![](https://sp-ao.shortpixel.ai/client/q_lossy,ret_img,w_728,h_90/https://180post.com/wp-content/uploads/2019/09/3WhatsApp-Image-2023-01-20-at-09.30.57.jpg)
![غالب سرحان](https://sp-ao.shortpixel.ai/client/q_lossy,ret_img,w_144,h_144/https://180post.com/wp-content/uploads/2024/08/WhatsApp-Image-2024-08-03-at-11.07.02_ee690a27-160x160.jpg)
لم ينتظر أهلُ الجنوب بزوغَ فجرِ الأحد 27 كانون الثاني/يناير الماضي وشروقَ شمسِه، كي يزحفوا إلى حيث ٱستطاعوا الوصول من قراهُم المحتلّة، في “التّحرير الثالث” بالقوّة، بعد التحرير الأوّل عام 2000 بالقوّة، و”التحرير الثّاني” عام 2006 بالقوّة أيضاً، لكنْ لم يدُر في خلد أهلِ القرى الحدوديّة منهُم، أنّهم سينتظرون مرحلةَ عودةٍ ثالثةٍ منَ “العَودات” الثلاث التي عادَها الجنوبيّون خلالَ عام:
–الأولى، فورَ وقفِ العدوان الإسرائيلي.
–الثانيةُ، بٱنتهاءِ فترة الستّين يومًاً بعدَه.
–الثالثةُ بٱستحقاق تمديدِها الآتي وما بعدَه، ممّا قد ينتظرُهم: انسحابُ الٱحتلال بالكامل، أو بقاؤه في سبعٍ من تلالِهم، يعني سبعَ قُرى أخرى في ٱستنساخٍ لنموذج “القُرى السّبع”؟
هكذا باتوا من أهلِ “العودة” كجيرانِهم في غزّة وفي غيرِها، وباتت “التغريبةُ الفلسطينيّة” ماثلةً أمامَهم متوجّسين “تغريبةً جنوبية” مماثلة، مُعاهدينَ شهداءهم تحت الرّكام أن تنتهي بعودتهم. إذ يطلبون “حقّ العودة” إلى أرضهم، في أرضهم، فٱمتشقوا أنفسَهم وأجسادَهم وتدفّقوا نحوَها ما بين داخلينَ دخولَ الفاتحين، ومُرابطينَ عند التّخومِ مقاوِمين، وما بينَ الحالتين تحوّلَ “أحدُ العودة” الأوّل -غداةَ رقم الستّين اللّعين- إلى ملحمةِ التحرير بالأجساد الـ25، وباتَ رقمًا أسبوعيًّا أوّلًا، تلاهُ “أحدُ العودة-2″ في الثاني من شباط/فبراير 2025 ليُحرّرَ عيثرونَ، و”أحدُ العودة- 3″ الذي تلاه في التّاسع منه، محرِّراً قرى طلّوسة وربّ ثلاثين وبني حيان، وكلُّ أحدٍ يقصدُه منِ ٱستطاعَ إليه سبيلا، من أهل الأرض والمقاومة والقضيّة، فيما لا يكلّفُ البعضُ من أهلِ الوطن نفسِه، عناءَ الذّهابِ إليهِ وإليهِم حتى كـ”ويك إند” ليس إلّا. أمّا هم فنصَبوا الخيامَ في قراهم التي حرّروها بدمائهم، أو على مشارفِ تلك التي لا تزالُ محتلّة، متأبّطين عودتَهم، متسائلين: هل نحن مِن هذا الوطن؟ أم صرنا أهلَ عودة؟ و”هل كلُّنا شهداء”؟
“أهل عودة” كأمّ وحيدِها الشهيد المنتظِرةِ العثورَ على رُفاتِه عندَ مدخلِ “عيترون” توزّعُ عن روحِه الحلوى، “أم كلُّنا شهداء” كمن جاء يبحثُ عنِ ٱبنه مُحتضِناً جمجمتَه بشعورِه قبل كفّيه: “حسيت حالي حامل وطن”. ألهذه الدرجة من القوّة يرتقي بنا الشّهداء حدودَ السّماء؟ أم لهذا السموّ تُوصلنا عقولُهم في جماجمهمُ المستشهِدة؟ كيف لوالدِ شهيدٍ أن يحملَ وطنًا إلا إذا كان قطعةً منه، وإلا إذا أمكن للشهيد نفسِه أن يكونَ هو الوطن؟
مرحبا وطن، الشّهداء وأهلُهم وأهلُ القرى الأمامية مسيّجونَ على حدودِه وحدودِها، مَتروكون في الوطن من الوطن، مَنسيّون في العراء من الشّرَكاء، لكنّهم يُعَرّونهم ويُعَرّون دولة الوطن، فهُم متساوُون في الٱنتماء إلى الهُويّة الجمعية، لكنّهم غيرُ متساوين في “كلّنا للوطن” هم يقولون: “نحن أهل الجنوب.. إنّ حُطامَ أبنائنا وأسلحتَهم يغطّي السُّفوح” وجيرانَهم المواطنين الجغرافيّين يقولون: “ونحن نرى ذلك بصمت”..
