كمال جنبلاط و”لبنان الكبير”: قصة الطائفية السياسية

لا شيء تقريباً في لبنان عرف اتفاقا حقيقيا بين التيارات السياسية والطوائف (التي كانت ركيزة معظم هذه التيارات)، فبقي التاريخ مثار تفسيرات وتأويلات عديدة، منذ إقامة ما سُمي بـ"لبنان الكبير" قبل 100 عام حتى اليوم. ومع استعداد لبنان لإحياء مئوية لبنان الكبير، سنسمع حتما تفسيرات كثيرة لما جرى، وكل طرف سيحاول ان يدافع عن نفسه وعن شريكه الدولي آنذاك من الفرنسيين الى العثمانيين. 

عثرتُ على نصٍ كتبه قائد الحركة الوطنية كمال جنبلاط بعنوان “قصة الطائفية السياسية”، يقدّم لنا صورة مهمة عما جرى. وهو اذ يرويها من وجهة نظر اليسار آنذاك حول تطور الأمور ووصولها الى الحرب بغية تكريس الطائفية من قبل من يصفهم بـ”الانعزاليين”، أي اليمين المسيحي، فلا شك ان قراءته التاريخية والسياسية جديرة بالاهتمام.

هذا النص  نشره “مركز الدراسات الاشتراكية” في العام 1977 ، أي في العام المشؤوم الذي شهد اغتيال هذا المثقف الموسوعي والسياسي الاستثنائي الذي نبذ الاقطاع لأجل الاشتراكية، وزيّن الفكر السياسي بالعمق المعرفي والايمان الروحاني والذي وفّق بين الصوفية الإسلامية والمحبة المسيحية والفلسفة الهندية، قبل ان ينزلق، كما معظم السياسيين، الى أتون الحرب الالغائية.

في النص الذي أعقب حوالي السنتين من بداية الحرب الشرسة التي عرفها لبنان باسم “الحرب الأهلية” بينما هي في الواقع حروب محلية وإقليمية ودولية تداخلت لتدمير الوطن الجميل، يقول كمال جنبلاط “ان أزمة لبنان تعود في الواقع الى العام 1845، يوم خرجوا بحل لما اسموه في ما بعد “سنجق جبل لبنان”. ويتضمن تكريس أول بادرة للطائفية السياسية بشكل القائمقاميتين: الدرزية والمارونية، وكان ان تعقّد الأمر بسبب ما اسموه بنظام شكيب افندي التركي، آنذاك، وتوالت الحروب الداخلية الى ان تدخلت الدول الأوروبية وفي طليعتها فرنسا، وقد أرسلت قسما من الجيش الفرنسي الى لبنان، فنجم عن هذا التدخل في جسم الإمبراطورية المريضة ان وضع بروتوكول دولي لحكم الجبل سنة 1861 وقضى بتكريس الطائفية”.

يضيف كمال جنبلاط:”اما الخطوة الثالثة في طريق هذا التكريس، فجاءت بتعديلات أدخلت على البرتوكول السابق وعرف بـ”نظام جبل لبنان” المجتزأ عن الامارة العربية في هذا الجزء من سورية ببروتوكول سنة 1864، ولما جاء الفرنسيون وحددوا خارطة لبنان الحديث تكرّس نظام لبنان الكبير، كما  اسموه بدستور صدر عام  1962 تحاشوا فيه ان يوردوا الزاما طائفيا معينا مكتفين بمادة عابرة مؤقتة حول التمشي على قاعدة الطائفية ما امكن في بعض الوظائف الرئيسية، وهي مادة مطاطة بمعناها، ولا تلزم الدستور ومطبّقيه بأي التزام سياسي ومعنوي فعلي. ولكن الطائفية السياسية وضعوها في مجلس النواب، وبتكوينه الذي غلبت عليه الأكثرية المسيحية، ومن ضمن هذه الأكثرية المسيحية الأكثرية المارونية، وكانت النسبة هي خمسة نواب مسيحيين مقابل أربعة مسلمين. ثم تعدّلت هذه النسبة قبيل سنة  1943 واحداث الاستقلال فأصبحت ستة مقابل خمسة. ولكن ظلت الإدارة كما كان سابق عهدها تستوعب اعدادا اكبر من الموظفين المسيحيين”.

