

فجأة يظهر علينا أحد عناصر السلطة الجديدة في سوريا وهو يقرأ “السويداء بلا أمية“؛ لافتة تعود إلى الزمن الذي أعلنت فيه السويداء خلوها من الأمية. لكنّ مقاتلاً من وزارة الدفاع السورية رأى فيها إثباتاّ على كراهية أبناء جبل العرب لـ”بني أمية”، كما يحلو له أن يُفسّر وأن يختار الخانة التي يضع نفسه فيها!
وقد تداول السوريون هذا الفيديو كنوع من الكوميديا السوداء التي ازدادت الحاجة إليها في الأشهر الأخيرة. هنا لا يمكن التوقف عند المقطع على أنه مجرد فكاهة ساذجة، لأنّ “المؤدي/ الممثل هو المقاتل/ صاحب السلاح والسلطة”، وإنما عينة عن الغباء في إدارة البلاد، أو ربما إدارة البلاد بالغباء.. الغباء بمعنى غياب الرؤية الكفيلة بالتفاعل مع جميع المكونات السورية حتى تكون جزءاً لا يتجزأ من الدولة الجديدة.
استباحة.. في كل الأحوال
لنأخذ تجربة العلويين في الساحل وحمص وحماة، وهي تجربة ما تزال طريّة، غضّة، قائمة ومستمرة. تشهد مناطق العلويين يومياً انتهاكات عديدة، من قتل مدنيين أبرياء، وتهجير سكان، والسطو على محالٍ تجارية، والإجبار على دفع الجزية، وخطف نساء وفتيات، والإذلال العلني للمقاتلين بعد تسليم سلاحهم بشكل طوعي؛ هنا يصبح عرض السلطة الجديدة ليس “سلّمونا السلاح وإلا سنستبيحكم”، بل “عندما تسلّمون سلاحكم سنُبيدكم ونستبيحكم”.
وإذا كانت السياسة فنُّ الممكن والتفاوض وتحقيق منفعة متبادلة (ولو كانت غير متساوية)، فماذا يُسمى تخيير أبناء السويداء بين خيارين أفضلهما الاستباحة؟
البديهي أن الإنسان بطبيعته يرفض الذل والاستسلام. وعندما تعرض عليه خيارين، كلاهما يُسبب ضرراً نفسياً واجتماعياً، سيختار الأقل ضرراً. وهذا يعكس مقاومة نفسية قوية للحفاظ على الهوية والكرامة والاحترام الذاتي للجماعة. فالرسالة التي توجهها قوات السلطة تحمل شعوراً بالإذلال والهجوم على الكرامة الشخصية والجماعية للسكان المحليين، مما يثير ردود فعل دفاعية قوية.
ومن المعروف أنّ التركيبة الاجتماعية في السويداء ترتكز على قيم الشرف والكرامة والمقاومة، وهي جزء أساسي من هوية المجتمع. وإدراك الأهالي أنهم يتعرضون للتهديد وللإذلال، وطلب سلاحهم يعني تفكيك هذه الهويات والقيم، ما يولد رفضاً جماعياً. قوة الروابط الاجتماعية والروحية تلعب دوراً في تعزيز الحاجة إلى السلاح كوسيلة للبقاء والحماية الذاتية.
وقد كشفت أحداث السويداء، ومن قبلها صحنايا ومجازر الساحل السوري، فشل السلطة في إدارة أزمات البلاد بطريقة عقلانية، لا بل اتباعها سياسة “إما استسلام وخضوع أو استباحة”، وهذا تعبير عن الافتقاد إلى رؤية سياسية حكيمة تخدم الاستقرار. السلطة تبدو عاجزة عن بناء ثقة مع المجتمعات المحلية، وتصرُّ على الضغط والترهيب كأدوات أساسية، ما يزيد من التوتر ويعزّز المواقف المتشددة للحفاظ على السلاح. من الناحية السياسية، هذه سياسة قصيرة النظر قد تؤدي إلى مزيد من العنف وعدم الاستقرار بدلاً من تحقيق الأمن والنظام.
