يمكننا تلخيص نتائج الهبّة غير المسبوقة على أرض فلسطين التاريخية من البحر للنهر، بخمس نتائج مباشرة، فيما سيتضحّ أكثر في الآتي من الأيام ما إذا كنا أمام انتفاضة سيُكتب لها أن تستمر ولا سيما في المناطق المحتلة عام 1948. ما يعنينا الآن تبيان النتائج الايجابية التي يجب إستثمارها في بناء وتدعيم أسس مشروع وطني فلسطيني جديد.
أولاً؛ حتى الأمس القريب، كانت فلسطين عبارة عن “فلسطينيات” وساحات. كيان فلسطيني في غزة وآخر في الضفة وثالث في أراضي الـ ٤٨ ورابع في الشتات. لكلّ من هذه الكيانات همومها وحياتها اليومية ومنابرها السياسية وقادتها ورموزها، الاّ أن ما يحدث الآن يستعيد الجغرافيا الفلسطينية كرافعة أساس للقضية الفلسطينية، بدلاً من حال الانقسام والتشرذم الذي كان حاصلاً. لم يعد من السهل الإستفراد بالساحات وأي إستهداف للفلسطيني في أي مكان هو إستهداف لكل الفلسطينيين في كل الساحات.
ثانياً؛ كانت اليد الطولى في المعركة للمقاومة التي استطاعت أن ترسم أفق المعادلة من اليوم الأول: غزة تحمي القدس! كان لافتاً للإنتباه هذه المرة أنّ الصاروخ الاوّل (أو بكلام آخر الطلقة الاولى) كانت من جانب الفلسطينيين ولهذا دلالات كثيرة. إضافةً الى ذلك، بدا واضحاً للجميع أنّ الفصائل الفلسطينية المقاومة ازدادات تسلحاً، كماً ونوعاً، الى الحدّ الذي مكنّها من التحكم بإيقاع المواجهة، خاصة بعد أن قصفت تل أبيب ليل السبت- الاحد ١٥-١٦ أيار/ مايو بـ ١٥٠ صاروخ في غضون دقائق. يبدو جلياً أنّ المقاومة الفلسطينية قد أعدّت العدّة لهذه المواجهة بذكاء ودراية وتخطيط، برغم ظروف الحصار والتجويع والتعطيش التي تجعل القطاع سجناً كبيراً.
ثالثاً؛ توّج الاضراب الوطني الشامل الذي نفذّ يوم الثلاثاء في ١٨ أيار/ مايو، مساراً متدحرجاً وأوصل رسالة بالغة الاهمية الى الكيان الصهيوني: كل فلسطين في المواجهة. هذا الدخول النوعي لفلسطينيي العام ١٩٤٨ على خطّ المواجهة، فاجأ لا بل أربك الإسرائيلي. هذه الكتلة العربية والتي احتارت الحكومات اليمينية المتعاقبة بكيفية التعامل معها، بين الاحتواء والمواجهة والتهجير والتدمير الإجتماعي (مخدرات وسلاح وعنف)، قد فرضت نفسها لاعباً أساسياً في المواجهة الشعبية، معلنةً بوضوح اصطفافها الى جانب الحقّ الفلسطينيّ. والجدير ذكره أنّ رئيس الكيان الصهيوني رؤوفين ريفلين كان قد تخوف من اندلاع “حرب أهلية” بين العرب والإسرائيليين “لا معنى لها” (على حد تعبيره)، وهذا ان حصل يعطي انطباعاً نقيضاً لما تروّج له إسرائيل لنفسها بأنها دولة ديمقراطية تؤمن الحقوق للجميع وبالتساوي بين سكانها.
