.. والحرب الثانية تنتج حرباً باردة (12)

كانت الحرب الباردة هى العنوان الأبرز للعلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. المقصود بالحرب الباردة تلك الصراعات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية التى اندلعت بين المعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة والمتبنى لسياسات الديموقراطية الليبرالية والرأسمالية ــ وعرف فى الدوائر الأكاديمية والديبلوماسية باسم العالم الأول، وبين المعسكر الشرقى الذى قاده الاتحاد السوفيتى وتبنى على النقيض سياسات الحزب الواحد والنظم الاقتصادية الاشتراكية/الشيوعية ــ وعرف باسم العالم الثانى.

سُميّت الحرب الباردة بهذا الاسم نظرا لأنها لم تشهد اندلاع حرب عسكرية شاملة بين المعسكرين على غرار الحربين العالميتين الأولى والثانية وإن كان هذا لا يمنع أن تلك الفترة والتى استمرت قرابة نصف القرن قد شهدت عشرات الصراعات ومئات الآلاف من الضحايا فيما عرف باسم الحروب غير المباشرة أو الحروب بالوكالة بين المعسكرين، بالإضافة إلى سباق تسلح غير مسبوق شهد السعى الحميم لامتلاك أسلحة الدمار الشامل غير التقليدية!

***

يتفق المحللون على أن بداية الحرب الباردة كانت مع مبدأ ترومان ١٩٤٧ــ ١٩٤٨ وهو المبدأ الذى أقره الكونجرس الأمريكى بناء على خطبة قدم من خلالها الرئيس ترومان تصورا واضحا لبداية الحرب بين المعسكرين الشرقى والغربى!
فى هذه الخطبة تحدث ترومان بوضوح عن خطورة المد الشيوعى وخصوصا فى تركيا واليونان، فبينما كانت تشهد الأولى صعودا سياسيا كبيرا للجماعات الشيوعية فى ظل نظام الحزب الواحد تحت قيادة حزب الشعب الجمهورى الذى كان قد أسسه كمال أتاتورك بعد الإطاحة بالإمبراطورية العثمانية، كانت اليونان تقبع تحت ظروف حرب أهلية بين الديموقراطيين والشيوعيين. تطرق ترومان لخطورة المد الشيوعى فى الدولتين وحذر الكونجرس أنه لو سقطت الدولتان فى قبضة الشيوعية فسيكون لذلك تداعياته الكبيرة على الأمن القومى الأمريكى!

***

وبينما كان مبدأ ترومان ــ والذى كان يقضى بتقديم المساعدات المالية والعسكرية للدول التى تشهد تهديدات شيوعية ــ فى مرحلة الصياغة، كانت عشرات الصراعات بالفعل تندلع بشكل غير مباشر بين أتباع المعسكرين فى ألمانيا، والمجر، والصين، وكوريا، ومصر، وكوبا.. إلخ.
ففى ألمانيا والتى كانت قد تم تقسيمها بين الحلفاء الذين سيطر كل منهم على منطقة نفوذ؛ حيث كانت سيطرة الاتحاد السوفيتى على ألمانيا الشرقية، بينما سيطرت القوى الغربية على الأقسام الغربية من ألمانيا، بينما كانت برلين ذات وضع غريب بعض الشىء حيث كانت تقع المدينة بأكملها داخل منطقة النفوذ السوفيتى (ألمانيا الشرقية) بينما الجزء الغربى من المدينة يقع تحت السيطرة الغربية، وهو ما يعنى أن برلين الغربية كانت بمثابة ما يشبه الجزيرة المحاصرة من كل ناحية بواسطة ألمانيا الشرقية ومن ثم الاتحاد السوفيتى!
بسبب هذا الوضع غير المعتاد لبرلين الغربية كان على الحلفاء (تحديدا الولايات المتحدة) بالإضافة لسكان برلين الغربية استخدام السكك الحديدية والطريق البرى والذى كان يمر عبر قناة تربط بين ألمانيا الغربية والجزء الغربى لمسافة تصل إلى حوالى ١٦٠ كم حيث أقرب نقطة حدودية فى ألمانيا الغربية!

خلال سنوات هذه الحرب الباردة، تمتع المعسكر الغربى ببرجماتية شديدة، فرغم أن المعسكر كان قائما بالأساس على أفكار الديموقراطية الليبرالية إلا أنه لم يمانع أبدا دعم أنظمة سلطوية قمعية بين مدنية وعسكرية فى تركيا وكوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية والوسطى والشرق الأوسط طالما ذلك خدم هدف احتواء الشيوعية

