لم انتبه يوما الى هذا الزجاج في مدينتي، ربما تلفتُ الى لون بعض النوافذ الزجاجية، من دون ان انتبه الى زجاجها. لم تكن مدينة بيروت يوما، بالنسبة لي، مدينة من زجاج، لم تكن مدينة زجاجية. لم اشعر يوما بزجاجها، وحين كنت امشي في شوارعها، لم يخالجني يوما الشعور بانها سوف تنكسر، وانا انكسر.
حين يسألنا أحدهم اين نعيش، نجيب بأننا نعيش في هذه المدينة او تلك، ونقول ان المدينة جميلة، أو صغيرة، او كبيرة، أو انها قديمة، او حديثة، أو انها تقع قبالة البحر، أو تبعد مسافة بضعة كيلومترات عن الشاطئ، لكننا لا ننتبه ان المدن، وعلى ما يبدو تعيش فينا، ولا نعيش فيها فحسب. فحين تكسرت مدينة بيروت اثر الانفجار، شعرت ان زجاجا ما تكسر في داخلي، أو على جوانبي، وان هناك زجاجا مبعثرا شفافا تحت اقدامي، لا رغبة لدي او قوة لي في ان الملمه. فاقف وحدي فوق زجاجي المبعثر تحت اقدامي.
حين اراقب في شوارع بيروت، ومن بعيد، سواعد الشابات والشباب الذين يكنسون زجاج المدينة ويلملمونه، ابتسم لهم في سري، اذ احتار، فعلا، بقدرتهم على لملمة الزجاج. انا لا قدرة لي على لملمة زجاجي المتبعثر تحتي. وحين اسمع في نشرات الأخبار عبارة “لملمة الجراح”، ابتسم ايضا، اذ انني ارى، حرفيا وبدقة، في هذا الزجاج المنكسر جراحي التي لا قدرة لي على لملمتها.
لم تكن بيروت، يوما، مدينة زجاجية، غير اننا سنطلب منها ان كان يمكن لها، ربما، ان تساعدنا على لملمة زجاجنا المنكسر في دواخلنا الذي يوجعنا، ويؤلمنا جدا
لا استخدم كثيرا مفردة “لملمة”، لم تندرج الكلمة في قاموسي. لكنني وفي حركة الايادي التي اراقبها في الايام الأخيرة في شوارع بيروت، لا اجد اصدق من المفردة “لملمة”، فيها شيء من الحنو على هذه المدينة، وكأن في حركة الأيادي لملمة حنونة لمدينة تكسرت في انفجار مدمر في ثوان معدودة. الايادي حنونة مع مدينتها.
حين استمع لاهالي المفقودين والشهداء واشعر بآهاتهم وبآلامهم، يتكسّر زجاج في داخلي فأتألم كثيرا. ربما أخمّن ان هناك زجاجا في داخلنا ينكسر في بعض الأحيان من شدة الألم أو الحزن او الفقدان فنتوجع، ونتكسر. وحين الاحظ جروحات المرضى، اقول في نفسي ان زجاجا ما في داخلهم انكسر، فتسبّب جرحا، او ندوبا. وحين اراقب كمية الزجاج المتراكم والمتبعثر في المنازل، اقول ربما ان الزجاج انفجر من الداخل، وان اهالي المنازل انفجروا من الداخل فتبعثر الزجاج في الخارج.
ربما ليس زجاج المدينة المكسور، نوافذ، او شبابيك متطايرة، أو لوائح، او واجهات، او ابواب، او منصات، ربما هو نحن، زجاجنا نحن، الذي تكسر في دواخلنا لأنهم فجرونا، وقتلونا، واهملونا، وكذبوا علينا، وسرقونا، واستخفوا بنا، وجوعونا، وقهرونا، وابكونا، وشتتونا، وهجرونا، وأفقرونا، وفرقونا، فكان ألمنا شديدا، وموجعا. وانا لا قدرة لي على لملمة زجاجي، أنا جد متالمة.
لم تكن بيروت، يوما، مدينة زجاجية، غير اننا سنطلب منها ان كان يمكن لها، ربما، ان تساعدنا على لملمة زجاجنا المنكسر في دواخلنا الذي يوجعنا، ويؤلمنا جدا.