قومي يا بيروت.. قومي

عدتُ بالذاكرة إلى حقبة ثمانينيّات القرن الماضي. كنتُ في كلّ مرّة أنزل فيها من الجبل إلى بيروت بعد انتهاء إجازتي الأسبوعيَّة، يشاء القدر أن يحدث حدثٌ مُزلزِل. وغالباً ما يكون ذلك الحدث، اغتيال شخصيَّة من الصفّ الأول. بالأمس، كرّت سبحة ذاكرتي إلى الوراء. مثل فيلم حياتنا الذي يمرّ أمام عيوننا، عندما يسري مفعول التخدير في عروقنا في غرفة الجراحة. فلم تكد تطأ قدمي عتبة منزلي في بيروت حتى وقع الزلزال.

يا إلهي ماذا يحدث؟ البيت يموج بي وأنا وحدي في الطابق الخامس. صرتُ أركض في البيت بحثاً عن زاوية آمنة، وأتذكّر ما ينصح به، عادةً، العارفون بالزلازل. يجب النزول إلى أسفل. فتحتُ الباب، فإذا بصوت انفلاش انفجار. يا إلهي! ناديته مرّة جديدة. ها هي إسرائيل تقصفنا بالطيران. رأسي يفكّر بجنون. ماذا يحصل؟ الناس في شارعنا يصرخون. “لماذا هذا الصراخ يا جمعة؟”، أسأل بجزع ناطور بنايتنا في الانترفون. “لا أعرف يا مدام!”، يجيبني ويردف بسرعة “لكنّ الدخان يتصاعد من بعيد. من قلب بيروت”. آه يا بيروت. الكلّ يعرف عنّي أنّني لا أهاب، لا المعارك ولا الانفجارات ولا الغارات ولا الحروب. ليس لأنّني خارقة القوّة. بل، لأنّ “عدم الخوف” كان طريقتي في المواجهة. يجب ألاّ أخاف خصماً أو عدوّاً. لكنّني اليوم خفتُ كثيراً. صرتُ أخاف من “الطير الطاير”. فبعدما أصبحتُ أمّاً، صرتُ أخاف على نفسي وعلى يُتْم ابنتي. ولبنان جعلني أمّاً حزينة. حزينة عليه وعلى حالي وعلى أهلي وناسي. ولكن ماذا يحصل؟

ألفُ روايةٍ ورواية. قالوا دهت لبنان دهياء، فلقد اغتالوا الحريري الإبن عشيَّة إعلان أسماء قَتلَة الحريري الأب. وبدأت التحليلات الإعلاميَّة تجتهد. ها هو ردّ حزب الله الاستباقي على الحُكم المنتظَر للمحكمة الدوليَّة في السابع من آب/أغسطس الجاري. لحظات وظهرت الرواية الثانية. إنّه حريقٌ في أحد عنابر مرفأ بيروت، ما أدى إلى تفجُّر المفرقعات. الشباب لا يزالون، كما يبدو، تحت وطأة أجواء عيد الأضحى. يا فرحتي. بسرعة البرق تصدر الرواية الثالثة. لقد تمّ تفجير رأس نووي صغير بالعنبر الرقم 12 خشيةً من انفجارٍ أكبر كان يمكن له (لو حصل) أن يدمّر بيروت عن بكرة أبيها. شكراً للربّ. سرعان ما نفت المصادر المطّلعة والعليمة هذا الاحتمال. إليكم روايةً جديدة، فلنستمع: الطيران الإسرائيلي أطلق صاروخاً على العنبر 12 حيث ذخائر حزب الله تُخزَّن وتُحفَظ برعاية الجمارك اللبنانيَّة. يا لسعدنا بالحزب المقاوِم. “ما هذا الكلام المعيب؟”، يسأل وزير الداخليَّة النشيط (والذي لن ينسى للعماد ميشال عون تغطية قتْل وزيرنا لشخصيْن في الحرب). فهو سخر من كلّ الروايات المُساقة، غامزاً من قناة التهريب عبر المرفأ، تحت أنظار الجمارك إيّاها. وأخيراً وصلتنا الرواية التي بدا أنّها الأكثر قابليَّة للتصديق. ماذا تقول العصفورة؟

