لا بدّ للجيوش كافة من وضع “عقيدة عسكرية” تعمل على ترسيخها في نفوس جنودها وقادتها، وتقوم بتحديثها كل فترة بما يتوافق مع تغير اتجاهات الصراع، وتغيّر أشكاله ووسائله، وبما يتلاءم مع خطط الدولة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ونظرتها إلى نفسها وإلى العالم من حولها.
وتنتج عن عدم امتلاك مثل هذه العقيدة خوض الصراع بتخبط وعشوائية. لا متى يبدأ ولا كيف ينتهي، وتغيب الآفاق ـ الأهداف التي يفترض أن تشكل حدوداً صارمة يقف الصراع عندها ولا يتجاوزها. كما أن أي خلل في الأصل العقائدي للصراع سينجم عنه حتماً خلل في كل ما بني عليه من اتجاهات الصراعات وحدودها ووسائلها.
كذلك فإن ممارسة الصراع بشكل يخالف الأصل العقائدي ستؤدي إلى ضياع من يقومون به ووقوعهم في اليأس، حتى تصبح أقصى أمانيهم إيقاف الصراع بأقل الخسائر، هذا إذا لم يودِ بهم هذا الصراع إلى نقض ذلك الأصل وتدميره.
يعتبر تنظيم “الدولة الاسلامية” (داعش) نفسه من الحركات الاسلامية القليلة التي تمتلك “عقيدة عسكرية”، لا خلل في بنيانها، ولا سوء في تطبيقها، فيما يتهم باقي الحركات والأحزاب الاسلامية التي تزعم السعي لإقامة الدين والتمكين له في الأرض بأن أحد أهم أسباب فشلها هو إما فقدان العقيدة أو لخلل بها أو للفشل في إقامة بنيان الصراع على أساسها.
وفي نبرة تدل على تمسك التنظيم بقناعاته القديمة سواء لجهة مبادئه العقائدية أو لجهة علاقاته مع باقي الفصائل المحسوبة على التيارات الاسلامية والجهادية، لم تتوانَ وسائل إعلامه في الآونة الأخيرة من تكثيف حملاتها الإعلامية ضد جماعة “الاخوان المسلمين” من جهة، وتنظيم “القاعدة” من جهة ثانية.
ويشير ذلك إلى أمرين أساسيين: الأول، إخفاق جميع محاولات التوسط التي استغلت مقتل أبي بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق من أجل السعي إلى وضع اسس جديدة لعلاقات الفصائل والجماعات مع بعضها، وكان من ابرزها وساطة قادها “فرع القاعدة في اليمن” لكنها توقفت بعد مقتل زعيمه قاسم الريمي. والثاني، أن تنظيم “داعش” برغم جميع نكساته العسكرية والتحديات التنظيمية والأمنية التي تواجهه ما زال مصراً على المفاصلة العقائدية والتمايز التنظيمي عن جميع الفصائل الأخرى، وأن مقتل زعيمه السابق لم يغير في هذا الموضوع شيئاً.
وفي هذا السياق، أصدرت “ولاية اليمن”، وهي فرع “داعش” هناك، قبل حوالي أسبوعين، إصداراً طويلاً نسبياً تحت اسم “معذرة إلى ربكم”، وهو مقتبس غالباً من خطاب لأبي محمد العدناني المتحدث الرسمي السابق باسم تنظيم “داعش” حمل عنوان “معذرة إلى الله” وشن من خلاله حملة شعواء ضد الظواهري.
ولم يقتصر التشابه على العنوانين وحسب بل امتد كذلك إلى الموضوع والفحوى، إذ سلط “الاصدار الوثائقي” الضوء على ما اسماه مسيرة انحراف تنظيم “القاعدة” التي اتضحت بشكل خاص بعد ما عرف باسم “الربيع العربي”، والذي كان اختباراً سقطت فيه “القاعدة” وكثير من الحركات التي تزعم سعيها لحاكمية الشريعة وإقامة الخلافة.
