“حزب الله” في موسكو.. الصورة أولاً

مصادفة كانت أن تزامنت زيارة وفد "حزب الله" الى روسيا مع الذكرى العاشرة لبدء الأزمة في سوريا، لكن الملف السوري كان حاضراً، بما لا يحمل الشك، في اللقاء بين سيرغي لافروف ومسؤولي الخارجية الروسية، وبفارق عشرة أعوام أيضاً عن أول زيارة رسمية للحزب الى موسكو.

مصادفة أيضاً أن يتزامن وجود وفد “حزب الله” في موسكو مع وصول وزير خارجية اسرائيل غابي اشكينازي إلى موسكو اليوم، لمناسبة الذكرى الثلاثين لاقامة العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وإسرائيل.

المصادفتان مثيرتان لإسالة لعاب مخيلة المحللين والمراقبين الذين بدأ بعضهم يربط بين الزيارة وترتيبات تعمل عليها الدبلوماسية الروسية في اندفاعتها الأخيرة تجاه الشرق الأوسط، لا سيما بعد الجولة الخليجية التي قام بها وزير الخارجية سيرغي لافروف قبل أيام، والاجتماع الذي خصصه مجلس الأمن القومي الروسي للبحث في الوضع في الشرق الأوسط، والذي ترأسه الرئيس فلاديمير بوتين وشهد تقديم تقريرين حول الوضع في المنطقة، لكل من وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين.

لعلَّ شح المعلومات حول تفاصيل لقاء الدقائق الأربعين الذي جمع سيرغي لافروف بوفد “حزب الله” برئاسة النائب محمد رعد، قد فتح الباب أمام تكهنات ذهب بعضها باتجاه توقع ضغط روسي لتسريع تشكيل الحكومة اللبنانية، وبعضها الآخر باتجاه حديث عن ضغط آخر على “حزب الله” للقبول بترتيبات محتملة في سوريا.

لكن كل تلك التحليلات تهمل حقائق واقعية أهمها على الإطلاق أن الملف اللبناني يبقى هامشياً بالمقارنة مع الملفات الأكثر الحاحاً في السياسة الروسية في الشرق الأوسط، وركيزتها، كما هو معلوم للجميع، هي سوريا، وأن الدور الروسي في هذه المرحلة يكاد يقتصر على الاستماع إلى وجهات نظر كافة الأطراف لبنان، بدليل أن مبنى سمولينسكايا مفتوح منذ فترة طويلة لكل من يطرق بابه، أيا كان تأثيره في مجريات الأحداث في لبنان.

اللافت للإنتباه أن جهات لبنانية كثيرة تطلب مواعيد من الخارجية الروسية. وحده “حزب الله” لم يطلب موعداً. له أسبابه التي تجعله قادراً على التعامل بواقعية مع روسيا في أكثر من ساحة إقليمية ومنها لبنان. وجّه الروس دعوة رسمية إلى “حزب الله”، فكان من الطبيعي أن يلبيها. قد يكون الاستثناء الوحيد هو أن سيرغي لافروف نفسه اختار أن يلتقي وفد “حزب الله”، بدلاً من أن يوكل المهمة لنائبه ميخائيل بوغدانوف، وهو أمرٌ يمكن تفسيره باحتمال من اثنين: إما أن الوزير الروسي أراد أن يوازن دبلوماسياً بين لقاء سعد الحريري (الذي يزور موسكو بعد أيام) في ابو ظبي بلقاء مماثل لوفد يضم رئيس الكتلة البرلمانية لـ”حزب الله” في موسكو؛ وإما أن جدول أعمال اللقاء مع وفد “حزب الله” قد فرض حضور عميد الدبلوماسية الروسية لشرح المقاربة الروسية للوضع السوري، لا سيما أن الفترة الماضية شهدت الكثير من التأويلات للتحركات الروسية في هذا الشأن، وبالأخص بعد تشكيل “الترويكا” الجديدة في الدوحة (روسيا، قطر، تركيا) كإطار موازٍ لـ”ترويكا” أستانا (روسيا، ايران، تركيا)، بكل ما أثارته هذه المبادرة من تساؤلات وتكهنات.

يمكن افتراض أن اللقاء بين لافروف ووفد “حزب الله” طابعه استكشافي بروتوكولي، أكثر منه تقريري

انطلاقاً من ذلك، يمكن افتراض أن اللقاء بين لافروف ووفد “حزب الله” طابعه استكشافي بروتوكولي، أكثر منه تقريري، وذلك لاعتبارين أساسيين:

الأول، أن إية ترتيبات جوهرية – سواء ميدانياً أو سياسياً – في سوريا لا يمكن أن يتخذ القرار بشأنها بين رئيس الدبلوماسية الروسية ورئيس كتلة برلمانية لـ”حزب الله” (حتى وإن كان عضواً في مجلس الشورى، أي أعلى هيئة قيادية في “حزب الله”)، خصوصاً أن لمثل تلك القرارات آليات خاصة، مفتاحها الأول في طهران. زدْ على ذلك أن الترتيبات الميدانية المباشرة على الأرض السورية، لها قنواتها ويلتقي في العديد منها ضباط روس مع ضباط من “حزب الله”، وهو مسار تم تدشينه في خريف العام 2015، تاريخ التدخل الروسي في سوريا وما زال ثابتاً حتى يومنا هذا، برغم تراجع وتيرة العمليات الميدانية في السنتين الماضيتين.

