كولن باول: إياكم والشفقة عليّ!

عرف كولن باول، وزير الخارجية الأميركي السابق، أن اسمه سيكون مرتبطاً بوصمة عار أبدية هي الغزو الأميركي المشؤوم للعراق عام 2003. وقد توفي باول يوم الإثنين الماضي جراء إصابته بفيروس كورونا. ومع أنه عبر مراراً عن ندمه، إلا أنه ظل حتى آخر أيامه يتبجح بأن حرب العراق كانت حرباً "سهلة"، كما صرح لبوب وودوارد من "الواشنطن بوست"(*) في آخر مكالمة هاتفية جرت بينهما قبل أشهر. هذا نصها.

“حتى اقتراب لحظة أجله، كان كولن باول لا يزال يصارع المرض.

في مقابلة أجريتها معه في شهر تموز/ يوليو قال باول لي: “لقد أُصبت بسرطان المايلوما المتعددة (**)، وأنا أيضاً مُصاب بمرض باركنسون. لكن، وبخلاف كل ذلك، أنا بخير”.

وأضاف: “بحق الله لا تحزنوا عليّ! إياكم والشفقة عليّ. إنني أبلغ من العمر [84] عاماً. لم أضع يوماً واحداً من دون أن أحارب فيه هذين المرضين. أنا في حالة جيدة”، رافضاً كل عبارات المواساة والتعاطف والحزن على حالته.

على مدار 32 عاماً، بدءاً من العام 1989، أي بعد الغزو الأميركي لبنما، أجريت حوالي 50 مقابلة مع باول، الذي كان أول رئيس أسود لهيئة الأركان المشتركة؛ وأول وزير خارجية أسود. كانت المقابلة الأخيرة عبارة عن اتصال هاتفي، أجريته معه قبل ثلاثة اشهر؛ تحديداً في 12 تموز/ يوليو، واستغرق 42 دقيقة. وقد سجلت تلك المكالمة بموافقة باول.

عن زياراته لمركز “والتر ريد” الطبي العسكري الوطني، قال باول: “طلب مني الأطباء أن أخضع لجميع أنواع الاختبارات. أنا مسؤول كبير سابق. لذا فهم لا يريدون أن يفقدونني. لقد جعلوني آتي إليهم طوال الوقت. أجريت الكثير من الاختبارات؛ كنت أذهب إلى هناك بمفردي. أقود سيارتي بمفردي في منطقة كورفيت، وأدخل المستشفى بمفردي. أذهب أيضاً إلى عيادة لإجراء فحوصات الدم. أنا لا أعلن عنها، ولكن معظم أصدقائي يعرفون ذلك”.

أفغانستان لم تكن للفوز

تحولنا بسرعة إلى قضايا الدفاع والسياسة الخارجية. سألته عن قرار الرئيس جو بايدن بسحب جميع القوات الأميركية بالكامل من أفغانستان، فقال: “لطالما كنت مقتنعاً بأنه علينا الخروج من هناك في النهاية. نحن لا نستطيع هزيمة هؤلاء الرجال. لذا، فلننتهي من الأمر. أفغانستان، كانت شيئاً لن نفوز به أبداً. الأفغان هم الفائزون. لديهم مئات الأشخاص ممن هم على استعداد للقتال والموت من أجل بلدهم. لذلك لم يكن لدي أية مشكلة في خروجنا من هناك. لا يمكننا تخفيض عدد قواتنا من مائة ألف جندي إلى بضع مئات ونعتقد أننا سننتصر”.

خلال مكالمتنا الهاتفية، اتصلت به زوجته، ألما باول.

طلب مني أن “ابقى على الخط دقيقة”. سمعته يقول وهو يصرخ عليها “أنا على الهاتف، ألما!”. ثم أضاف هامساً لي: “زوجتي لم تحب أبداً أن أتحدث معك، ومع ذلك ها نحن ذا نتحدث مع بعضنا”.