محاولات لانتخاب مسلم رئيسا للجمهورية

يشرح القائد اليساري الراحل في هذا الجزء من نصه محاولات تخطي الطائفية في الرئاسة الأولى، فيقول :”لا بد من الإشارة انه حصلت محاولتان ابان الانتداب الفرنسي لتجاوز قاعدة الطائفية السياسية في انتخاب رئيس الجمهورية: الأولى يوم اوشك المجلس النيابي ان يجمع مسيحيين ومسلمين على انتخاب الشيخ محمد الجسر رئيسا للجمهورية. ولكن قبل ان يجري هذا الانتخاب قضت الضغوط وبعض المداخلات لبعض رجال الدين والسياسة بان يتخذ المفوض السامي قرارا بحل المجلس. والمرة الثانية التي رشح فيها لانتخابات الرئاسة رجل مسلم هي سنة 1943  يوم عرض على سامي الصلح ان يقبل ترشيحه عن النواب المعارضين لانتخاب الشيخ بشارة الخوري”.

رؤساء غير موارنة

ويضيف:”تجدر الملاحظة انه قد توالى على حكم لبنان أكثر من مسيحي غير ماروني، واولهم الرئيس شارل دباس والرئيس أيوب ثابت والرئيس بترو طراد وسواهم. هذه هي قصة الطائفية السياسية التي كانت احد أسباب إعاقة التطور اللبناني نحو استيعاب دور الحكم شبه العلماني لمدة 1200 عام في عهود الامارة العربية التي تآمر عليها فريق من الانعزاليين بتحريض من الدول الأجنبية فقضوا عليها عام 1861 وتوجهوا نحو فصل جبل لبنان ووضع نظامه وحدوده تحت حماية الدول السبع يحكمها متصرف مسيحي من الأقليات ويعاونه مجلس للإدارة منتخب”.

المرحلة الثالثة للطائفية  

هذه المرحلة، برأي كمال جنبلاط (الذي كان يُلقّب بالمعلم)، هي التي كرّست عام 1958 مبدأ المناصفة في الوظائف وذلك بقانون. وكان الرئيس المرحوم فؤاد شهاب يسمي ذلك تنظيم الطائفية السياسية، ولكن النسبة التمثيلية في المجلس السياسي بقيت كما هي. وكان الوطنيون من جميع المذاهب يصطدمون بالانعزاليين في محاولات لإلغاء الطائفية السياسية كانت تتكرر دونما نتيجة.

وإذ يشير كمال جنبلاط بوضوح الى دور فرنسا في تكريس الطائفية (بينما رئيسها يأتي للاحتفال مع لبنان بقيام لبنان الكبير)، فانه يرمي المسؤولية الكبرى على “الكتائب واعوانهم”، فيقول ان هؤلاء قد “فجّروا ازمة 1975-1976 ظنا منهم انهم يستطيعون بذلك إعاقة مسلك التطور”.

بعد ان قرأت هذا النص بعمق، تساءلت عما كان سيقوله كمال جنبلاط الذي تميّز بذكائه الحاد وبسرعة بديهته في رمي النكتة، لو انه رأى همروجة اللبنانيين حاليا في الانقسام حول هذا الحدث التاريخ بين الفرنسيين والأتراك وكل من هب ودب من أمم ودول. فقد وصل الأمر ببعض اللبنانيين حد مطالبة الضيف الكبير الرئيس ايمانويل ماكرون بإعادة الانتداب، ولعل بعضهم كان سيطالبه بإعادة لبنان الصغير. ففي وطننا الجميل، يبدو الانتماء أيضا الى الوطن مجرد وجهة نظر، فكل طرف منذ 100 عام  ما زال يراهن على طرف خارجي أو اكثر.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  عون يُهادن ماكرون، "الثنائي" إلى المواجهة.. أين الحريري؟
سامي كليب

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  القطاع العام صمّامُ أمانٍ.. لا أصل البلاء!