هم كانوا أهلَ الجنوب، اليوم هم أهلُ جنوب اللّيطاني، تجِدُهم عندَ ضفافِه مُداوِمين مُياوِمين، جنوبَ مياهِه جاثمين مُحَدّقين، في صحراء قراهم المَمحيّة هائمين، تلقاهُم عندَ مداخلها ومفترقاتِ الطّرقات تائهين، يحاولون العثورَ عليها كأمٍ أضاعَت وليدَها فلا يجدونَها، وهناكَ شمالَ النّهر مَن يُجادِلُهم في النّصر والهزيمة، في السّلاح والجهات والٱتجاهات ما بينَ جنوبِ النهر وشمالِ النهر الذي بات الحدَّ الفاصلَ بينَهم، يجادل فقط لأنه لم يجرّب مثلَهم “وجعَ المكان” فيما قراهم صنوُ النهر، جنوبِه وشمالِه، تعرفهم، كبيوتِها التي زالت، لكنّ أرضَها التي تغيّرت معالمُها لا تزال هناكَ جنوبَه وجنوبَهم، كلّما ٱقتربوا منها زادَهم جيشُ الٱحتلال عنها بُعداً نحو الأعمق، كي لا يرَوا ما ٱرتكبه من تشويهٍ لجمالِها، بعدَما غيَّر معالمَها وسرقَها، مُتحلّلاً من كلِّ القيم، لأنّه جيشُ حرامية ولصوصِ هيكل، جيشٌ سارقٌ لكلّ شيء، نفسُه دنيئة لأدنى شيء، ( اسكربينةِ امرأة- قارورةِ غاز فارغة- شتلةِ حَرّ- نحاسيّةِ مئذنةِ مسجد- كراسي بلاستيك- لافتةٍ عند مدخل قرية..) أيّ شيء، لا يهم، المهمّ أن يسرق، ألم يقل نتنياهو: إنّه “الجيشُ الأكثرُ أخلاقية في العالم”؟ لكن أحدًا لا يجرؤ على القول إن لا جيشَ غيرَ هذا الجيش يفعل ذلكَ في العالم.
وحدَه الحاخامُ الصِّهيوني مانيس فريدمان، وفي حوار مع مجلة “مومِنت” (Moment) اليهودية الأميركية في عددِها لشهرَيْ أيار (مايو) وحزيران (يونيو) 2009، لم يتورّع عنِ القول “إنّ الطريقةَ الوحيدة لخوض حربٍ أخلاقية هي الطّريقةُ اليهوديّة: دمِّر أماكنَهم المقدّسة، وٱقتل رجالَهم ونساءهم وأطفالَهم ومواشيَهم”، وهذا ما فعلَه في غزّة ولبنان. هو ليس مجرّدَ مرتكِبٍ فقط لمذبحة “إبادةِ السكّان” تنفيذًا لتوراتِه المتخَيَّلةِ في سِفر التثنية (الإصحاح 20): “وأمّا مدن هؤلاء الشّعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبْقِ منها نسمة”. هو يرتكب “إبادةَ المكان” التي تحدّث عنها ساري حنفي، الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، أو “إبادة يشوع” التي تحدّث عنها ديفيد بن غوريون، أولُ رئيس وزراء إسرائيلي بقوله: “لا بدّ من وجود ٱستمراريّةٍ من يشوع بن نون (رب الإبادة) إلى جيش الدّفاع الإسرائيلي”. هي ٱستمراريةٌ تكفّل بها بنيامين نتنياهو خلالَ العدوان المزدوج على غزّة ولبنان عندما قاتل بجنودٍ “ينضمّون إلى سلسلة الأبطال اليهود، التي بدأت قبل 3000 عام مع يشوع في لبنان. نعم هكذا حرفيًّا “في لبنان” ولهذا كان بالطّائرات يدمّر بيوتَهم، وبالتّفجيرات ينسف أخرى، وبالجرّافات يُزيل أثرَها، وبالإحراق يمحو ما تبقّى، كي لا يعودوا اليها، يقتلع أشجارَ زيتونِهم المعمَّرة، يسرقها ويسرق