لقد أنذروهم بأنّ مصيبةً ستقع لبيروت، عاجلاً أم آجلاً، إذا بقيت هذه المواد المتفجِّرة السامّة حيثُ هي. لكنّهم لم يبالوا. هم مشغولون بأمورٍ أهمّ. هكذا هم حكّامنا في اللحظات الصعبة في الحياة. في حياتنا التي حوّلوها إلى جحيم

تقول إنّ كميَّة كبيرة من “نيترات الأمونيوم” مخزّنة منذ سنوات، بعلْمِ الدولة اللبنانيَّة ومن دون علْمها في الوقت نفسه، انفجرت لسببٍ ما. ما هو سبب انفجارها؟ كلام… كلام… كلام من دون معنى. هل جرّبتم يا أصدقاء، يوماً، أن تقولوا كلاماً بلا معنى؟ نحن في لبنان نمتهن هذا النوع من الكلام. ويُتقنه، تحديداً، حكّامنا الأشاوس الذين كانوا يأخذون قيلولة ساعة الانفجار المروِّع. هم لا يتكلّمون إلاّ، حيث لا يجب أو لا يصحّ الكلام. وبالمقابل، يصمتون حين يجب أو يصحّ الكلام. في دولةٍ تحترم نفسها، بالحدّ الأدنى، كان لحدثٍ كزلزال تشرنوبيل اللبناني أن يطيح بالحكومة ورئيس الجمهوريَّة معاً. لكنّهم وقفوا (وهم نيام) ولم يقولوا شيئاً. يا إلهي، كم يخافون الكلام في مثل هذه الأوقات! فكلّنا يذكر يوم انطلقت الثورة كيف “نامت نواطير مصر مع ثعالبها”. هم يخافون الكلام، لأنّ الكلمات تفضح. فالكلمات غريبةُ الطباع. شفّافة كالزجاج. فصيحة كملامح الإنسان الجاحظة. وحين تخرج من فم إنسانٍ مُنافق، فهي تخرج قلقة تتصبّب خجلاً. ماذا يمكن لحُكّامنا أن يقولوا لبيروت المنكوبة؟ ماذا يمكن أن يقولوا لفقرائها الذين قضوا تحت أنقاض بيوتهم الرثّة في منطقة المرفأ ـ الكرنتينا، حيث انفجر “نيترات الأمونيوم” الفاسد؟

لقد أنذروهم بأنّ مصيبةً ستقع لبيروت، عاجلاً أم آجلاً، إذا بقيت هذه المواد المتفجِّرة السامّة حيثُ هي. لكنّهم لم يبالوا. هم مشغولون بأمورٍ أهمّ. هكذا هم حكّامنا في اللحظات الصعبة في الحياة. في حياتنا التي حوّلوها إلى جحيم. وهكذا، يُلهمهم الربّ كي يخرسوا فيخرسون. كي يناموا فينامون. كي يستقيلوا فيمتنعون. ربّما لأنّ وجودهم ضرورة للنبات كي يحصل التمثيل الكلوروفيلي. وللحيوان وكلّ الكائنات الحيَّة. وجودهم في الحياة عضوي لاستمرار دورة الحياة. كيف لا، وعلى أكتافهم يشيلون المهمّات الجسام والمصيريَّة للمصير البشري؟ يجب ألاّ نظلمهم. كان الله في عونهم! ولكن، لماذا يعينهم الله ويقسو على بيروت إلى هذا الحدّ؟ أمرٌ محيِّر.

كلّ يوم نقول، ها قد وصلنا إلى نهاية درب الجلجلة. فهذا أقصى ما يمكن أن يحصل لنا! فإذا بنا نوقن أنّ الأسوأ لم يأتِ بعد!

