أن تُقر الأحزاب بإخفاقها.. حكومة بلا حزبيين!

على مشارف تشكيل الرئيس سعد الحريري حكومته الرابعة، يعلو منسوب التوافق على خلو الحكومة المقبلة من الوزراء الحزبيين، والتوافق إياه كانت عرفته حكومة حسان دياب المستقيلة.

صحيح أن القوى الحزبية ومن واقع كونها في مقام “أهل الربط  والحل”، تقبض على قرار تصنيع الحكومة على المستوى السياسي، إلا أن موافقتها على عدم مشاركة محازبيها المباشرين في التشكيلة الوزارية، يعني اعترافاً غير مباشر بإخفاق الأداء السياسي للأحزاب اللبنانية.

هذا الإعتراف غير المعلن، يرافقه إعتراف آخر مضمر وغير معلن أيضاً، ينهض مضمونه على غياب الكفاءات التقنية عن الأحزاب السياسية، ولذلك جمعها التوافق على إختيار وزراء تقنيين ومن ذوي الكفاءة ومن غير المنضوين في الأطر التنظيمية والحزبية.

هذان إعترافان عمليان، يلقيان على عاتق العمل الحزبي في لبنان مراجعة ضرروية لإشكاليتين يلخصهما سؤالان في غاية الأهمية: لماذا الوزراء الحزبيون غير مقنعين في إدارة السلطة التنفيذية؟ ولماذا يغيب التقنيون والكفؤون عن الأحزاب؟

هاتان الإشكاليتان تطرحان على بساط البحث والجدال آليات العمل الحزبي في لبنان، وعما إذا كانت تلك الآليات تحول دون إنتاج عقول سياسية مقنعة ومفكرة وأدمغة تقنية مبدعة في مجالاتها وميادين عملها، ومن هاتين الإشكاليتين يطل السؤال الكبير: لماذا لم تنتج الأحزاب اللبنانية مفكرين ولماذا لم تنتج هذه الأحزاب مبدعين؟.

هذه التساؤلات والأسئلة تدفع إلى جادة النقاش أيضا إعادة تعريف الحزب السياسي ودوره ومفهومه لعلم السياسة، وضمن أية معايير يتم اختيار الوزراء أو المنخرطين في القطاع العام، وما حدود قراءاتهم ومعارفهم السياسية، ومدى إعتبارهم السياسة فعلاً نبيلاً غرضه خدمة المصالح العامة والوطنية.

ما سبق قوله يستلزم العودة إلى بداهات الممارسة السياسية وتعريفاتها، ومثل هذا الأمر يقتضي العودة إلى سؤال الفيلسوف سقراط: ما السياسة؟.

طرح سقراط ذاك السؤال وأجاب عنه أفلاطون وقال: “السياسة فن وعلم مثل سائر الفنون والعلوم كالطب وقيادة السفن وسياسة الخيول، فن السياسة يجب ان يتوخى مصلحة المحكوم دون الحاكم، مثل الطب يتوخى مصلحة المريض، والسائس مصلحة الخيول، وربان السفينة مصلحة الركاب”.

من هذه الإجابة الأفلاطونية، تبرز المقارنة بين مفهوم السياسة كخدمة عامة وبين تطبيقها العملي في لبنان، وهذه المقارنة تفضي إلى نتيجة بائسة، إما لأن غالبية من تولوا التوزير يجهلون أغراض السياسة ومهماتها، وإما لأنهم حادوا عن قواعد علومها وفنونها، وفي الحالتين كانت المصائب حصاد اللبنانيين.

من السياسة إلى الإقتصاد، وتعريفه الأولي سد الحاجات، ومقدماته قامت على نظام المقايضة، فما كان يحتاجه المرء من سلع غذائية، كان يقايضه بسلع مقابلة يحتاجها غيره، ومن نظام المقايضة نتجت التجارة، ومنها انبثق تكوين الثروات، ومن تكوين الثروات نتج احتكار الحاجات والتحكم بأسعار الحاجات.