معها ترابَها ليزرعَها في أرض ليست له، يسرق التراب لأنه يعرِفهم جيدًا ويعرف أنّهم يتنفسّون رائحتَه عند أوّل شتوة، تمامًا مثلَما يعرف اليومَ أن بعضَهم وصل إلى قريتهِ وباشر زراعةَ شتلات التبغ قبل أن يفوتَه الموسم وهو يتحدّاه: “كما أنت هنا، مزروعٌ أنا، ولِي في هذه الأرض آلافُ البُذُور، ومهما حاوَل الطُّغاةُ قلعَنا ستُنبِتُ البُذُور”، ويعرف أنّ أوّلَ مزارعٍ وصل إلى عيتا الشعب كان أوّلَ عمل قام به غرسُ شجرةِ زيتون، وأن أوّل الواصلين إليها سيرًا جاءها من صورَ ركضًا (٣٥ كلم) وفاءً لنذره خلال الحرب، ولا بدّ أن مُسيّراتِه صوّرت ذاك الآخرَ الذي بات ليلتَه الأولى سعيداً مع عائلته في العراء. هو يعرف ذلك جيدًا، ويحاول أن لا يُبقي لهم حجرًا على حجر بخلفية ممزوجة بأمرين:
–الأول، تنفيذًا لأحكامٍ تلموديةٍ تقول في سِفر يشوعِهم: “فالآن ٱذهَب وٱضرُب عماليق وحرِّموا (اقتلوا) كلَّ ما له، ولا تَعْفُ عنهم؛ بل ٱقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحِمارًا” (15: 3).
–والثاني، ثأرًا لٱندحاره أيّامَ “التحرير الأوّل” عام 2000 وانتقامًا لهزيمته في “التحرير الثاني” عام 2006. في الأول قرى ٱحتلّها 22 عامًا وتقهقر عنها مذلولًا، وفي الثاني هي نفسُها فشِل في إعادةِ ٱحتلالها وطُرِد منها كما طُرد ويُطرَد اليومَ في “التحرير الثالث” بدماء الشّهداء العُزّل وقوَّتِهم و”القوّة صناعةٌ محلية” كما تقول امرأةٌ جنوبية في يارون: “الشجرة كم مرة بتقطفيها؟ وسنة الجاي بترجعي بتقطفيها، وهيك الشهدا”، الشهداء، نعم الشهداء، الذين يوصي أحدُهم: “كونوا شهداء بالقوة”، وقد كانوا ولا يزالون أجداثًا تخالِط التّراب، ما بين مُنتَشَلٍ كلَّ يوم، ومفقودِ الأثر إلى أن يشاءَ ربُّك والقدَر، حيثُ “ما بقِي إلّا الرّدم ذكرى”، كما يقول والدُ أحدُ الشهداء مفقودي الأثر مقرّراً الٱحتفاظَ بردم المنزل الذي ٱستشهد فيه ٱبنُه ونقلَه لمنزلِ العائلة في أرضٍ مستعِدّةٍ كلُّها أن تستشهد ولا تُحتَل أو تُغتَصب، فتلك منطقةٌ قاوَمت الٱحتلالاتِ والغزاةَ آباءً عن أجداد، لا أبًا عن جدٍ واحدٍ فقط، قبل إمامِها السيد عبد الحسين شرف الدين (1873- 1957) وثوّار جبل عامل ومؤتمر وادي الحجير (24 نيسان/أبريل 1920) قاومَت المحتلَّ العثمانيّ وجزّارَه أحمد باشا الجزّار ومجازرَه أربعةَ قرون، وقاومت المستعمِرَ الفرنسيَّ ربعَ قرن مقاومةً خطّها بدمائهما القائدان الشهيدان صادق حمزة (1894-1926) وأدهم خنجر (1890-1922) وتقاوِم الغزاةَ الإسرائيليّين منذ 77 عامًا بٱجتياحاتّهم السّتّة (1978-1982-1993- 1996- 2006- 2023) ومئاتِ التّوغّلات. فهي منذ ٱغتصاب فلسطين عام 1948 موئلٌ لأهلها، منبعٌ للشهداء، وجبهةٌ للمقاوَمات، نادرًا ما هدأت وٱستكانت، لم تكن يومًا