في مذكراته، “رحلتي الأميركية”، روى باول كيف تحدثنا (هو وأنا) في عام 1989. وكتب في كتابه يقول إن ما نشرته أنا في صحيفة “الواشنطن بوست” في اليوم التالي عن محادثتنا تلك: “لم يكن غير دقيق، لكنه لم يكن مفيداً أيضاً”.

وأضاف: “واصلت التعامل مع وودوارد، على الرغم من أن ألما نبهتني إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر في التعامل معه”.

المغفل الصغير كيم جونغ أون

كانت أفكاره حول أفغانستان من بين عدة تأملات حول قضايا السياسة الخارجية الحالية.

قال: “كيف يعتقد أي شخص أن كوريا الشمالية ستجد طريقة لمهاجمتنا من دون أن نقوم نحن بتدميرها في صباح اليوم التالي؟ كيف يمكن لأي شخص أن يفكر بالطريقة ذاتها بخصوص إيران؟ لا يمكن أن تكون إيران أو كوريا الشمالية عدوين لنا، لأنهما لا تستطيعان تحمل نتائج مثل هذا الصراع. هل سنخاف من هؤلاء الناس؟ لا. هل يجرؤون”؟

قلت له: “لكن في بعض الأحيان يكون لديك قائد انتحاري”.

فأجاب: “صحيح. هذا صحيح.. لن يسمح الصينيون لنا ببدء حرب مع كوريا الشمالية. إنهم يحبون كوريا الشمالية. إنهم بحاجة لكوريا الشمالية. أنا شخصياً لا أحبها. ولكنها أيضاً لا تزعجني. دع المغفل الصغير [كيم جونغ أون] يستمتع باستعراضاته العسكرية وغيرها. هو لن يجرؤ أبداً على مهاجمتنا، لأنه يعلم أنه بذلك يقدم على الانتحار”.

وأضاف: “لدي الشعور ذاته بخصوص إيران. وكذلك بخصوص الجزء الأكبر من روسيا. ليس بإمكانهم تحمل التبعات. لديهم 145 مليون شخص. ونحن لدينا 330 مليون شخص”.

حرب الخليج

عدنا إلى إحدى اللحظات الحاسمة في حياته، وناقشنا كيف استغرقت حرب الخليج 42 يوماً فقط. استمرت الحرب البرية آنذاك أربعة أيام فقط قبل أن يعلن الرئيس جورج بوش الأب وقف إطلاق النار. اجتاحت قوات الولايات المتحدة وقوات التحالف الكويت وجنوب العراق، ودمرت جيش صدام حسين والحرس الجمهوري العراقي؛ وفرضت شروط التهدئة والسلام؛ وقتلت عشرات الآلاف من العراقيين. تم تحرير الكويت. وبلغت الخسائر في صفوف القوات الأميركية 137 قتيلاً بينما لايزال سبعة في عداد المفقودين.

وقال باول: “هذه الأعداد قريبة من الحقيقة ولكن ليس كلها. فقد لقي مئتان آخرون مصرعهم في حوادث متفرقة”.

أفغانستان، كانت شيئاً لن نفوز به أبداً.. لا يمكننا تخفيض عدد قواتنا من مائة ألف جندي إلى بضع مئات ونعتقد أننا سننتصر

عموماً، وبالنظر إلى الخسائر الأميركية القليلة في حرب الخليج، قال باول: “أنا فخور جداً بأنني غير قادر على التفكير بوضوح هذه الأيام. أنا متعب جداً لدرجة أنني لا أرى بشكل مستقيم”.

إقرأ على موقع 180  أمريكا: الطبقة الوسطة بين الولاء لترامب وتأييد سياسة بايدن!

