

هكذا، ظهر إبراهيم عيسى، في مقطع مسجّل بتاريخ 7 تموز/يوليو 2025، كأنه أول من لاحظ أن خشبة المسرح تهتزّ، وأن الستارة، مهما رفرف فوقها الإعلام، بدأت تسقط من الجهة الأخرى. لكن هذه ليست قصة إعلامي خرج عن النص. هذه قصة تحوُّل مفصلي، يأخذ الشكل الاقتصادي، والشعبي، بينما يعتقد الكثير من المراقبين أن عيسى “لا ينطق عن هوا”، انما هو “وحي يوحى”، غامزين من قنوات خليجية، أو ما هو أبعد من الخليج.
بين الجمهورية الجديدة وجمهورية المديونية

الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لم يخفِ طموحه في صناعة مشهد فرعوني معاصر. عاصمة إدارية جديدة، بنية تحتية لامعة، مراكز تحكّم ذكية، منشآت تروّج للحداثة أكثر مما تنتمي إليها. في الظاهر، بدا كل شيء يسير وفق “خطة ما”، لكن كما كان يقول هنري كيسنجر: “حين ترى الخطة أكثر وضوحًا من الواقع، فاعلم أنك داخل حلم سلطوي لا داخل دولة”.
فمنذ 2015، بات واضحًا أن النموذج المصري الجديد لا يُبنى على الشرعية، بل على الاستدانة. ما يقرب من 150 مليار دولار قيمة ديون مصر الخارجية؛ ديونٌ تضخّمت لتبتلع ما تبقى من الخيارات الوطنية، وتحوّلت الدولة من فاعل سيادي إلى وكيل تمويل، يتلقى شروطًا ويمتص قروضًا، من دون أن يتمكن من إعادة إنتاج الثقة، لا داخليًا ولا خارجيًا.
إنه “التحديث بلا حداثة”، بحسب وصف أحد الدبلوماسيين الأوروبيين. عمارات تلمع في الظلام الاقتصادي، ومحطات مونوريل تعبر فوق المقابر الحية للطبقة الوسطى.
عيسى ليس وحده
حين يقول إبراهيم عيسى — أحد أبرز الأصوات التي لطالما نظّفت جدران النظام من الغبار الديموقراطي — إن “الدولة حريصة على غياب الاستقرار”، فإن العبارة لا تُقرأ كنقد فقط، بل كإشارة إلى انقلاب داخلي في الخطاب.
الأنظمة السلطوية، كما يعرف روبرت فيسك، لا تُصاب بالشلل بسبب المعارضة، بل حين يبدأ المحيطون بها بالتحدث بلغة الغرباء.
ما فعله عيسى في ذلك الفيديو لم يكن تمرينًا صحفيًا، بل كان تفكيكًا لشيفرة الخطاب السيادي نفسه: من جدوى مشاريع القوات المسلحة، إلى غياب العائد التنموي، إلى ضياع الطبقة الوسطى، إلى هيمنة الأسعار على الوعي العام.
إنه، بتعبير روبرت فيسك، مشهد الهبوط من مروحية النخبة إلى شوارع الخبز.
مع ذلك قد تكون المسائل الاقتصادية مجرد قشرة لأجندات دولية أو اقليمية، مطلوبة من مصر، ومن الرئيس السيسي تحديداً، فتكون حملة ابراهيم عيسى (الذي خسر عمله الذي يتقاضى عليه شهريا ما يفوق المليون جنيه)، عملية ضغط وتلويح بعواقب الأمور إذا ما عاند الرئيس الخارطة التي يُعاد رسمها سياسياً في المنطقة، فنحن في زمن خلط الأوراق بخفّة صبيانية، لا تشبه طرق الدول الكبرى في اداراتها للملفات.
في عالم بلا ثوابت، لا تحالفات تُحفظ، لا خصومات تدوم، لا معاهدات تصمد. لم يعد بإمكان أحد أن يراهن على ثوابت الجغرافيا أو التاريخ. وهذا ما تدركه القاهرة، ولو متأخرة
من المجاملة إلى الرسائل المفتوحة
في لحظة متزامنة، خرجت أصوات خليجية نافذة، ليس فقط لنقد السيسي، بل لإعادة توصيف العلاقة معه.
كأن الخليج، بوصفه المموّل السابق، قرّر أن يعلن الإفلاس المعنوي لا المالي فقط.
كيسنجر كان ليلاحظ هنا أن “التحالفات لا تنهار بسبب الخلاف، بل حين تنتفي فائدتها”. وبحسب تلك القاعدة، لم يعد النظام المصري الحالي — وفق الحسابات الخليجية الجديدة — قادرًا على توفير ما يلزم للحفاظ على موقعه كلاعب إقليمي أو كحارس للحدود الناعمة في شرق المتوسط.
مصر لم تُطرد من التحالف، بل تُركت في قاعه. لماذا؟ هل لأنها رفضت أن تكون شريكة في مشروع تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء؟
الحرائق، اللغة، والصمت الرسمي
موجة الحرائق التي ضربت منشآت حيوية في مصر — من سنترال رمسيس إلى محطات الكهرباء والفنادق — لا يمكن فهمها خارج هذا السياق الرمزي المُلتهب.
ليست مجرد مصادفات صيفية، بل أعراض انهيار بنى تحتية معرفية أيضًا.
في الدولة الحديثة، الحريق حين يتكرر يصبح خطابًا.. والسلطة التي لا تملك تفسيرًا له، تفقد شرعية تفسير ما هو أعمق.
الصمت الرسمي، هنا، ليس حيادًا. هو اعتراف بالعجز. تمامًا كما حدث مع أزمة صندوق النقد الدولي الذي أجّل مراجعة قرض مصر، ودمج الخامسة بالسادسة، في خطوة أقرب إلى إعلان فقدان الثقة.
نهاية مشروع أم إعادة ضبط؟
في نظر النظام، الجمهورية الجديدة هي المشروع الذي يعوّض الدولة. لكنها اليوم تواجه سؤالًا خطيرًا: مَن سيعيش في هذا المشروع؟ وهل تبقى للمواطن رغبة في أن يكون رقمًا في معادلة لم يعد يثق بحاسبتها؟
الأسطورة التحديثية تتآكل لأن الاقتصاد نفسه بدأ يعارض السلطة.
كثيرًا ما كانت السلطة تنهار قبل أن تسقط. تسقط أولًا في لغة مروّجيها، ثم في خطاب حلفائها، ثم في السوق.
لحظة سيولة قصوى
في عالم بلا ثوابت، لا تحالفات تُحفظ، لا خصومات تدوم، لا معاهدات تصمد. لم يعد بإمكان أحد أن يراهن على ثوابت الجغرافيا أو التاريخ. وهذا ما تدركه القاهرة، ولو متأخرة.
مصر، كما في لحظاتها التاريخية الكبرى، تعود إلى منطقة الغموض:
أرض تُبنى، شعب يُرهَق، رأس مال يُفلت، وخطاب يُعاد تشكيله.
إبراهيم عيسى ليس نقطة البداية، بل ربما أول من حمل مرآة صغيرة، وكسر بها تمثالًا كبيرًا. مع ذلك الردود النارية الدفاعيّة، انطلقت بدورها، لذلك أصبح عيسى هدفاً لجلّ البرامج السياسية والاجتماعية، متهمة اياه بالعمالة والخيانة، حتى لا تكرّ السبحة وتظهر آلات جديدة في أوركسترا المعارضة المستجدة.