تسلسل مُريب
في 12 تموز/يوليو الماضي، تعرض تاجر درزي للسرقة والاختطاف والإهانات الطائفية على يد عناصر حاجز على طريق دمشق – السويداء؛ وبحسب الكاتب والصحافي مازن عزي، جاء هذا الحادث غداة قيام عصابة محلية كانت على علاقة سابقة مع الأمن العسكري للنظام الأسدي بخطف مجموعة من بدو المقوس لأسباب مشبوهة، تلاها خطف مجموعة من بدو المقوس لمواطنين دروز من السويداء. بعدها أعلنت سلطة أحمد الشرع إرسال قوات لفض الاشتباك والقضاء على “العصابات الخارجة عن القانون”.
وفي يومي 15 و16 تموز/يوليو نفذت سلطات الشرع والعشائر عملية عسكرية بالدبابات والمدفعية والهاون والدرونات، وارتكبت المجازر البشعة، ثم اضطرت بعدها للانسحاب، لا سيما في ضوء التدخل الإسرائيلي السافر في تلك الأحداث.
ولم يكد أهل السويداء يستفيقون من المجزرة، وبالكاد يحاولون جمع جثث الأبرياء من الشوارع، حتى واجهوا حملة إعلامية كبيرة نشرت الكثير من الصور ومقاطع الفيديو التي تدعي قيام فصائل السويداء بالاعتداء على البدو. وقد تبين أن معظم هذه الصور مضلّلة وقديمة وتعود لدول أخرى. لكن ذلك لم يمنع الحشود العشائرية من أن تستقل السيارات و”البيك آبات” وحتى شاحنات برادات النقل، للوصول إلى السويداء، ومنها من أتى من دير الزور التي تبعد أكثر من 500 كيلومتر عن السويداء واحتاجت لأكثر من سبع ساعات لقطع هذه المسافة والحواجز العسكرية لسلطة أحمد الشرع و”قسد” برغم تنصل دمشق رسمياً من هذه “الهبّة المنظمة”.
سياسة الفزعات
أضف إلى ذلك أنّ تلك الفزعة العشائرية تتكون من عشيرتين نافذتين؛ العقيدات والنعيم، المنتشرتين شرقي دير الزور، ضمن مناطق تقع تحت مناطق خاضعة لـ”قسد” والسلطة الانتقالية.
وتتلقى عشيرة العقيدات أوامر مباشرة من قياديين اثنين في سلطة الشرع ينتميان إليها، وهما: رئيس جهاز الاستخبارات حسين السلامة، والقيادي البارز في “هيئة تحرير الشام” يوسف الهجر.
أما عشيرة النعيم، فيقودها محمد الجاسم المعروف باسم “أبو عمشة”، قائد فرقة العمشات التي انخرطت في الجيش السوري الجديد، علماً أن “أبو عمشة” معاقبٌ دولياً بجرائم حرب بحقّ العلويين والكُرد، وينحدر في الأصل من عشيرة النعيم في سهل الغاب في ريف حماة الشمالي- الغربي، برغم أنه يُروّج أحياناً لانتسابه إلى التُركمان لكسب دعم سياسي، وذلك بحسب الباحث السوري، مازن عزي.
هذا التسلسل المريب، يُحيلنا من سؤال “كيف تستطيع الدولة فعلاً نزع السلاح الخارج عن سلطتها؟” إلى آخر “هل تريد الدولة نزع السلاح المنفلت حقاً”؟
لبنان في السويداء
لم يكن لبنان يوماً بمعزل عن الأحداث السورية. ومع استيلاء “هيئة تحرير الشام” على دمشق، وقد ظهرت لدى “الشبيحة الجُدد” عدائية مفرطة تجاه لبنان والرغبة بضمه.. وبعد الهجوم الحكومي/ العشائري على السويداء وما نتج عنه من فظائع، أعلن القيادي الدرزي اللبناني وئام وهاب عن عزمه إرسال مقاتلين إلى السويداء ثم تراجع بعدها، كما بدا في فيديو يتحدث فيه مع مناصريه. لكن يبدو أنّ الشيخ نبيل رحيم عضو هيئة العلماء والمسلمين الذي طلب من الشبان الاستعداد في حال طلبتهم القيادة في سوريا، لم يتراجع.
