“المحادثة الهاتفية الطويلة التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ واستغرقت 45 دقيقة كانت أكثر من تهنئة للرئيس الإسرائيلي الجديد. أردوغان ليس من محبّي الأحاديث القصيرة، وعندما يعلن الاثنان أن حديثهما تناول توثيق العلاقات بين الدولتين فإن أردوغان يتحدث عن أمور ملموسة.
منذ نهاية كانون الأول/ديسمبر 2020 سرّب مكتب أردوغان معلومات عن رغبته في تعيين سفير جديد في إسرائيل، وجرى الحديث عن شهر آذار/مارس كموعد لوصول السفير إلى إسرائيل. المرشح لهذا المنصب هو أولتاش أفق الذي كان رئيساً لمعهد الأبحاث SETA ودرس أيضاً في الجامعة العبرية. لكن وزارة الخارجية الإسرائيلية أوضحت لتركيا حينها أن أفق “غير مقبول من إسرائيل” بسبب مواقفه المعادية لها، والتي عبّر عنها في الماضي. فهمت تركيا وجمدت التعيين، وبسبب الانتخابات في إسرائيل قررت تأجيل تعيين السفير الجديد. من الممكن الآن أخيراً وعلى خلفية “الرياح الجديدة” التي تهب على الدولتين، وصول سفير تركي.
في مقابل عمليات جس النبض حيال إسرائيل، تُجري تركيا منذ بداية هذه السنة اتصالات مكثفة لترميم علاقاتها مع مصر. فالعلاقات بين الدولتين قُطعت جرّاء الانتقادات العنيفة التي وجّهها أردوغان إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ لحظة وصوله إلى السلطة في تموز/يوليو 2013 وإطاحته رجل الإخوان المسلمين محمد مرسي، الأمر الذي أدى إلى عرقلة تطلُّع تركيا إلى بناء جسر اقتصادي لها يصل إلى أفريقيا كلها.
وصلت العلاقات بين الدولتين إلى مستوى خطر عندما وقّعت تركيا اتفاقاً على تقاسُم المياه الاقتصادية مع ليبيا، وحاول أردوغان دق إسفين بحري بين حقول الغاز المصرية وبين أوروبا من خلال الدخول في مواجهة مع اليونان وقبرص، ومع دول الاتحاد الأوروبي التي هددت بفرض عقوبات عليه. ورداً على ذلك، أقامت مصر واليونان وقبرص والإمارات وإسرائيل منتدى الغاز في شرق البحر المتوسط، وسعت هذه الدول معاً لبناء أنبوب غاز ينقل الغاز الإسرائيلي والمصري عبر اليونان وإيطاليا، ومن هناك إلى كل أوروبا. حاول أردوغان بواسطة ممثليه إقناع إسرائيل بالانسحاب من المنتدى والانضمام إلى تركيا بحجة محقة، وهي أن نقل الغاز عبر تركيا سيكون أرخص. يوم الاثنين أصدر مكتب أردوغان بياناً جاء فيه أن الرئيسين التركي والإسرائيلي تحدثا عن التعاون في “مجالات الطاقة والسياحة والتكنولوجيا”. الطاقة تعني التعاون في مجال الغاز، وهو موضوع يهم أردوغان، ومن الواضح له أن من دون ترميم العلاقات لن يجد مَن يصغي إليه في إسرائيل.
لا يحق لحكومة بينت أن تتجاهل أو ترفض الفرصة لتوثيق العلاقات مع تركيا. فتركيا دولة إقليمية عظمى لديها نفوذ مهم في العراق وقطر وليبيا ووسط آسيا، وعلى الرغم من علاقاتها الجيدة مع إيران، فإنها لا تدور في فلكها. إذا وُجدت “كيمياء” بين أردوغان وهرتسوغ، فيجب استخدامها حتى دخول العلاقات الرسمية حيز التنفيذ
لكن حتى بعد تعيينه سيجد السفير التركي أن حكومة نفتالي بينت ستواصل الالتزام بالاتفاقات الرسمية وغير الرسمية مع مصر واليونان وقبرص. وسيكتشف أن تطلُّع أردوغان إلى لعب دور الوسيط في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني ليس مطروحاً على جدول الأعمال الإسرائيلي، في الأساس لأن المفاوضات السياسية تعاني، بحسب وزير الخارجية يائير لبيد، “استحالة سياسية”. لكن لا يحق لحكومة بينت أن تتجاهل أو ترفض الفرصة لتوثيق العلاقات مع تركيا. فتركيا دولة إقليمية عظمى لديها نفوذ مهم في العراق وقطر وليبيا ووسط آسيا، وعلى الرغم من علاقاتها الجيدة مع إيران، فإنها لا تدور في فلكها. إذا وُجدت “كيمياء” بين أردوغان وهرتسوغ، فيجب استخدامها حتى دخول العلاقات الرسمية حيز التنفيذ.
يمكن الاستنتاج من خطوات بينت ولبيد الأولى في المجال الدبلوماسي أنهما لا يكتفيان فقط بتوثيق العلاقات مع دول المنطقة، بل يتطلعان إلى إصلاح وترميم الأضرار التي تركها رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو وراءه. يمكن أن نجد الأدلة على ذلك في الاجتماع الذي عُقد بين بينت وبين العاهل الأردني الملك عبدالله، وفي قرار تحويل 50 مليون متر مكعب من المياه إلى الأردن، وتوثيق التعاون العسكري بين الدولتين، وكذلك في اجتماع لبيد بوزير الخارجية المصري سامح شكري.
كل هذا يضع الأسس لجو جديد يعتمد أيضاً على الاعتراف الإقليمي بأن الحكومة الجديدة – مقارنة بالسابقة – تحظى بعلاقات جيدة مع الإدارة الأميركية على الرغم من أنها لم تواجه اختباراً حقيقياً. بعد ساعتين على تولي رئيس الحكومة منصبه، التهنئة الأولى التي وصلته كانت من الرئيس الأميركي جو بايدن. طبعاً هي بادرة رمزية، لكنها تدل على توجه أميركي إلى منح حكومة إسرائيل اعتماداً جديداً – لا علاقة له بالعلاقات المعكرة التي تطورت بين نتنياهو وبايدن.
لهذا الاعتماد شروط، أهمها المحافظة على حقوق الإنسان، في الأساس في المناطق. تذكير لاذع تلقته إسرائيل في أعقاب هدم منزل منتصر شلبي المتهم بقتل مستوطن يهودي. إذ أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً غير مسبوق جاء فيه: “لا يجوز هدم منزل عائلة كاملة بسبب عمل شخص واحد، يجب تخفيض اللهب. وزير الخارجية أنتوني بلينكن وأطراف أُخرى عبّروا عن قلقهم لشخصيات إسرائيلية رفيعة المستوى، ونواصل العمل على وقف استخدام هذا الأسلوب.” يعلم الطرفان بأن هدم المنازل سيستمر، لكن في هذه الأثناء يبدو أن بينت تخلص من السلاح المدفعي الذي كان يستخدمه رئيس الحكومة السابق في كل مرة احتجت فيها واشنطن على سلوك إسرائيلي غير مقبول. ونظراً إلى أن أساس تأليف هذه الحكومة يقوم على التفاهم المشترك على الموضوعات التي لن تُطرَح على جدول الأعمال، وعلى رأسها المفاوضات السياسية، فإن واشنطن والقدس معفيتان من لعبة رسم الحدود بينهما، والتي أدت إلى الشرخ بين بايدن ونتنياهو. وهذا رصيد سجلته الحكومة لمصلحتها ويمكن أن يخدم علاقاتها مع دول المنطقة”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).