يروي الأجداد أنّ بيروت تدمّرت سبع مرّات وقامت من كبوتها مرّةً بعد مرّة. منذ بدايات القرن الثاني قبل الميلاد، وبيروت تختزن مآسي البشريَّة، وتردّ باللحم الحيّ الضربات عنها. لقد أرهقتها الحصارات والزلازل والحرائق والحروب. كتب عن حزنها الشعراء والرحّالة والمؤرِّخون، فبكى شجر السرو في السرّ وانتحب النرجس في الساحات. وها هي بيروتنا اليوم تدور الدنيا مجدّداً. قد تلخّص عبارة “النكبة” الكثير. نكبة بيروت. نكبة لبنان. نكبة اللبنانيّين. غير أنّها تبقى غير كافية لوصف ما يحصل. كلُّ تفصيلٍ في حياتنا يا ناس، بات يصلح لفيلمٍ سينمائي. كلّ يوم نقول، ها قد وصلنا إلى نهاية درب الجلجلة. فهذا أقصى ما يمكن أن يحصل لنا! فإذا بنا نوقن أنّ الأسوأ لم يأتِ بعد!

إقرأ على موقع 180  أحوال العرب اليوم.. آمالٌ مفقودةٌ وأهوالٌ مستمرةٌ

في مقالتي لمناسبة ذكرى الحرب اللبنانيَّة (في 13 نيسان/أبريل)، كتبتُ سطوراً عمّا دار بين زميلتي في الجامعة وبيني، من تعدادٍ للويلات التي ألمَّت بنا في لبنان. ولا بأس من التذكير بها: قلتُ لها جرّبنا كلّ شيء. جرّبنا المعارك العسكريَّة، والقصف العشوائي، والاجتياحات، والاحتلالات، والقنابل العنقوديَّة والفراغيَّة، والسيارات المفخّخة، والمفخّخات البشريَّة، والخطف، والمعتقلات، والذبح، والسحل، والفساد المعمّم، والإفلاس، والحكّام اللصوص، والاقتصاد المنهار، وعصابة المصارف، والسلم الأهلي المتآكّل، والبنى التحتيَّة المتصدّعة، والهواء المسموم، والمياه الملوّثة، والخضار المسرطَنة، واللحوم الفاسدة، والجوع، والنفايات على أنواعها، والفيضانات، والحرائق، والكورونا… ولم يبقَ بعيداً عنّا إلاّ الجراد! لكن لم يخطر ببالي، أبداً، أنّ هناك سحراً للموت بـ”نيترات الأمونيوم” لم نجرِّبه بعد. حتى أنتَ يا “نيترات” لم تنسَنا؟!

لا شيء يُقال أمام نكبة الرابع من آب/أغسطس التي حلّت ببيروت. لا شيء عندنا نهديه للعالم إلاّ القلق. وكلّ شيء في غير محلِّه يمثِّل حالة من حالات القلق. فباقةٌ من الزهور توضع في غير مكانها هي باقة قلقة. وأغنية رائعة ترفرف في سمعك في لحظة غير مناسبة تصبح طائراً كاسراً.

كلمة أخيرة. خاطب نزار قباني يوماً بيروت، وقال لها في ما قال: “الله يفتّش في خارطة الجنّة عن لبنان.. والبحر يفتّش في دفتره الأزرق عن لبنان.. أعطيني كفّكِ يا جوهرة الليل وزنبقة البلدان… يا ستّ الدنيا يا بيروت.. قومي من تحت الردم كزهرة لوزٍ في نيسان.. قومي من حزنك إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان…”. إقتضى أن يبدأ مخاض الثورة يا بيروت.. إقتضى. لكِ وللشهداء والجرحى حبٌّ كبير وألفُ وردةٍ ووردة.

 

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  حراك دولي واقليمي.. لا يكسر حرفاً من حروف الاستعصاء اللبناني!