إذ شيّعت وادي خالد الشاب مصطفى مليحان، الذي فزع للقتال في السويداء، ليتبين أنّ رفع صورة عملاقة للشرع في حي الصوالحة في وادي خالد ليس مجرد إعجاب أو تعبير عن مشاعر طائفية، فقد أرسلت عشائر وادي خالد العشرات من أبنائها لدعم البدو في مواجهة الدروز.
ويقطن في وادي خالد حوالي ثلاثين ألف سوري، ينتمون لعشيرتي غنّام والنعيم؛ الأولى التي ينحدر منها محمد الجاسم “أبو عمشة”، المعروف بأنه قائد الفرقة في الجيش السوري الجديد. وأظهرت اعترافات أحد المهاجمين على السويداء، أنه تابع للفرقة 62 أبو عمشة، وقد أخذوا منه بطاقته العسكرية “قالولي البس لبس عشائر وروحو عالسويدا، مشان الطيران الإسرائيلي ما يضربنا”.
انتقائية ومقتلة حصر السلاح
بالعودة إلى وادي خالد، ثمة سؤال بديهي: ما هو مبرر إرسال أبناء عشائر لبنانية إلى السويداء، تلك المحافظة التي لا يشكل تعداد سكانها أكثر من 600 ألف نسمة إذا شملنا معهم الدروز في مختلف المناطق السورية، هل هو انتماء عشائري وطائفي لا يعترف بالحدود؟ أم رغبة في القتل بعد سنوات القمع- كما قال أحد مقاتلي العشائر اللبنانية في تشييع مليحان “عالقليلة الشرع سني متلنا.. بكلمة منه منجمعلو ألوف”.
هذا السلاح العشائري الذي لا يعترف بالحدود أو الدولة الوطنية، يظهر في وقت تتصاعد فيه المطالبة بتسليم سلاح الحزب، دون الحديث عن سلاح العشائر أو أي سلاح آخر.. وهو السؤال ذاته في سوريا، إذ دأبت سلطات الشرع منذ يومها الأول على جمع السلاح من طرف واحد فقط، فأصبحت حيازة بارودة صيد عند العلويين أو المسيحيين جريمة كبرى وخطراً يهدد الكيان السوري. أمّا العشائر السورية، التي تبين بعد أحداث السويداء أنها تملك طائرات حربية مسيَّرة (درونات)، فلا يشكل سلاحها بنظر السلطة أي خطر على الدولة، رغم أنهم قرروا خوض حرب على بعد مئات الكيلومترات من مناطقهم، على عكس سلاح الدروز الذي لم يخرج من منازل السويداء.
هنا دعونا نتذكر حصار بيروت في صيف العام 1982، وكيف وافقت منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، تحت ضغط دولي، على تسليم السلاح الثقيل والخروج من لبنان، مقابل ضمانات بحماية المخيمات الفلسطينية، فكانت النتيجة كانت مذبحة مروعة بحق المدنيين الفلسطينيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، وسط تواطؤ من الأطراف الدولية الضامنة.
أيضاً في البوسنة، جُرد مسلمو سربرنيتسا من السلاح تحت وعود الحماية الدولية (قوات الأمم المتحدة)، فكان أن ارتكبت بحقهم إبادة جماعية ثبتها التاريخ الحديث باسم “مذبحة سربرنيتسا 1995″، ووراح ضحيتها الآلاف.
هذه التجارب وغيرها الكثير تكشف أن مطلب تسليم السلاح قد يكون مدخلاً للاستباحة أو ارتكاب المذابح بحق الجماعة المستهدفة عندما تغيب الضمانات الحقيقية، أو تتساوى خيارات الخضوع مع خيارات المقاومة في كلفتها الإنسانية والاجتماعية والسياسية.
تجربتا ليبيريا وسيراليون
في المقابل، أظهرت بعض تجارب نزع السلاح نتائج إيجابية بفضل توافر شروط حقيقية للثقة وضمانات أمنية واضحة، على أن تكون في سياق سلام شامل لا يشمل طرفاً واحداً فقط بل كل الأطراف الفاعلة، التي ارتبطت بإعادة دمج فعلي للمقاتلين في المجتمع، مثل جنوب إفريقيا بعد نهاية نظام الفصل العنصري، وتجارب ليبيريا وسيراليون بعد الحروب الأهلية هناك. فقد أدّى برنامج نزع السلاح والتسريح مع ضمانات المجتمع الدولي إلى خفض العنف وفتح الطريق لإعادة بناء الدولة والمجتمع.