وتابع باول: “قبل أن تبدأ الحرب البرية، ذهبت إلى اجتماع في البيت الأبيض، وسحبت وزير الدفاع ديك  تشيني والرئيس بوش جانباً. قلت لهما يجب أن أخبركما عن شيء مهم، الحرب البرية على وشك أن تبدأ. لا بد أن أحذركما وألفت انتباهكما إلى أنه عندما نخسر طائرة، تتحطم ونفقد جندياً واحداً. لكن إذا أصابوا دبابة، فسوف تريان أربعة جنود محترقين يخرجون منها، وأشياء أخرى فظيعة تحدث في الحرب البرية لا تشاهدان مثلها في الحرب الجوية. لذا كونا مستعدين لذلك. عندما نكون في حرب برّية؛ استعدا للرد على أي هجوم؛ والدفاع عنَّا. لم أكن أعلم أن تلك الحرب البرّية ستكون سهلة كما كانت، أو أن المعركة جرى التحضير والاستعداد لها جيداً كما كانت. لقد أخذوا كلامي على محمل الجد”.

كان دور باول في حرب العراق وصمة عار في سجله، وهو دور قال علانية إنه نادم عليه.

إنقلاب الكابيتول

ذكرت له أنه في إحدى المرات عندما كنت أعطي أحد الصفوف درساً عن الصحافة، سألني أحد الطلاب عن “ما الذي يمكن أن تنجزه الحقيقة”؟.

وعلَّق باول قائلاً: “هذا مخيف. إذا كان هذا ما يقوله ويفكر فيه أطفالنا فقد أخفتني بشدة. من أين يحصلون على مثل هذه الأفكار؟ من الإعلام؟”.

وأشار إلى أن الرئيس دونالد ترامب لم يُعد انتخابه. وأن “ترامب يرفض الاعتراف بذلك ولا يريد أن يتقبل أنه لم يُعد انتخابه. ولديه أشخاص يتفقون معه في ذلك”.

وسألته عن رأيه بالتمرد الذي حصل يوم 6 كانون الثاني/ يناير في مبنى الكابيتول الأميركي؟ فأجاب “كان مروعاً. كان ذلك بمثابة إنقلاب، وهدفه كان الإطاحة بالحكومة”.

ألما كانت على حق

وسألته أيضاً عن من كان أعظم شخص عرفه في حياته على الإطلاق، رجلاً كان أم إمرأة، ولم أكن أعني أن يكون المقصود قيادياً بالضرورة. كنت أقصد الشخصية التي ساهمت في تكوين الكينونة الروحية والفكرية والشخصية الداخلية لكولن باول. قلت له “البوصلة الأخلاقية، والشعور باللياقة والحقيقة أمران مهمان. من كان هذا الشخص في كل حياتك”؟

فأجابني على الفور: “إنها ألما باول. كانت معي طوال الوقت. لقد تزوجنا منذ 58 عاماً. وقد تحملت معي الكثير. لقد اعتنت بالأطفال عندما كنت مشغولاً جداً وبأشياء كثيرة طوال الوقت. كما تعلم أنا كنت أركض من هنا وهناك طوال اليوم. وهي كانت دائماً إلى جانبي تدعمني وتساعدني، وتنبهني. كانت دائماً على حق”.

المصدر: “الواشنطن بوست”

(*) بوب وودوارد صحافي في صحيفة “الواشنطن بوست” منذ العام 1971. نال جائزتي “بوليتزر”، الأولى في عام 1973 لتغطية فضيحة “ووترغيت” مع كارل بيرنشتاين، والثانية في عام 2003 كمراسل رئيسي للتغطية من هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. ألف 18 كتاباً، كانت جميعها من أكثر الكتب مبيعاً. صدر كتابه الأخير The Last of the President’s Men في عام 2015.

(**) مرض نخاعي متعدد، وهو من الأمراض السرطانية التي تصيب الخلايا البلازمية من نوع B مما يؤدي إلى تكاثر هذه الخلايا بشكل غير طبيعي وتكدسها في النخاع العظمي.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  باب المندب.. ممر العبور إلى الحريق الإقليمي؟