مقاومةَ طائفةٍ أو مذهب، في حقبة “فتح لاند” على أرض “عرقوبها” كانت جزءًا أساسيًّا منها، ومعَ الأحزاب اليساريّة كان شبابُها عضدَها، ومنذ أوّل ٱجتياحات الٱحتلال عام 1978 وهم عصَبُها، وهي اليومَ تعيدُ تظهيرَ نفسَها بنفسها بيئةً حاضنةً للمقاومة، ويعيدُ تاريخَها نفسَه ٱمتدادًا لمقاوَماتٍ شعبيّةٍ سالفة، كاسرةٍ إشاعاتِ الإحباط الوهميّ الذي يُشاع في المَشاع الجغرافي، والمَشاع ملْكُ الدولة الغائبة التي خاطبَها الإمام موسى الصدر: “قبولُكم بالذّلّ أجبرَنا على حمل السّلاح”.. وسلاحُ الأرض هم أهلُها وشجرُها، صخورُها وجبالُها، أمّا “لعنةُ الجغرافيا” التي وَضعت “إسرائيلَ” على حَدّها فيرَونَها برَكةً ومفخرةً لا لعنةً، عزةً ومنعةً في ثنائيةِ المقاومة على جانبَي الحدود.
هل كانت صدفةُ “أحد العودة” الأوّل جنوباً متزامنةً معَ “أحد العودة” الأوّل في غزّة وفي اليوم نفسه؟ فيما سؤالُ الأعماق: كم من آحاد نحتاجُ للتوحّد معَ شرَكاء الوطن في “حق العودة” إلى أرضنا؟ عودةٌ هناك مهدَّدةٌ بترانسفير ترامبي إلى مصر والأردن والسعودية حتى، وعودة هنا مبتورةٌ إلى قرى مهدَّدةٍ ببقاء الٱحتلال فيها وترانسفير مشابِه وٱستيطان لولا المقاومةُ وسلاحُها المرادُ نزعُه وهو أهالي القرى الحدودية الذين قالوا ونفّذوا: “نحنُ سلاح المقاومة” فمن ينزعُنا من أرضِنا؟ نعم هم، الذين بيومين، ثلاثة، حرّروا عشَرات القرى المحتلةِ بعد “الستّين اللّعين” ويكملون تحريرَ قرى لا تبلغُ عددَ أصابع اليدين، هم الذين لم يقرأوا أسفارًا توراتيةً تخيفهم على أرضهم، ولا أحلام صِهيونيةً ترعبُهم، لكنّهم كشفوا أنّ أثقلَ أسلحة المقاومة هم أهلُها الذين دعا المخيالُ التّوراتيّ إلى إفنائهم كما في سِفر صموئيلَ الأوّل: “وأرسلَك الربُّ في طريق وقال: ٱذهَب وحرّم (أفنِ) الخطاة عماليق وحاربْهم حتى يَفنوا” (15: 18) وعماليق هم القبيلةُ البدويةُ العربية، لكنّها في الثقافة اليهودية -“ذِروة الشرّ الجسدي والروحيّ”، كما يقول جيرالد كرومر، أستاذ علم الجريمة بجامعة “بار إيلان” العبرية في كتابه “العماليق هم الآخر والآخر هم العماليق”.
وعماليقُ اليوم هم عمالِقةُ المقاوِمة، فلسطينيّون ولبنانيّون، لا تهمّ التوراة والصهيونية الدينية جنسياتهم، المهم كلّ من يقاوِم، ولهذا يكون العنوانُ وهدفُ كلِّ عدوان: القضاءُ على المقاومة في كلّ زمان ومكان، ومَن لا مقاومة له ولا سند، نادى في البريّة مع الشاعر السوري ياسر الأطرش:
“يا حزنَ يعقوبَ يا حزنًا على ولدٍ
ماذا تقول لمن يبكي على بلدِ؟
أشلاؤنا بعضُها في الأرض مندثرٌ
وبعضُ أشلائنا يصبو لملتحدِ
نَمضي قوافلَ موتى كلّ مرحلةٍ
لها نصيبٌ من الأموال والولدِ
يا حزنَ يعقوبَ قِف بالرّسمِ وٱبكِ به
شعبًا وحيدًا بلا أهلٍ ولا سندِ”.