وقد أطلقت ليبيريا بعد نهاية الحرب الأهلية برنامج “نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج” (DDRR)، حيث تم نزع سلاح وتفكيك أكثر من مئة ألف، وشمل البرنامج إخضاع المقاتلين السابقين لفحوصات طبية ودورات تدريبية لإعادة التأهيل، بالإضافة إلى منح مالية للمساعدة على بدء مشاريع أو العودة للحياة المدنية.
وربما تكون النقطة الأهم أن ليبيريا لم تفعل ذلك منفردة، إذ ساهمت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في تمويل وإدارة البرنامج، مع التركيز على شمول النساء والأطفال؛ وهو أمرٌ نادرٌ في مثل هذه البرامج.
فيما أنهت سيراليون عملية نزع السلاح والتأهيل بنجاح عام 2004، حيث تم نزع سلاح أكثر من 72,000 مقاتل وتسريح 71,043، بينهم 6,845 طفلًا. ولم يعد هناك أي تهديد من مجموعات مسلحة بعد انتهاء البرنامج حسب تقارير رسمية، ذلك بعد أن تلقّى المقاتلون السابقون منحًا مالية شهرية وتدريباً مهنياً في الحِرف والمهن المختلفة، مع توزيع “حقائب أدوات” لمزاولة الأعمال. بالإضافة لإتاحة التعليم الجامعي والمدرسي لحوالي 12,000 مقاتل سابق، ودعم تأسيس مشاريع صغيرة أو توفير وظائف في الزراعة وغيرها.
وعليه، يُعد نموذج سيراليون من بين أبرز الأمثلة الناجحة عالمياً، إذ لقي إشادة من البنك الدولي ومؤسسات دولية كممارسة رائدة لنزع السلاح وإعادة الدمج بعد الحرب الأهلية. ولعل النقطة الحاسمة في نجاح تجربة سيراليون هي الدعم المالي الدولي والإدارة الفعّالة للبرنامج من المنظمات الأممية، وما نتج عنها من مواءمة بين خطط السلام وإعادة إدماج المقاتلين فعليًا في المجتمع المدني.
إن أهم الدروس المُستفادة من هاتين التجربتين: توفير دعم مالي ومهني، وبرامج تعليمية وتأهيلية مُصممة للمقاتلين السابقين، وإشراك المجتمع المحلي وتهيئته لاستقبال العائدين لتحقيق قبول اجتماعي حقيقي، بالإضافة إلى ضمان المتابعة المستمرة وشبكات الأمان الاجتماعي لمنع العودة للعنف أو الاستقطاب من جماعات مسلحة جديدة.
وبرغم النجاح على المستوى الكلي، بقيت تحديات مثل البطالة وصعوبة تحقيق اندماج اقتصادي فعّال للبعض، والأمن والاستقرار طويل الأمد يحتاج لبرامج إعادة إدماج متواصلة وشاملة للعودة إلى الحياة المدنية.
لكنّ السؤال الأهم: أين سوريا من إعادة تأهيل هؤلاء المقاتلين قبل ضمّهم بشكل رسمي إلى الجيش؟ وكيف ترسل سلطة الشرع مقاتلين لحل مشكلة سياسية في السويداء قبل أن تتم أبسط إجراءات التدريب، إذ لم يسبق لجيش أن يتفاخر بأنه ذاهب لإبادة طائفة بعينها، ويقوم بإذلال شيوخها ونسائها ويصور ذلك وينشره على وسائل التواصل الاجتماعي؟
في الخُلاصة، يُمكن القول إنّ شرط النجاح الأساسي هو توافر اتفاق شامل وثقة متبادلة وضمانات قوية للجميع. وفي غياب هذه الشروط – إذا نزُع السلاح من طرف واحد فقط أو دون حماية حقيقية – يظلُّ الخطرُ قائماً بعودة العنف أو تعرّض الجماعة المنزوعة السلاح للانتهاكات وربما للإبادة.