أوكرانيا.. أزمة ما كان لها أن تندلع مع روسيا

دبلوماسى روسى يعمل فى سفارة بلاده بواشنطن قال لى إن «المعضلة الحقيقية فى علاقتنا بالولايات المتحدة محورها اعتقادهم أن الحرب الباردة انتهت بانتصارهم وهزيمتنا، وعليه يتبنون سلوك المنتصر ويتوقعون منا سلوك المنهزم». وأضاف الدبلوماسى «نحن نرى أن الحرب الباردة انتهت دون إطلاق نار، ودون منتصر ولا مهزوم»، وهذا هو جوهر الخلافات بين موسكو وواشنطن فى العديد من القضايا العالمية، وعلى رأسها مصير أوكرانيا، الدولة المجاورة لروسيا والتى لا يعرف أغلب الأمريكيين موقعها على الخريطة.

تشتكى روسيا من تطور العلاقات العسكرية بين حلف الناتو وأوكرانيا، فى وقت حذر فيه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الناتو من أن نشر أسلحة أو جنود فى أوكرانيا يعنى تجاوز «الخط الأحمر» بالنسبة لبلاده، معتبرا أن أى تفكير فى ضم أوكرانيا للحلف سيؤدى لرد قوى وغير مسبوق.

تأسس الناتو (حلف شمال الأطلسى) عام 1949 من 12 دولة، ثم انضمت إليه 4 دول وأصبح العدد 16 دولة عند انتهاء حقبة الحرب الباردة فى بداية تسعينيات القرن الماضى. واحترمت الولايات المتحدة والدول الغربية التعهدات السابقة بعدم ضم أى دول من الأعضاء السابقين فى حلف وارسو، أو من الجمهوريات السوفيتية السابقة للحلف.

وفى 12 مارس/آذار 1999، وقفت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت مع وزراء خارجية بولندا والمجر وجمهورية التشيك فى بهو وزارة الخارجية لترحب رسميا بانضمام هذه الدول الثلاث لحلف الناتو. ثم انضم عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة للحلف فى عدة مناسبات حتى وصل عدد الدول الأعضاء إلى 30 دولة، ولتصل الحدود الرسمية للحلف إلى الحدود الروسية المتاخمة لكل من إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، وبولندا.

خلال لقاء جمع وزير الخارجية الأمريكى آنذاك جيمس بيكر بالزعيم السوفيتى ميخائيل جورباتشوف، حول مستقبل الأمن الأوروبى، أطلق بيكر جملة شهيرة «لا بوصة واحدة شرقا» فى تأكيد صريح لعدم نية واشنطن توسيع حلف شمال الأطلسى ــ الناتو ــ شرقا

واستمر الناتو فى التمدد شرقا، ويصر الحلف العسكرى الأكبر فى العالم، على أن التوسع فى عضويته عملية مفتوحة وأن أى بلد يستوفى معايير العضوية مؤهل للانضمام. لكن هذا ليس تماما ما تقوله معاهدة تأسيس الحلف التى تنص المادة 10 بها على ما يلى: «يجوز للأطراف، بالاتفاق بالإجماع، دعوة أى دولة أوروبية أخرى فى وضع يمكنها من تعزيز مبادئ هذه المعاهدة والمساهمة فى أمن منطقة شمال الأطلسى للانضمام إلى هذه المعاهدة». الكلمة الرئيسية هنا هى «يجوز» وهو ما يعنى عدم حتمية انضمام أى دولة إلى الحلف.

***

من ناحية أخرى، تتنافى إجراءات توسيع الناتو مع التعهدات التى حصل الاتحاد السوفيتى عليها من واشنطن وبقية العواصم الغربية فى خلال مباحثات توحيد ألمانيا عام 1990. وخلال لقاء جمع وزير الخارجية الأمريكى آنذاك جيمس بيكر بالزعيم السوفيتى ميخائيل جورباتشوف، حول مستقبل الأمن الأوروبى، أطلق بيكر جملة شهيرة «لا بوصة واحدة شرقا» فى تأكيد صريح لعدم نية واشنطن توسيع حلف شمال الأطلسى ــ الناتو ــ شرقا.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وحالة الضعف التى أصابت روسيا أثناء حكم الرئيس بوريس يلتسن، استغلت واشنطن وحلفاؤها الغربيون ذلك وتمدد الحلف شرقا فى اتجاه الحدود الروسية.

