صورة طبيبة الأسنان التي قتل شقيقها أمام عينيها خلال مشاركتها في حفل زفاف ثم زوجها في اليوم التالي، كانت مغيبة بالكامل عن السرديات الاعلامية. وحتى هذه اللحظة والى اخر يوم في حياة هذه المرأة، لا اعرف كيف يمكنها التعامل مع هذه المأساة وكيف يمكن لوعيها ولاوعيها نسيان لحظات امتزج فستانها بدم أخيها وثياب عزائها بدم زوجها؟
تحوّل التفاعل مع هذه الحادثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصاً “تويتر” ـ الوسيلة الأكثر نخبوية مقارنة بمنصتي “فيسبوك” و”تيك توك” ـ إلى ساحة قتال رمزي طالت عباراتها شريحة من الصحافيات اللواتي تعبّرن عن رأي سياسي محمي بموجب الدستور، بمعزل عما إذا كان هذا الرأي صائباً او خاطئاً إلاّ أن وصمة مخزية طالتهن بسبب مذهبهن الديني الذي حاكمه البعض من خلال طريقة ارتدائهنّ للحجاب، فبرزت تعليقات تهينهنّ وتنعتهن بـ”بنات الزنا” بعيداً عن الردود العقلانية التي تحاجج بالمنطق والمعلومات. والمثير للجدل أن هذه الشريحة النسائية هي شريحة تعمل في التعليم الأكاديمي في الجامعات اللبنانية ولديها باع من الخبرات السياسية والثقافية، فهل أصبحت المرأة رهينة موقفها السياسي بعد أن كسرت قيود المجتمع الأبوي واستطاعت أن تصل إلى مراتب علمية ومهنية تسمح لها بتحليل حدث ما؟ وهل كانت نفس التعليقات ستطال الرجال من المحللين واصحاب الرأي؟
للاسف إنّ هذا المنحدر الأخلاقي الذي وصلنا إليه اليوم هو اللعنة الأقسى، حيث لا احترام لجنازة أو لرأي أو لقانون أو لقيمة أو لعرف أو دين.
اللعنة القاسية ليست الجوع ولا الظلام ولا كل ما أوصلنا إلى قعر الهاوية؛ اللعنة هي الانحلال الاخلاقي الذي اباح كل محظور، بدءاً من الفساد والسرقة وصولا إلى الاحتكار والغش.
فقدنا الثقة ببعضنا البعض؛ ببعض ما تبقى فينا من انسان، مع أن الضرورة اليوم هي ان نحمل فوانيس الأمل لإضاءة الطرقات الوعرة للأجيال التي جنينا عليها بما سترثه من مصائب هذا البلد، إلاّ أن حكمة النساء وحنوّهن وصبرّهن كفيلةٌ بتنظيف الأوساخ العالقة في قلوب كثيرين؛ اوساخ تراكمت بفعل خطاب الكراهية الذي ينمو كالفطريات، ومع هذا لكل امرأة أرادت أن ترفع صوتها وسط هذه الضوضاء، أقول: لا تهابي زعيقهم عليك.
لا يلجأ إلى العنف إلاّ الضعيف، وأمام صلابة النساء كُتبت تعليقات مخزية تصفهنّ بالعهر والانحلال والسقوط، تنعتهن بنساء المتعة، تلبسهُن تصورات نمطية وأحكاماً مسبقة، ولأن فضاء التواصل الاجتماعي وخصوصاً في لبنان هو مساحة لا تحكمها قوانين ولا تضبطها معايير، فإن الأخلاق ذهبت وذهبت معها الأمم، فإذا كان الانسان مستباحاً برصاصة طائشة او احتكار دواء، لا يمكن التنظير عن قيم التسامح والتعايش والانسانية والحرية إلخ…
تتفاقم أحوالنا في هذا الوطن، ويفقد الكثيرون منا الأمل ولا ينقص سوى إعلان الموت الرحيم، لكنّ من حفظت ذاكرتهن الحرب مع اسرائيل والحرب الأهلية والويلات، ومن سمع نشيجهنّ سحاب الظلام ورفع قامتهن نور النهار، يستطعن أن يلملمن أشلاء هذا البلد ورتق ما انفتقَ منها بحنو وعاطفة وطاقة حب متجددة كفيلة بتبديد كل احقاد التاريخ والحاضر المر.
فكما تجمَع اليوم ما تبقى من خضار وفتات خبز لتصنع صحن فتوش وكما تستطيع أن تحيك من خيوط الصوف كنزات لاطفال تقيهم غربة الوطن، وكما تستطيع أن تجمعهم تحت جناحها عندما يخيم ظلام انقطاع الكهرباء، وتحكي لهم عن حدائق غنّاء تنير قلوبهم الرقيقة، تستطيع نساء لبنان صناعة جيل واعٍ قادر على بناء وطن لكل ابنائه.
بئس ما تتعرض له الصحافيات او الناشطات السياسيات من اهانات لا يمكن ذكرها لما تحمله من ازدراء لقيمة المرأة كانسان وكشريك في المجتمع وكأم او أخت تلعب دوراً اساسياً في التربية الأولية في الأسرة والعائلة في مجتمعنا الشرقي الذي لا زالت أكتاف نسائه تحمل وطأة مآسيه وتحمل قلوبهن رجاء الغد الآتي.. وحتماً سيكون مشرقاً ومختلفاً.