تبرز المقارنة بين مفهوم السياسة كخدمة عامة وبين تطبيقها العملي في لبنان، وهذه المقارنة تفضي إلى نتيجة بائسة، إما لأن غالبية من تولوا التوزير يجهلون أغراض السياسة ومهماتها، وإما لأنهم حادوا عن قواعد علومها وفنونها، وفي الحالتين كانت المصائب حصاد اللبنانيين

في المشهد اللبناني الحالي، خروج كامل عن مبدأ توفير الحاجات وتطبيق كامل لقاعدة “إحتكار الحاجات والتحكم بأسعار الحاجات”، من الغذاء إلى الدواء، ومن الماء إلى الكهرباء، بحيث لم تبق خارج دوائر الإحتكار سلعة وحاجة، بما فيها الأفكار التي باتت حكراً على هذه الفئة أو تلك.

أين الدولة؟

يقول فلاسفة السياسة إن الدولة نشأت من الحاجة إلى الأمن، ولما  تكاثرت الخشية من سلب المحاصيل الزراعية ونهبها، راحت الجماعات البشرية تختار رجالاً أقوياء ليحموا المحاصيل المذكورة  لقاء أجر مدفوع، ومن فكرة حماية المحاصيل نشأت فكرة الأمن الغذائي، ومنه  تبلورت فكرة الأمن المجتمعي الهادف إلى حماية أفراد  الجماعة من أشقياء في داخلها.

ما المقصود من هذا التعريف؟

المقصود تسليط الضوء على أهم وظائف الدولة، وتلك الوظائف معنية بتوفير الغذاء لمواطنيها وحمايتهم، وكلاهما يرتبطان بالأمن، ولو تم النظر إلى الغذاء المفقود والأمن الضائع في لبنان، لقفز السؤال الوجيه إلى واجهة الحكومات اللبنانية ووزرائها المتعاقبين عما حقّقوه من أمن غذائي وإستقرار مجتمعي لمواطنيهم، فضلاً عن سائر مقومات العيش الكريم.

هذه الخلاصات، من تعريف السياسة إلى مفهوم الدولة، هي حق من حقوق اللبنانيين ليسألوا أحزابهم ويسائلوها عن إختياراتها الوزارية السابقة التي لم تكن مقنعة بأغلبها، لا من حيث الوعي السياسي، ولا من حيث الكفاءة التقنية، ومن هذا المنظور،  تكون الأحزاب قد فعلت حسناً حين إستشعرت بنقصان أجسامها التنظيمية من الكفاءات المطلوبة وذهبت إلى التوافق على الإستعانة  بكفاءات غير حزبية، ولا يمكن إدراج هذه الإستعانة إلا في إطار إيجابي لصالح الأحزاب، وتؤشر إلى ما هو أبعد من بدايات النقد ذاتي، بل إلى قناعات حزبية  بضرورة إجراء مراجعات لا بد منها ولا غنى عنها.

هل يمكن إنقاذ الدولة اللبنانية بعد انحلالها الحاصل؟

لا شك. يمكن إنقاذ الدولة إذا عرفت القوى السياسية أسباب إنحلال الدولة، وهذه الأسباب، كان أول من فنّدها أفلاطون، ولم يأت بعده من زاد عليها إلا قليلاً، وموجز إنحلال الدولة يكمن في كثرة قوانينها وعدم تطبيقها، فينفر الناس منها، كما أن شيوع الخلافات بين “طبقة الحكام” يودي بالدولة ويهلكها ويباعد بين الحاكمين والمحكومين، وإذا ما أضيف الفساد إلى أسباب إنهيار الدولة وإنحلالها، يغدو موجز إنحلال  الدولة قائم على ثلاثية: عدم تطبيق القوانين وخلافات الطبقة الحاكمة وتفشي الفساد وإنتشاره.

إقرأ على موقع 180  نهاية العقد الثاني للألفية الثانية: إلى أين نتجه؟

ذاك ما قاله أفلاطون، حين كان يتحدث عن بلاد الإغريق.

كأنه كان يتحدث عن لبنان.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": إسرائيل تنهار.. ومستقبلها مظلم