وقد بدأت الأزمة حينما قام الحلفاء بتقديم عملة المارك الألمانى الجديدة فى برلين الغربية وهو الأمر الذى دفع الاتحاد السوفيتى لحصار برلين الغربية وإغلاق كل خطوط المواصلات مع ألمانيا الغربية (السكك الحديدية والقناة التى تحوى الطريق البرى)، وقد استمر هذا الحصار ما يزيد قليلا على عام مما دفع الولايات المتحدة لإنشاء جسر جوى لإمداد سكان برلين الغربية بالمساعدات الغذائية! ورغم أن الاتحاد السوفيتى قد هدد بعدم فك الحصار عن المدينة حينما حاصرها فى ١٩٤٨ قبل أن يسحب الحلفاء العملة الجديدة، إلا أنه نظرا للأزمات الاقتصادية فى ألمانيا الشرقية اضطر السوفييت لفك الحصار عن المدينة فى ١٩٤٩!
وبالتوازى مع ذلك كان القوميون فى الصين يتحاربون مع الشيوعيين وهو الصراع الذى كان قد بدأ فى ١٩٢٧ وأُستؤنف مرة أخرى فى ١٩٤٥، وقد انتهى هذا الصراع الطويل على السلطة بانتصار الشيوعيين بقيادة القائد ماو تسى تونج فى ١٩٤٩ وهروب من تبقى من القوميين إلى جزيرة فراموزا (تايوان)! لم يكن الأمر بالنسبة للمعسكر الغربى مجرد انتصار جديد للشيوعية، ولكنه كان يعنى أن مقعدا ثانيا دائما فى مجلس الأمن سيذهب إلى الشيوعية بعد مقعد الاتحاد السوفيتى، مما دفع الأمم المتحدة لاعتبار أن القوميين فى تايوان هم أصحاب هذا المقعد! وهو ما أدى إلى اعتراض الاتحاد السوفيتى وانسحابه من بعض جلسات مجلس الأمن دون جدوى حيث استمر هذا الوضع إلى أن عاد المقعد مجددا إلى الصين الشيوعية فى ١٩٧١!

***

وأخيرا ومع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات اندلعت مواجهة جديدة بين المعسكرين، ولكن هذه المرة فى شبه الجزيرة الكورية حينما اندلعت الحرب الكورية فى ١٩٥٠. كانت كوريا تقبع تحت الاحتلال اليابانى وويلاته منذ ١٩١٠ ولم تتحرر سوى بهزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية. وفور تحررها، وكما حدث فى أجزاء مختلفة من العالم، فقد سيطر الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة على الشطر الجنوبى من شبه الجزيرة، بينما سيطر الاتحاد السوفيتى والصين على الشطر الشمالى وفرق بين الطرفين خط عرض ٣٨ وهو الخط الذى لا يزال حتى اللحظة يرسم الحدود بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية.
اندلعت الحرب حينما قامت قوات كوريا الشمالية بغزو كوريا الجنوبية، فما كان من قوات الأخيرة إلا وأن ردت على العدوان وقد استمر هذا الصراع الدامى لمدة ٣ سنوات بين كر وفر بين الطرفين، فتارة تتقدم قوات كوريا الجنوبية إلى الشمال وتارة أخرى تتقهقر إلى الخلف سامحة للقوات الشمالية بالتقدم وهكذا إلى أن انتهت الحرب فى ١٩٥٣ مخلفة آلاف الضحايا من العسكريين والمدنيين.
انتهت الحرب الكورية بتوقيع اتفاقية الهدنة بين الطرفين وبإشراف الأمم المتحدة والتى نتج عنها إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين ورغم الجهود التى بذلت لاحقا من أجل عمل اتفاقية سلام شاملة بين الطرفين إلا أن هذه الجهود قد فشلت حيث سيطر على شطرى الجزيرة أنظمة سلطوية، حيث كان حزب العمال الكورى فى الشمال وأنظمة مدنية ثم عسكرية فى الجنوب!
هذه الصراعات جميعا كانت تأكيدا على تفكك الحلفاء المنتصرين فى الحرب العالمية الثانية وقيام الحرب الباردة بين المعسكرين، وخصوصا بعد إنشاء حلف الناتو العسكرى لحماية المعسكر الغربى فى ١٩٤٩ وحلف وارسو لحماية المعسكر الغربى فى ١٩٥٥. ويلاحظ أنه وخلال سنوات هذه الحرب فقد تمتع المعسكر الغربى ببرجماتية شديدة، فرغم أن المعسكر كان قائما بالأساس على أفكار الديموقراطية الليبرالية إلا أنه لم يمانع أبدا دعم أنظمة سلطوية قمعية بين مدنية وعسكرية فى تركيا وكوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية والوسطى والشرق الأوسط طالما ذلك خدم هدف احتواء الشيوعية. بعبارة أخرى، فقد قام المعسكر الغربى بدعم أى نظام لا يتبنى الشيوعية بغض النظر عن درجة ديموقراطية هذا النظام مما يستدعى أن تجرى مناقشته بالتفصيل!

إقرأ على موقع 180  في غزة مَنْ يسبق مَنْ.. الحرب أم الحق؟

***

(*) ملحوظة: اعتمدت بعض فقرات هذا المقال على قراءات متعددة ضمن مقرر تدريس مادة مقدمة العلاقات الدولية لطلبة مرحلة البكالوريوس بجامعة دنفر.

(**) بالتزامن مع “الشروق”

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أوروبا نحو تكريس استدامة تبعيتها الغازية!