الحزب القومي حامل راية بلاد الشام.. ورافضها!

حذّر المبعوث الأميركي توم براك، بعد زيارته الثانية للبنان، من أن عدم تحرك لبنان بالاتجاه الذي يريده الاستعمار الغربي، "سيعيده إلى بلاد الشام من جديد". والملفت للانتباه كان رد فعل الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي استنكر ما صدر من "تهديدات تمسّ بسيادة الدولة وتُشكّل خطرًا كبيرًا على اللبنانيين". موقف أثار موجة من الإنتقادات لحزب حامل لراية وحدة بلاد الشام.. والرافض لها في آن واحد.

قيمة الإيديولوجيا

تنشأ المجموعات السياسية، على أشكالها، لمواجهة واقع ما، أي لتأطير الجهود بغية ممارسة التأثير باتجاه ما. وتكثر، لا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، المجموعات التي تسعى لمعالجة حالة ما دون تقديم تشخيص لجذورها، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، المجموعات التي نشأت نتيجة “طوفان الأقصى” والتي تحصر هدفها في وقف الإبادة، والمجموعات اللبنانية (غالبًا المناطقية الطبع) التي نشأت عقب انتفاضة 17 تشرين (اكتوبر) 2019 والداعية للتغيير والإصلاح ومكافحة الفساد، والمجموعات السورية (غالبًا المناطقية الطابع هي أيضًا) التي نشأت بعد سقوط بشار الأسد والطارحة شعارات كالديموقراطية أو العدالة أو السلم الأهلي، والمنظمات غير الحكومية الخيرية والنسوية والبيئية وغيرها.

أما الأحزاب الإيديولوجية فهي تنظيمات عملت على تحليل عمق المشكلة وتقديم رؤية طويلة الأمد تضمن معالجة جذرية لها، ومنها الأحزاب اليسارية ذات الخطاب طبقي، والأحزاب الإسلامية حاملة عنوان “الإسلام هو الحل”، والأحزاب القومية، بما في ذلك قراءة أنطون سعادة لوحدة المجتمع السوري على أساس وحدة أرضه ومصلحته. وهكذا يصبح هناك منطلق فكري لتحليل الواقع وتحديد الوجهة عوض التعامل السطحي مع نتائج الواقع.

مخاطر الإيديولوجيا

ما يحصل غالبًا أن هذه الإيديولوجيات تصبح مسلّمات، بل حتى إيمانيات. طبعًا، الأمر مفهوم: فلا يمكن العودة لنقطة الصفر وإعادة تحليل كل شيء عند كل منعطف. ولا بد من ضبط المفاهيم كي نتمكّن من العمل سويًا في إطار تنظيم. كما أن العقل البشري يطمئن للمألوف فتصبح الإيديولوجيا مساحة من الراحة الذهنية يصعب علينا الخروج منها.

لكن لهذا الجمود الإيديولوجي مخاطره. فلا طرح كاملاً، والامتناع عن نقده يحافظ على أخطائه ونقاط ضعفه. ونستذكر هنا رفض عدد من القوميين الاجتماعيين خوض نقاش جدي في طروحات قوميين آخرين متعلقة بتسمية سوريقيا أو بالتمييز بين اليهودية والصهيونية في فكر أنطون سعادة، اقتباسًا لعنوان مقال الرفيقة صفية سعادة. كما أننا لم نرَ عند معظم الإسلاميين نقدًا حقيقيًا لفشل الإسلام السياسي الذي كان يُفترض أنه الحل، ولا عند معظم الاشتراكيين نقدًا حقيقيًا لفشل نبوءات ماركس المتعلقة بالثورة العمالية في البلدان المتقدمة تكنولوجياً والتي كان يفترض أنها حتمية تاريخية.

ومن جهة ثانية، قد تتكثف الأحداث وتتزاحم إلى حد تقديم قراءات منفصلة عن الواقع نتيجة صعوبة الفهم أو المواكبة للأحداث والظروف المتحركة والمتحولة. على سبيل المثال، يعتبر السوريون القوميون الاجتماعيين وكذلك العروبيون أن العراق وفلسطين جزء من أمة واحدة. ولكن هل يُعقل أن نعتبر أن بن غفير العراقي الأصل صاحب حق في فلسطين؟ كما يعتبرون أن غزة وسيناء أرضٌ واحدة. فهل يعني ذلك ألا نمانع هجرة فلسطينيي غزة إلى سيناء؟ فحقًا، ليس هناك من وصفات جاهزة للتطبيق في كل زمان ومكان.

إخضاع الإيديولوجيا للنقد

يتبع حزب “مواطنون ومواطنات في دولة” منهجية فكرية قائمة على “اعتماد الجهد الفكري النقدي أساساً منهجياً، وبالتالي اعتبار النظريات والإيديولوجيات كافة، على فاعليتها، نسبية ومحددة بالظرف التاريخي لصياغتها وتداولها، وإخضاعها لضرورة التفسير ولإمكانيات التأويل”. وهي منهجية مكلفة بحيث تتطلب ممارسة جهد نقدي دائم. لكنها تحمي التنظيم، وبالتالي المسعى السياسي، من الانفصال عن الواقع.

وهذا ما يذكرني بسؤال طرحته في منفذية طرابلس منذ حوالي 25 عامًا: ألا يدفع وجود الجيش السوري في لبنان وفظائعه اللبنانيين لكره السوريين ورفض الوحدة التي نسعى لها؟ فلماذا يدعم الحزب القومي هذا الوجود؟ طبعًا، لم يجبني الرفقاء (أو بالأحرى، المنتمين منهم لجزء من الحزب الذي كان بشار الأسد قد أحكم هيمنته عليه) آنذاك. أما موقف “القومي” اليوم فمختلف، إذ أنه، عوض نسخ ولصق إيديولوجية تقتضي دمج لبنان وسوريا، عليه هذه المرة أن يأخذ في الاعتبار الطبيعة الطائفية والتطبيعية للنظام السوري، وما تشكّله هذه الطبيعة من خطر على اللبنانيين.

وعليه، ليس موقف الحزب القومي خيانة لمبادئه بل تطبيقاً نقدياً لها. وليس مدعاة للسخرية بل لاستقاء الدروس. فعلينا تخطي أطر العمل والتحليل التي اعتدنا عليها، السطحية منها المحصورة بردة الفعل، كما الجامدة منها الرافضة للنقد. وهذا ما يتطلب من الأفراد والمنظمات الثورية أمرين: أولًا، كسب الأدوات المفاهيمية والتحليلية، ومنها ما قدمه سعادة عن المجتمع وماركس عن الطبقة وغرامشي عن الهيمنة وغيرها، مما يمكننا من فهم الواقع. وثانيًا، تطوير الميل لاعتبار الإيديولوجيا محددة بالظرف ولإخضاعها للنقد، مما يبقينا على اتصال بالواقع.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "كرايزس غروب": تسوية اليمن مؤجلة.. ونظام إيران لن يتفكك
ألان علم الدين

مترجم وكاتب ومنسق في "مبادرة الدولة الديموقراطية الواحدة" ومناصر لـ"حركة مواطنون ومواطنات في دولة"، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أستاذ طلال ستبقى الأول.. حبّاً أو اختلافاً