في شفشاون المدينة السياحيّة الشهيرة، تلك التي طُليت حيطانها باللون الفيروزي، وزُيّنت نوافذ أهلها بالورود، وبُلّطت شوارعها بالحجارة المسنونة في شكل مربعات ناتئة؛ كانت هنالك مُعاناة أخرى: طفل يسقط في بئر ارتوازيّ ويقبع في داخله خمسة أيام بلياليها، من دون ماء أو أكل، سوى ما يتذرّر من القمة حيث رجال الحماية من بسطاء الشعب، يبذلون كلّ ما بوسعهم لإنقاذ ابنهم من موتٍ لم يفارق شبحهُ تلك الليالي برهةً واحدة.
هكذا انتهى مسلسل الأمل الذي عاشَ على رفاتهِ كثيرٌ من الطيبين في بلادنا، فيما القدر على مقربةٍ منهم لم يخالف قوانين الطبيعة القاسية. فانتهى الأمر على مصيرٍ يحمل من المنطق بقدر ما يصدمُ ضحاياهُ باقتداره على تطويب الفجائع بالجدّة، فيتبدّى هنالك فرقٌ واهمٌ وتافهٌ بين موتٍ وموتٍ وحزنٍ وحزنٍ وأسى وآخر.
للمغرب الأقصى ثلاثُ مفارقات لافتة للنظر: ريفهُ في الشمال. ذلك أنّ الريف الذي يقصدونهُ عبارة عن مدن وقرى وليس بالضرورة بيوتاً مُشذّرة هنا وهنالك. الشمال مضطهدٌ من قبل المخزن على نقيض السرديّة المعروفة في بلادنا وغيرها على نحوٍ ما، حيث الشمال “مزدهٍ” والجنوب بائس.
شفشاون إحدى مدن/ريف المغرب. لم تكن كغيرها من مدن الريف المغربي على وفاقٍ مع المخزن، بل إنّهم يشتكون من قسوة الحكم عليهم بالثورة أو نية الشروع في الثورة على النظام الملكي. يبحث الريف عن العدالة ويفتّش المخزن عن توقيع العقوبة عليهم. لأنّهم ثوريون جداً كان عليهم أن يُعانوا أكثر. ولأنّهم لا يقبلون منح الدنيّة لغيرهم كان يجب أن يصارعوا الفقر والعوز وضيق اليد وقصور الحال. وحين ثاروا على أوضاعهم في ما عُرف بحراك الريف تمّ سجنُ قياداتهم والحكم عليهم بأحكام ثقيلة من دون أن تُحدّد النيابة بحسبانها جهة اتهام بالضبط، تُهماً واضحة في حقهم، عدا قصة التجمهر وتهديد السلم الأهلي وما انجرّ عنهما من الادّعاء التقليدي في محاكم الأنظمة التوتاليتاريّة.
الجدير ذكره أنه من بين مئة وخمسين معتقلاً هنالك؛ ناصر الزفزافي: عشرون عاماً سجناً نافذاً. نبيل أجمجيق: عشرون عاماً سجناً نافذاً. سمير أغيذ: عشرون عاماً سجناً نافذاً. وسيم البوستاتي: عشرون عاماً سجناً نافذاً. محمد جلول: عشر سنوات سجناً نافذاً. أضهشور بوهنوش: خمس عشرة سنةً سجناً نافذاً. أعماروش: خمس عشرة سنة سجناً نافذاً. الحاكي خمس عشرة سجناً نافذاً. أهباض: عشر سنوات سجناً نافذاً. الأصريحي: خمس سنوات سجناً نافذاً. ربيع الأبلق: خمس سنوات سجناً نافذاً. يوسف أحمديوي: خمس سنوات سجناً نافذاً.
وممّا زاد من حالة البؤس في مدينة شفشاون التي تُعدّ سادس أجمل مدينة في العالم، بحسب تصنيف بوّابة “كوندي ناست ترافلر” الأميركيّة لأجمل المدن، أنّ هنالك تقارير صحفيّة تتحدّث عن استشراء الانتحار بين أهلها، حتى باتت تُلقّب بعاصمة الانتحار في المغرب (50 حالة انتحار سنوياً بحسب مرصد الشمال لحقوق الإنسان) والأسباب اجتماعيّة!