وأظهر الاصدار أن “القاعدة” بدأت كغيرها بشعارات عريضة ومناهج ضبابية بهدف حشد أكبر عدد ممكن من الناس، ولكن عندما جاء وقت التطبيق بان كذبها “فلا شريعة طبقوا ولا توحيداً حققوا”، بل على العكس حاربوا من فعل ذلك واتهموه بالغلو والخارجية.
واستشهد الاصدار على ذلك بما فعله فرع “القاعدة” في اليمن بعد سيطرته على المكلا، مستعرضاً شهادات لعناصر سابقين انشقوا عن “القاعدة” وكشفوا حقائق “صادمة” عن واقع التنظيم هناك، وكيف سلموا الحكم للمجلس الأهلي في حينه.
ومن الحقائق التي ركز الاصدار عليها اعترافات صادرة عن قيادات سابقة في “القاعدة” التحقت بتنظيم “داعش”، حول وجود تحالف قوي على الأرض بين مقاتلي “القاعدة” وقوات “التحالف العربي” بقيادة السعودية والامارات.
اشارت اعترافات قيادات منشقة عن “القاعدة” إلى وجود تحالف قوي على الأرض بين التنظيم و”التحالف العربي” بقيادة السعودية والإمارات
وبعد استعراض أدلة وبراهين وأمثلة على المخالفات الشرعية التي وقع بها فرع “القاعدة” في اليمن، ختم الاصدار بتوجيه رسالة إلى مقاتلي “القاعدة” يدعوهم فيها إلى التوبة وأنهم أصبحوا “معاول لهدم الشريعة بدلاً من نصرتها”.
وفي تأكيد على أن موقف “داعش” من “القاعدة” لا يقتصر على دولة دون أخرى، شن التنظيم كذلك حملة مشابهة على جماعات “القاعدة” في غرب أفريقيا متهماً إياها بالتحالف مع فرنسا وبعض جيوش دول المنطقة من أجل القتال ضده. ومن شأن ذلك أن ينقض أية سيناريوهات يجري الحديث عنها حول إمكانية حصول تقارب بين “داعش” و”القاعدة” على خلفية استهدافهما المشترك دولياً.
وفي ذات السياق، صوّب تنظيم “داعش” أسهمه على جماعة “الاخوان المسلمين” في مصر بعد قيامها بإدانة الهجوم الذي نفذه مقاتلوه في بئر العبد في سيناء أواخر نيسان/ابريل الماضي، وأسفر عن مقتل ما يقارب 13 جندياً مصرياً. واعتبر التنظيم في مقالة منشورة في العدد الأخير من صحيفة “النبأ” أن هذه الإدانة غير مستغربة وهي تدل على السبب الرئيسي الذي أدى إلى هزائم الاخوان “المرتدين” المتتالية في مصر أمام “الحكام المرتدين”. ويكمن السبب حسب الصحيفة التي تصدر عن ديوان الاعلام المركزي، في أن صراعهم مع هؤلاء الحكام بني على أصول عقدية فاسدة وواهنة كما بنوا عليها بنياناً سرعان ما انهدم فوق رؤوسهم، وخرجوا بعد كل صراع لهم مع الطواغيت خائبين خاسرين يلوكون التبريرات ويكررون التراجعات”.
وتؤكد هذه الانتقادات أن تنظيم “داعش” ليس متمسكاً بمبدأ تكفير الطواغيت، ويقصد بهم الحكام وأعوانهم ممن يحكمون بغير الشريعة الاسلامية وحسب، بل أنه ما زال يطلق حكم الكفر على جميع الجنود والعاملين لدى هؤلاء الطواغيت – حسب تعبيره- وبهم يكون دوام ونفاذ أحكامهم الكفرية.
ويجدد التنظيم تأكيده على أن موقفه من هؤلاء ليس مجرد التكفير والبراءة منهم، بل يتفاخر بأنه ما زال من القلة القليلة التي تحرص على قتالهم، وذلك على عكس باقي الحركات الاسلامية التي تتراوح مواقفها في هذه المسألة من دون أن تصل إلى الموقف الذي يتبناه تنظيم “داعش”.