الثاني، هو أن روسيا تدرك جيداً أن أوان أية مبادرة يمكن أن تطرحها لبنانياً لم يحن بعد، لا سيما في ظل التسليم بحصرية الدور الفرنسي، وهو أمرٌ تكشف، عبر المصادر الدبلوماسية، بعيد انفجار الرابع من آب/أغسطس، وبداية تكوّن مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون، حين سعت موسكو لأن تكون شريكة فيها، فيما اختارت باريس أن تكون وسيطاً لا شريك له، وهو ما تقبلته الدبلوماسية الروسية حينها لأسباب تتجاوز بالتأكيد الصداع اللبناني.

ما سبق لا ينفي بالطبع أن تكون القيادة الروسية “مُشجِعة” لحل الأزمة السياسية في لبنان، وبوابته “تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري في أقرب وقت ممكن، تكون قادرة على ضمان خروج لبنان من الأزمة القائمة حالياً”، بحسب ما جاء في بيان وزارة الخارجية الروسية غداة اللقاء، مع التشديد على “دعم سيادة لبنان ووحدته وسلامة أراضيه” وعلى “ضرورة حل القضايا المستعصية على الأجندة الوطنية على أساس حوار واسع بمشاركة ممثلين عن كافة الطوائف الدينية الرائدة في المجتمع اللبناني حصرياً في المجال القانوني ودون تدخل أجنبي”.

يبدو هنا البيان الروسي مشابهاً الى حد كبير مع ذاك الذي صدر في أعقاب اللقاء بين سيرغي لافروف وسعد الحريري في أبو ظبي، سواء من حيث الشكل أو المضمون، والذي لا يمكن تجاهل ربطه الدائم بين الوضع الداخلي اللبناني والأزمة السورية، في مؤشر واضح على أن موسكو تقارب الملف اللبناني بالتبعية لمقاربتها للملف السوري، وليس العكس.

النقطة التي يدركها الروس جيداً، قبل إستقبال وفد “حزب الله” وبعده، أن الحزب يمتلك هوامش لبنانية وإقليمية غير عادية تؤهله أن يتخذ قرارات من دون العودة بالضرورة إلى الإيرانيين

من الواضح أن روسيا تحاول إعادة الملف السوري إلى المسار الدبلوماسي مرة أخرى، لا سيما في ظل حالة عدم اليقين المتصلة بمستقبل التسوية السورية، وفي ظل جمود (لا بل انزلاق) مسار “أستانا”، ولذلك من المؤكد أن البند الأهم في لقاء سيرغي لافروف بوفد “حزب الله” كان البند السوري، في ضوء الحاجة المتبادلة لتداول وجهات النظر حول الوضع القائم حالياً في سوريا، برغم المفارقة اللافتة للإنتباه، شكلاً ومضموناً، والمتمثلة في قيام دولة عظمي (روسيا) بمناقشة ملف إقليمي كبير (الأزمة السورية) مع ممثل حزب لبناني، صار الكل يُقر عملياً بدروه الإقليمي، وهي النقطة التي يُركز عليها أكثر من طرف محلي، ولا سيما الحريري بتشديده على أن موضوع  سلاح “حزب الله” لم يعد موضوعاً محلياً بل صار موضوعاً إقليمياً. 

علاوة على ذلك، تبدو روسيا مهتمة  بتوضيح الكثير من النقاط الغامضة لطرف فاعل على الساحة السورية مثل “حزب الله”، ابتداءً من الموقف الروسي من الانتخابات الرئاسية المقبلة، مروراً بالجدل حول مسألة تشكيل مجلس عسكري في سوريا، وصولاً الى تفعيل صيغة “روسيا، تركيا، قطر” المستجدة.

ومن المؤكد كذلك أن “حزب الله” في حاجة إلى إجابات سياسية على كل ما يحدث، ما يجعل زيارة وفده البرلماني مشابهة الى حد ما بزيارة العام 2011، حين بدا واضحاً للجميع في ذلك الوقت، وبعد مرور بضعة أشهر على بدء الأزمة السورية، أن الحزب كان مهتماً بالدرجة الأولى بمعرفة الموقف الروسي الفعلي من بشار الأسد، وهي المهمة التي تولاها، وقتذاك، رئيس “قوة القدس” في الحرس الثوري قاسم سليماني، وإستوجبت زيارات عديدة إلى موسكو، تُوّجت بإجتماعه بفلاديمير بوتين، ومن بعدها زار طهران وإجتمع بمرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي، قبل أن يعطي الكرملين الضوء الأخضر لإنخراطه المباشر في الميدان السوري في أواخر أيلول/ سبتمبر 2015.

ولعل النقطة التي يدركها الروس جيداً، قبل إستقبال وفد “حزب الله” وبعده، أن الحزب يمتلك هوامش لبنانية وإقليمية غير عادية تؤهله أن يتخذ قرارات من دون العودة بالضرورة إلى الإيرانيين، وهي النقطة التي لطالما عبّر الإيرانيون عنها صراحة أكثر من مرة وآخرهم وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بقوله إن طهران لا تضغط على الحلفاء، وهو الجواب نفسه الذي سمعه الفرنسيون من الإيرانيين عندما طلبوا منهم التدخل مع “حزب الله” لإقناعه بالتخلي عن وزارة المالية وتسمية الوزراء الشيعة في مرحلة الرئيس المكلف مصطفى أديب.

إقرأ على موقع 180  الرد على ضربة القنصلية الإيرانية آتٍ.. لكن دون الحرب المفتوحة

بإختصار، إستقبال سيرغي لافروف لمحمد رعد على رأس وفد من “حزب الله” في مقر الخارجية الروسية هو الحدث. الصورة تكون أحياناً أهم وأقوى من البيانات المشتركة نفسها.

Print Friendly, PDF & Email
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  وقف "العدوان الثلاثي".. عبدالناصر وشمعون وثالثهما البستاني!