إنّها القصة نفسها. الفقر والحاجة واستنكافِ “المخزن” عن إصلاح العلاقة بريفه.
جذور العداء بين الريف والمخزن
في منتصف نيسان/ أبريل من سنة 1921 توجّهت قبائل آيت ورياغل وآيت تمسمان وآيت إبقوين وآيت توزين إلى جبل قاما (أذرار نَ رقمث)، لعقد اجتماعٍ ضروري حول الأوضاع التي كانت تعرفها المنطقة الريفيّة. وبعد نقاشات وسجالاتٍ كثيرة دامت حتى بلغت بداية شهر أيّار/ ماي من نفس السنة، استطاع مولايّ محنّد أن يوحّد القبائل الريفيّة ويضع حداً للصراعات الفئويّة التي كانت تُمزّق المجتمع الريفي، ويقضي على ظاهرة الثأر بين القبائل. فتعاهدت هذه الأخيرة وتعاقدت على توحيد صفوفها والدفاع عن أرضها. لتنطلق بعد ذلك شرارة الكفاح المسلح وبداية الحرب التحريريّة الثانية التي بدأت مباشرة في الفاتح من حزيران/يونيو 1921 مع معركة “دهار أبران” الذي كان مركزاً استراتيجياً للمعسكر الإسباني. وبعد معركة شعواء بين الثوّار الريفييّن الذين لم يكن يزيد عددهم عن 300 رجل تمكّنوا من توقيع الهزيمة في صفوف الإسبان، حيث سقط 400 رجل من القوّات الإسبانيّة، وغنمَ الريفيون الكثير من البنادق والمدافع. وبعدَ هذا النصر المؤزّر، تقاطرت القبائل الريفيّة الأخرى زرافات ووحدانا، مهنّئةً بالنصر وتعرض تأييدها لمولايّ محنّد مبايعةً إيّاهُ أميراً عليها بالتراضي والتسليم.
في 17 تموز/يوليو 1921 تكرّر المشهد نفسه، حيث انتصر الريفيون مجدداً في “إغريبن”. ثم بعد ذلك، وبالضبط يوم 21 تموز/يوليو1921 نشبت معركة أخرى عُرفتْ بـ”ملحمة أنوال” (ذنواتشت) ـ كانت القوّات الإسبانيّة مُحتشدةً بأكثر من زهاء 24,000 مقاتل مقابل 5,000 جندي ريفي فقط، وبعد معركة دامَ وطيسها حتى 26 من الشهر نفسه، تمكّن الريفيون من هزيمة الجيوش الإسبانيّة وكانت حصيلة الإسبان أكثر من 15 ألف قتيل و570 أسيراً بالإضافة إلى مقتل قائدهم الجنرال سلفستر. غنمَ الريفيون من تلك المعركة 500 مدفع من مختلف الصناعات و30,000 بندقية و1,000,000 خرطوشة وسيارات وشاحنات ومواد أخرى، بالإضافة إلى استرجاع 130 موقعاً من المواقع التي احتلّتها إسبانيا.
بعد هذا الانتصار العظيم الذي حققته المقاومة الريفيّة في ملحمة “أنوال”، أصبح الريف يتوفّر على جيش كبير ومعدّات كثيرة، الأمر الذي أدّى بمولايّ محنّد إلى التفكير بجديّة في تأسيس كيان مستقل. وحتى تنجح القضية الريفية وتأخذ شكلها المستقل تماماً؛ كان محمد بن عبد الكريم الخطابي على اتّصال بكل المغاربة المقاومين، إذ كان عضواً فاعلاً في لجنة القاهرة لمساندة المقاومة المغربيّة ككلّ. ولمّا وصل إلى مشارف فاس؛ لم يشأ أن يدخل المدينة في خطوةٍ تبدو منطوية على بريد سياسي، مقتضاهُ: تمّ ترسيم الحدود برغمَ توفر المُكنة للتوسع.