أما وأن الحرب قد وضعت أوزارها فإن السؤال الذي سيغيّر كثيراً من المعادلات وَجَبَ صياغته على الشكل الآتي: ماذا لو استمرّت الضفة الغربية في هبتها وأراضي الـ ٤٨ في مواجهاتها والشتات في حراكه الشعبي وغزة في إستمرار تكريس معادلاتها وأبرزها عدم المس بالمسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح؟
رابعاً؛ في الحروب التي شنتها إسرائيل سابقاً على قطاع غزة، كان أهل الضفة يكتفون بتنظيم مسيرات شاجبة للعدوان. ان تفريغ الضفة من المقاومتين العسكرية والشعبية أتى بشكل منسّق ومدروس من قبل السلطة الفلسطينية والتي استمرت بالتنسيق الأمني مع سلطة الاحتلال، انسجاماً مع مندرجات اتفاق أوسلو. الا أن ما يجري الان في الضفة أعاد مدن وبلدات الضفة الى قلب المواجهة الشعبية، حيث تحوّلت مسيرات الغضب الى اشتباكات بالحجارة مع نقاط تمركز الجنود الإسرائيليين، كما تحوّل الاضراب الوطني الى ساعات من المواجهات البطولية في مدن وبلدات عديدة في الضفة الغربية، وسقط خلال الأيام العشرة من المواجهات أكثر من عشرة شهداء ومئات الجرحى وإعتقل العشرات من أبناء الضفة.
خامساً؛ قبل هذه الهبة النوعية، كانت قد تراجع الاهتمام السياسي والشعبيّ والإعلامي بالقضية الفلسطينية اذ أن الاحداث التي تلت انطلاقة الربيع العربي وانشغال البلدان بـ”ثوراتها”، قد ساهم في تقليل الحيّز المخصّص للقضية الفلسطينية في العالم العربي باستثناء فترات معينة شهدت حروباً واعتداءات إسرائيلية بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٦. الاّ أن ما نشهده اليوم عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، يؤكد أنّ القضية الفلسطينية استعادت مساحتها في الاعلام، وحجم التأييد الغربي وتعاطف الرأي العام العالمي مع فلسطين بدا واضحاً من خلال محطات التلفزة وكبرى المؤسسات الإعلامية العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي. هذه الأخيرة خيضت عبرها معارك تحشيد للرأي العام على الرغم من إنحياز إداراتها للجانب الإسرائيلي حيث أقدمت على حجب أغلب المحتوى المناصر للقضية الفلسطينية وعلى مختلف شبكات التواصل، وبررّت ذلك بأنّ هذه المنشورات تخالف القواعد العامة لوسائل التواصل الاجتماعي لأنها تعمّم مشاهد العنف والدمّ!
سادساً؛ أكاد لا أبالغ إذا قلت بأنّ المفاعيل السياسية لهذه المعركة تشبه نتائج حرب تموز/ يوليو ٢٠٠٦ لناحية وضع قواعد اشتباك وردع جديدة. مقارنة أخرى وجب استحضارها في الخانة نفسها: كما أنهت حرب تموز مستقبل رئيس الوزراء إيهود أولمرت السياسي في الـ ٢٠٠٦، ها هي غزة تقضي على مستقبل بنيامين نتيناهو بعد ١2 عاماً من الحكم المتواصل، من دون أوهام بشأن البديل الذي سيكون أكثر يمينية وحقداً وتغولاً..
أما وأن الحرب قد وضعت أوزارها فإن السؤال الذي سيغيّر كثيراً من المعادلات وَجَبَ صياغته على الشكل الآتي: ماذا لو استمرّت الضفة الغربية في هبتها وأراضي الـ ٤٨ في مواجهاتها والشتات في حراكه الشعبي وغزة في إستمرار تكريس معادلاتها وأبرزها عدم المس بالمسجد الأقصى وحي الشيخ جرّاح؟
هنا تكمن أهمية ما حدث ويحدث اليوم: استعادة الجغرافيا النضالية الفلسطينية في أبهى حللها ضدّ دولة الاجرام الصهيوني والتطهير العرقي.
ختاماً، يمكن القول إن النتائج التي أسفرت عنها هذه الحرب والتي عرضنا بعض نقاطها السياسية تكاد تفتح الأفق نحو ولادة فلسطينية جديدة، وربما عربية أيضاً. فلنتأمل!