وتُظهر وثائق رُفعت عنها السرية من الأرشيف القومى الأمريكى، واطلعت عليها شخصيا، أن الرئيس السوفيتى الأخير ميخائيل جورباتشوف، قد تلقى ضمانات أمنية شفهية ضد توسع حلف شمال الأطلسى تجاه الشرق من الرئيس جورج بوش الأب، ووزير خارجيته جيمس بيكر، ومستشار ألمانيا هيلموت كول، ورئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر والرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران.

ولم يكترث جورباتشوف بطلب تدوين هذه الوعود فى صورة مكتوبة موقع عليها من كل الأطراف كى تصبح وثيقة ملزمة لأطرافها فى المستقبل. ويرى بعض المؤرخين أن تدوين وتوثيق الوعود الأمريكية والغربية كان من شأنه تجنب وقوع أزمة أوكرانيا الحالية.

***

وفى الوقت الذى ترتفع فيه الأصوات الداعية لتقديم المزيد من الدعم العسكرى الأمريكى لأوكرانيا، والتبكير بفرض عقوبات شديدة على روسيا بين كبار مسئولى إدارة الرئيس جو بايدن، تزداد الأصوات المعارضة للدور الأمريكى فى الأزمة الأوكرانية فى الوقت ذاته.

ويطالب عدد من الخبراء والمعلقين إدارة بايدن بالابتعاد عن التورط فى نزاع لا يخدم المصالح القومية الأمريكية، ويشتت جهود احتواء ومواجهة الصعود الصينى المستمر، والذى يمثل تحديا هيكليا للهيمنة الأمريكية.

أشار البروفيسور ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، إلى أن هذه الأزمة مع روسيا كان من الممكن تجنبها بأكملها لو لم تستسلم الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون للغطرسة والتمنى والمثالية الليبرالية واعتمدوا بدلا من ذلك على الرؤى الأساسية للواقعية

ومن الشائع فى واشنطن إلقاء اللوم على الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية. وعلى الرغم من أن الخبراء والمعلقين يؤمنون أن بوتين لا يستحق أى تعاطف بسبب سياساته الداخلية القمعية، وحملاته ضد المعارضين السياسيين الذين لا يشكلون أى خطر على نظامه، إلا أن أزمة أوكرانيا لا ترجع إلى مواقف بوتين فقط.

من جانبه أشار البروفيسور ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، إلى أن هذه الأزمة كان من الممكن تجنبها بأكملها لو لم تستسلم الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون للغطرسة والتمنى والمثالية الليبرالية واعتمدوا بدلا من ذلك على الرؤى الأساسية للواقعية. والواقع أن روسيا ربما لم تكن لتستولى على شبه جزيرة القرم، وأن أوكرانيا سوف تكون أكثر أمانا اليوم، لو اتبعت واشنطن سياسات مغايرة فى حقبة ما بعد الحرب الباردة.

إقرأ على موقع 180  من يملأ الفراغ الإستراتيجي المحتمل في الشرق الأوسط؟

وفى تقدير والت فإن «من اعتقد أنه من الممكن إقناع روسيا بنوايا حلف الناتو الحميدة، وأنه من السهل إقناع موسكو بعدم القلق من تسلل الحلف إلى الحدود الروسية، كان ساذجا إلى أقصى حد»، وأشار والت إلى أنه لو كان صناع السياسة الأمريكيون قد فكروا فى تاريخ بلادهم وحساسياتها الجغرافية، لكانوا فهموا كيف بدا توسيع حلف شمال الأطلسى لنظرائهم الروس.

وتعلن الولايات المتحدة مرارا وتكرارا أن نصف الكرة الغربى محظور على القوى العظمى الأخرى، وهددت، أو استخدمت القوة فى مناسبات عديدة لجعل هذا الإعلان واقعا. وإذا كان بوسع الجانب الأمريكى أن يقلق كثيرا بشأن دول صغيرة مجاورة مثل كوبا أو فنزويلا أو نيكاراجوا، فلماذا من الصعب أن نفهم ما يساور روسيا من شكوك خطيرة بشأن اقتراب أقوى حلف عسكرى فى العالم من حدودها!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  في غزة مَنْ يسبق مَنْ.. الحرب أم الحق؟