قيام جمهوريّة الريف وسقوطها
دعا مولاي محند السكان والقبائل إلى اجتماع عام في معسكره، فلبّت القبائل النداء، وعُقد مؤتمر شعبي مُثّلت فيه جميع القبائل. فاتفق الجميع على الدفاع عن أرض الريف وتأسيس نظام سياسي جمهوري يستندُ إلى دستور مؤسِّس، فتم تشكيل مجلس شورى عام عُرف بالجمعية الوطنيّة. وكان دور هذا المجلس هو تنظيم المقاومة الوطنيّة وإدارة شؤون البلاد (جمهوريّة الريف). واتَخذ أوّل قراره وهو إعلان استقلال الريف، وتأسيس حكومة دستوريّة جمهوريّة لها نشيدها الوطني (وهو النشيد الذي قيل أنّ نشيد لبنان قد نسخَ لحنه). وكانت هذه الحكومة من العناصر الشابة، يرأسها مولايّ محنّد زعيم الثورة. تمّ وضع دستور للجمهورية يستمد مشروعيّته من سلطة الشعب، ونصّ هذا الدستور على تشكيل وزاراتٍ وعمل على تقسيمها وتسميتها، وجعل السلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذيّة في يد الجمعية الوطنيّة التي يرأسها الأمير مولايّ محنّد، ونصّ كذلك على أنّ رجال الحكومة مسؤولون أمام رئيس الجمهوريّة، والرئيس بدوره يكون مسؤولاً أمام الجمعية الوطنيّة، فاختارت الجمعية الوطنيّة هذه القاعدة في دستورها وفقاً لتقاليد المغرب ومنطقة الريف وعاداته المعروفة محلياً بـ”إزرفان”.
أما فيما يتعلق بالوزارات فقد نصّ الدستور على تشكيل أربعة مناصب وهي مستشار رئيس الجمهوريّة، يقوم مقام رئيس الوزارة، ووزير الخارجيّة، ووزير الماليّة، ووزير التجارة. أما بقية الأعمال الأخرى كالحربيّة فقد جعلها الدستور من اختصاص رئيس الجمهوريّة (كان دستوراً سابقاً لعصره).
وضعت الجمعية الوطنيّة ميثاقاً قومياً يكون المثل الأعلى للشعب، وقد أعلنته حكومة مولايّ محنّد على النحو الآتي:
- عدم الاعتراف بالحماية الفرنسيّة.
- جلاء الإسبان عن جميع الأراضي الريفيّة.
- الاعتراف بالاستقلال التام للدولة الريفيّة.
- تشكيل حكومة جمهوريّة دستوريّة.
- إجبار إسبانيا على دفع تعويضات للريفيّين عن الخسائر التي ألحقت بهم جرّاء الاحتلال.
- إقامة علاقات طيبة مع جميع الدول، وتوقيع عقود تجاريّة معهم.
كما اختارت الجمهوريّة علماً لدولتها، وهو علمٌ أحمر في وسطه نجمة خضراء ضمن هلال أخضر في معين أبيض. نص الدستور على جعل أجدير العاصمة السياسيّة لجمهوريّة الريف.
يسجل التاريخ بأنّ جمهوريّة الريف هي الجمهوريّة المغربيّة الوحيدة التي تأسست في العصر الحديث.
السقوط
بعد فشل مؤتمر وجدة، تشكل تحالف دولي بين إسبانيا وفرنسا، حيث أعلنت الحرب على جمهوريّة الريف بالإضافة إلى الاستعانة بالجنود المرتزقة من شمال إفريقيا. وعقد مجلس حربي مشترك بقيادة الجنرال بواشو في القيادة الفرنسيّة وسان خورخو في القيادة الإسبانيّة، واتفقوا على الهجوم دفعة واحدة ومن جميع الاتجاهات المتاخمة لجمهوريّة الريف. وبعد المعارك الكثيرة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الذي كان يصادف فصل الخريف من سنة 1925 تمكّنت القوّات الفرنسيّة من دخول تاونات وبيبان وجبل مسعود، بينما استولت قوّات أخرى على جبل الناظور، وتمكّنت من الاتصال بالقوّات الإسبانيّة التي كانت تتقدّم من جهة ميضار. وما هي إلا أيام قليلة حتى تمكّنت قوّات أخرى بقيادة الجنرال “إيبوس” من الاستيلاء على تارگيست، وفي 8 أيلول/ سبتمبر 1925 تمكّنت قوّات التحالف من الاستيلاء على العاصمة الريفيّة أجدير بعد الإنزال المكثّف على شاطئ الحسيمة. وقد استعملت في هذا الزحف مختلف الأسلحة التي كانت موجودة آنذاك زمن الحرب العالميّة الأولى من الغازات السامة “أجاج” ونابل الطائرات والمدافع التي كانت تطلق نيرانها على المراكز الريفيّة ليلاً ونهاراً فتُحدث الذعر وتنشر الهلع وسط سكان الريف. وأخذ الاضطراب يستولي على الجيش الريفي وبدأت بعض القبائل تتمرّد وتتنصّل من وعودها. وأمام هذا الوضع اضطرّ مولايّ محنّد إلى تسليم نفسه إلى القوات الفرنسيّة في تارگيست مقابل توفير الأرواح وحماية الممتلكات.
