مسبحة” السلطة
تُعتَبَر اللغة، مطلق لغة، أداة السياسة بامتياز، لكونها الوسيلة الأقدر على الإقناع والإيهام بحُسن أفعال اللاعبين السياسيّين ونجاعتها ومصداقيتها. لذا يمكن الاستنتاج، باستطاعة اللغة فرْض السلطة السياسيّة، نظراً لدورها الكبير في “تكريس السيطرة وتعميم الأوهام وتدعيم النظام الاجتماعي”، كما يقول عالم الاجتماع الألماني الشهير يورغن هابرماس.
لا يطمح الخطاب الصادر عن قوى السلطة السياسيّة اللبنانيّة، أبداً، إلى التعبير المعرفي أو نقل الوقائع والحقائق (كما يجب أن يحصل)، بل إنّ لغته تفصح، ومن دون مواربة، عن هاجسٍ وحيد مآله خدمة موقع أو هيئة أو شخص. ولعلّ أبرز ما يميّز الخطابات السياسيّة الكثيرة في لبنان، أنّها غالباً ما تكون خطابات مناسبات سياسيّة، ليس إلاّ؛ لذا، يغلب عليها الطابع المدرسي الإنشائي، فتبقى قاصرة عن التعبير عن الوجدان العامّ، ولا تحترم عقول اللبنانيّين ومشاعرهم وذاكرتهم، ولا ترسم أيّ استراتيجيّة أو رؤية مستقبليّة أو تصوّر لكيفيّة انتشال لبنان من الهاوية التي أُسقِط فيها، بـ”فضل” مسؤوليه و”همّتهم”.
منذ أسابيع قليلة، استؤنفت الكرنفالات الخطابيّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي المقرّات الدينيّة والدنيويّة، يحييها، يوميّاً، سياسيّون من مختلف المشارب الحزبيّة والطائفيّة والإيديولوجيّة، ومَن يدور في فلكهم من مناصرين ومؤيّدين ومتعاطفين وصحافيّين وخبراء ومحلّلين..! نقرؤهم ونسمعهم ونشاهدهم، وهم ينفثون السموم، عبر كمّاماتهم الواقية (من الكورونا)، على الوطن والمواطنين وبعضهم البعض؛ فيتقمّص خطابهم لغةً مؤلمة (كتلك التي تصرخ في رأس جون برسيفال)، تتوسّل كلّ الحيل، وتلعب على الغموض والانعكاسيّة في الأصوات، وتمارس تكراراً قهْريّاً على حساب المعنى. فنوقن عندها، أكثر فأكثر، كيف تصبح اللغة وسيلةً لإيقاع الألم الحادّ، متى اختبأ عنفها تحت الكلمات المحايدة، والمعاني المموَّهة، والإحالات الهجينة، والإيحاءات الساقطة، والتأويلات التبريريّة للأقوال والأفعال. إلى أين يمضي الوطن معهم؟
في مئويّة تأسيسه، يخوض لبنان معركةً وجوديّة، بينما تكتظّ مكاتب “قادته” بالخطط الإجراميّة والتقارير المشؤومة وخطابات العربدة، على أنواعها. في هذه الساعات اللبنانيّة العصيبة، يلعب هؤلاء القادة كلّ أوراقهم “على المكشوف”، ويعدّون أيامهم الزائدة في “مسبحة” السلطة. إنّها لعبتهم الأخيرة. إنّها ساعاتهم الأخيرة. إنّه خطاب أيامهم الزائدة. هل يرتدعون؟ هل يتقاعدون؟ هل يصمتون؟
في أشهر رواياته “مئة عام من العزلة”، يقول الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: “الحكمة لا تصل إلاّ عندما لا يعود لها أيُّ نفع”. لا حكمة ستصل إليهم. إقتضى إذاً، رحيلهم أو سقوطهم أو…؟