قمع ملكي، انقلابات متتاليّة
كان الشريف محمد أمزيان والأمير عبد الكريم الخطابي رمزا الريف قديماً وحديثاً، وكانا محلّ إلهامٍ متّصل لكل الريفيّين في المغرب، بصرف النظر عن قيمة الخطابي في الضمير الثوري العالمي (هنالك تمجيدٌ لهُ من تشي غيفارا)، فحين حصلت أحداث شغبٍ نظمها محمد سلام أمزيان البوخلفي، داعياً إلى عصيان مدني برّبري (أمازيغي) في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1958 حتى يتمّ منح منطقة الريف الحكم الذاتي. وحين استمرّ الشغب لعدّة أشهر، قامَ العاهل المغربي الحسن الثاني (كان ولياً للعهد وقتها) بإرسال جنود أشداء وقوّات مدجّجة لقمع ذلك الشغب.
أصدر سلام أمزيان لائحة مطالب جاء فيها: “الانسحاب الفوري لجميع القوّات الأجنبيّة من المغرب، وعودة عبد الكريم الخطابي وعائلته إلى البلاد” (يجب لفت النظر إلى أنّ مطالب الانفصال الأمازيغي خفّت مع سلام أمزيان، والدليل يتبدّى بوضوح في هذا المطلب، حين عمّم سلام مطلب الجلاء الأجنبي من المغرب ولم يخصّص الشمال فحسب، كما أنّه لم يطلق على المغرب مسمّى المملكة، ممّا يعني بأنّه مع اسقاط الملكيّة وضد خيار الانفصال. وقد التقط الحسن الثاني الرسالة، فقد كان ذكياً وقارئاً نهماً للتراث وعارفاً بأصول الدين وفقه المذاهب. كان هذا تطوّراً في الرؤية الحراكيّة لدى أهل الريف وقتذاك، تأكّد بوضوحٍ مُعبّرٍ عنه في الانقلابات التي تلت هذه الحقبة). تمّ قمع هذه المطالب بالحديد والنار، فُقتل الكثير جرّاء ذلك، واعتُقل ما يربو عن 8400 شخص، وتجذّر التهميش أكثر لساكنة الريف بحسبانهم انفصاليين مثيرين للشغب و”بلاد السيبة“.
يشرح ديفيد هارت قصة المأساة في الريف المغربي في كتابه “The Aith Waryaghar of the Moroccan Rif” (أهم المراجع في الصراع المخزني/ الريف البربري)، أسباب الشعور العام لدى الريفييّن بالرغبة العارمة في الثورة على المخزن في الإحساس الدائم والمستمر بـ “الحگرة” (مفردة عامية بليغة يستعملها المغاربة (من جزائريين ومغاربة وتونسيين وموريتانيين) وتعني الظلم الممزوج باستحالة الدفع لقوّة الظالم وضعف المظلوم وقلّة النصير وانعدام النظير. يتمّ اشتقاق أفعالٍ ومصادر من مسمّاها مثل: يحگرُ، حگّار (اسم فاعل، صيغة مبالغة) حگارين، محگور (اسم مفعول) وهكذا..)، الأمر الذي دفعَ الريفييّن إلى إنشاء حكومة وطنيّة غداة الاستقلال تُطالب بالجلاء الاستعماري الكامل، ولأجلها؛ أسّس عبّاس المسعدي ما يُعرف بـ”جيش الشمال”. وقد ترتّب على هذا الاهمال الرسمي للريف المغربي؛ تطوّر موجة الغضب الشعبي وتحوّلها إلى عصيانٍ مدنيّ شامل.
حين رُفعت مطالب سلام أمزيان، رفضَ المخزن أيّ نوعٍ من التعامل أو الحوار مع أطراف العصيان ومثيريّ الفوضى، وأمهَل العصاة 48 ساعة حتى ينزلوا من شواهق الجبال. وحتى يتمّ ذلك على عجلٍ؛ سخّر المخزن 20 ألف جندي، عاثوا خراباً في الريفيين تقتيلاً وتنكيلاً وقصفاً بقنابل النابالم بواسطة طائرات فرنسيّة. ويُضيف ديفيد هارت إلى جانب القتل والتنكيل والقصف: الاغتصاب. وهي واقعة خطيرة جداً لدى سكان الأرياف، تزيد وطأتها وفداحة وقوعها عن القتل والتخريب.
أشرف على كل هذا الجنرال الدموي محمد أوفقير، فلمعَ نجمه لأوّل مرّة من حينها، بوصفه اليد اليمنى للملك محمد الخامس ثمّ لوليّ عهده الحسن الثاني (يذكر جيل بيرو في كتابه “صديقنا الملك” أنّ الحسن الثاني كان يخاف من الجنرال أوفقير كثيراً ويصفه سرّاً بجنرال الدم، وصادقَ على هذا الادّعاء صالح حشّاد).
انقلاب الصخيرات 1971
ترتّب على المعاملة العنصريّة التي راحَ ضحيّتها ضبّاط ينحدرون من الشمال وتفضيل الفاسيين (فاس: مسقط رأس العائلة الماكلة) عنهم دون سبب مهني مقنع إلى حصول انقلابات عدّة. أوّلها انقلاب 1971 الذي خطّط لهُ الكولونيل أمحمد أعبابو والجنرال محمد المذبوح اللذان خطّطا* في 14 آذار/ مارس. (*معاً أو التحق أحدهما بالآخر؟ هذه مسألة فيها اختلاف، لم أجد ما يعضد قولاً عن الآخر في المذكرات والكتب التي اطلعتُ عليها (ما يزيد عن عشرة كتبٍ)، جلّها بأقلامٍ مغربيّة توخياً للدقّة وركوناً إلى الصلة) وكان التنفيذ في 10 تموز/ يوليو1971 المصادف لعيد ميلاد الملك الحسن الثاني، الثاني والأربعين، المُقامُ في الصخيرات وكان الهدفُ اغتيال الملك. حيث قامت مجموعتان عسكريتان تابعتان للمدرسة الحربيّة الملكيّة بمداهمة قصر الصخيرات الملكي أثناء الاحتفال الذي كان يجري بمناسبة عيد ميلاد الملك، ممّا أدى إلى مقتل عشرات من المدعوين والضباط وأركان البلاط والمشاهير والشخصيّات المحلية والعالميّة، وكلهم كانوا من الرجال؛ لأن هذه الحفلة كانت مُخصصة لهم.
كان المتمردون قد أحكموا السيطرة على محطة الإذاعة، بعدما عمدوا إلى القيام بهجوم مسلح على قصري الصخيرات والرباط. وفي وقت لاحق نجح الملك بإحكام سيطرته على الوضع، وعاد إلى الإمساك بزمام الأمور.
وكان الجنرال المذبوح هو من قاد هذا الانقلاب احتجاجاً على الفساد المستشري في البلاد، ولكنه قُتل أثناء الهجوم الذي حصل على قصر الصخيرات على يد الكولونيل أعبابو الذي كان من المفترض أن يكون شريكه، إلا أنّه عاد وانقلب عليه.
ملابسات هذه المحاولة كانت غامضة حتى أنّ الضباط الذين شاركوا في هذه المحاولة لم يكونوا يعلمون أنّ أعبابو كان يقودهم لعملية انقلاب وكل ما كانوا يعلمونه أنّهم ذاهبون للقيام بمناورة (قال الطيّار صالح حشّاد ذلك صراحةً). كانت نهاية هذه المحاولة مأساويّة جداً، إذ كانت المحاولة في يوم عيد ميلاد الملك الحسن الثاني وامتلأ القصر بالقتلى والمصابين بين الحضور والضبّاط المشاركين في العملية وبعض أفراد الحرس الملكي (عبّر عن ذلك عبد الهادي بوطالب الذي ساهمَ في انقاذ بعض الجرحى وإغماض القتلى حسب شهادته على العصر في قناة الجزيرة). وجد الضباط الذين نجوا من تلك المذبحة أنفسهم في النهاية بسجن تازمامرت في منطقة معزولة في صحراء شرق المغرب، كما أوضحت بعض شهادات الناجين من ذلك المعتقل المرعب (تازمامرت) أبرزهم أحمد المرزوقي(الصورة أدناه) والذي أدلى بشهادته على الأمر في برنامج شاهد على العصر الذي بثته قناة الجزيرة، وكذلك وردَ رواية “تلك العتمة الباهرة” للكاتب الطاهر بن جلون.
وبأمر من المحكمة العسكريّة العليا تمّ تنفيذ حكم الإعدام بحق عشرة ضباط من بينهم أربعة جنرالات. وقد سعى الجنرال أوفقير لدى الملك من أجل إصدار عفو عام بحق 1081 من تلامذة المدرسة الحربيّة، ونجح بالحصول عليه في خطوة غريبة لها ما لها من مقاصد ونوايا.
لم يتوفر أي دليل على مشاركة الجنرال أوفقير بالتخطيط لهذا الانقلاب، غير أنّ طريقة تحركه التي لم يألُ فيها جهداً من أجل تخفيف بعض الإجراءات التي اتخذت بحق المتمردين، وسعيه الدؤوب لإصدار أحكام بالعفو عنهم، ما انفكت تثير حيرة المطّلعين والمراقبين.
انقلاب أوفقير 1972
في 6 تموز/ يوليو 1972 تلقى الطيّار محمد القبّاج أوامر بإعداد طائرة بوينغ 727 الملكيّة لإحضار ملك المغرب الحسن الثاني بعد تحذيرات أُوفدت إليه من طرف المخابرات الفرنسيّة، تفيد وجود تحرّكات مريبة للجيش داخل المغرب، ما أجبره على قطع إجازته المعتادة في فرنسا بعشرة أيام.
بتاريخ 16 آب/أغسطس 1972 كان القبّاج مسؤولاً على سلامة ملك المغرب الحسن الثاني وشقيقه الأمير عبد الله وصهره الوزير الأول أحمد عصمان والجنرال أحمد الدليمي وآخرين باعتباره قائداً لطائرة بوينغ 727 الملكية المُقلة لهم، فجأة وبمجرد دخول الطائرة إلى الأجواء المغربيّة، حلّق سرب من 6 طائرات مغربيّة بمحاذاة الطائرة الملكيّة، انقسمَ السرب إلى مجموعتين، أخذت الطائرات الثلاث المسلحة في إطلاق النار جواً بحركات بهلوانيّة، وهو ما جعل الجنرال أحمد الدليمي يلوح بيده طالباً إلى ربابنة المقاتلات بالابتعاد عن الطائرة الملكيّة، قبل أن يصيح قائد الطائرة الربّان القبّاج عبر جهاز الراديو: “ابتعدوا عن الطائرة، ابتعدوا، جلالة الملك لم يطلب حراسة”. لكن أحداً لم يهتم بندائه.
فجأةً سُمع دويّ انفجار قنبلة وضعت تحت الطائرة أصابت حارس الأمن الفرنسي، تلاها هجوم عنيف من قبل 3 طائرات إف5 عسكريّة مغربيّة على مؤخرة الطائرة، كان المغرب وحده الذي يملك هذا النوع من الطائرات الحربّية في المنطقة، ما جعل محمد القبّاج ينبّه الملك بتعرّضهم لهجوم يسعى منفذوه إلى إسقاط الطائرة الملكيّة. أمام قصف رشاشات الطائرات قذائف من عيار 20 ملم وعلى علوِ 7 كيلومترات من الأرض حاول القبّاج المراوغة بالطائرة المدنيّة دون جدوى، حيث استطاعت رصاصات منفذي الانقلاب الإضرار بالطائرة وخرقها بالثقوب وتفجير 3 محركات تسبّبت في اندلاع دخان كثيف. عندها أعطى الملك تعليماته لمهندس الصيانة بالتحدث إلى برج المراقبة قائلاً: “لقد مات كل من كان في الطائرة لأنّهم كانوا في الخلف مع الملك، والملك مصابٌ بجروح خطيرة في مؤخرة عنقه، فأوقفوا الهجوم فكروا في زوجتي وأطفالي”.
وفي محاولة أخيرة للتأكد من نجاح العملية؛ قام أحد الانقلابييّن بهجوم انتحاريّ حيث قفز بمقعده من الطائرة قبل الارتطام بها ما جعله يفلتها، إذ خفّ وزن طائرة أف5 وغيّرت مسارها لتمرّ تحت الطائرة الملكيّة في صورة تكاد تخرق العقول لغرابتها. في هذه الأثناء انسحب المهاجمون إلى قاعدتهم في القنيطرة للتسلّح مجدداً، فيما اغتنم القبّاج الفرصة محاولاً إعادة استخدام المحرّك المُحترق، في محاولة أخيرة قبل النزول إلى قاعدة القنيطرة الجويّة، رغم الكيروسين (وقود المحرّكات النفّاثة) الذي أفرغه أحد الانقلابيّين على الطائرة لتفجيرها.
حلّق القباج بالطائرة الملكيّة المحترقة على علوٍ منخفضٍ فوق أرضية قاعدة القنيطرة الجويّة، محاولاً جعل الانقلابييّن يتوهمون هبوطه في القنيطرة، في حين تابع تحليقه إلى مطار الرباط – سلا. وبعد 20 دقيقة، استطاع الهبوط بطائرة، بالغة الإصابة، وسط سحب من الدخان في مطار الرباط العسكري دون انفجارها، ما اعتُبر معجزة نادرة (نجاة الملك) وشهادةً تاريخيّة على احتراف الربّان محمد القبّاج (ومن يومها كبر الحسن الثاني في المخيال الشعبي البسيط وصار العامة يعتبرونه ملكٌ مؤزّرٌ بقوى غيبيّة، وقد استثمر كثيراً في ذلك). أسفر هذا الانقلاب عن اقصاء تام للريفيين من نيل المناصب العليا في الدولة، وانشاء جناحٍ آخر لمعتقل تازمامرت الرهيب.
*يمكن مراجعة الكتب التالية التي تتكلم عن الواقعة وما سبقها بدقّة: الضابط المغربي والمعتقل السابق أحمد المرزوقي، “تزمامرت… الزنزانة رقم 10”. و”Kabazal -Les Emmurés de Tazmamart: Mémoires de Salah et Aïda Hachad” حرّرها: عبدالحق سرحان.
انتفاضة 1984
المعروفة أيضًا بانتفاضة الخبز أو انتفاضة الجوع أو انتفاضة التلاميذ أو انتفاضة الكرامة. وهي مجموعة من الحركات الاحتجاجيّة اندلعت في 19 كانون الثاني/يناير 1984 في مجموعة من المدن المغربيّة. وبلغت ذروتها في مدن الحسيمة والناظور وتطوان والقصر الكبير ومراكش. اندلعت الأحداث في البداية في شكل مظاهرات قادها التلامذة، قبل أن تنخرط فيها شرائح اجتماعية أخرى. جاءت الاحتجاجات في سياق اقتصادي تميّز ببداية تطبيق المغرب لسياسة التقويم الهيكلي، آنذاك، من طرف صندوق النقد الدولي، والتي كان من تداعياتها ارتفاع كلفة المعيشة وتطبيق رسوم إضافيّة على التعليم. وُجهتْ الاحتجاجات بعنف أمني كبير وحملة اعتقالات واسعة.
يُعيد شكيب الخياري (رئيس جمعية الريف لحقوق الانسان) الأسباب المباشرة لقيام هذه الانتفاضة إلى ما عرفهُ “المغرب في تلك الفترة من أزمة خطيرة شملت مختلف الميادين، فعدد السكان قُدر حينها بحوالي 21 مليون نسمة، منها 3.300.000 نسمة – أي بنسبة 16% – تعيش في المدن، بينما البقية أي 17.700.000 نسمة – أي بنسبة – 84% تعيش في البوادي، حيث لا يتوفّر لديها الحدّ الأدنى من الخدمات الصحية والتعليميّة. والنسبة الباقية المتواجدة بالمدن كانت غارقة في البطالة، حيث سُجل آنذاك 120.000 حالة طالب جامعي عاطل يبحث عن عمل. ومن ضمن هذا العدد الإجمالي للسكان فإنّ 9.400.000 نسمة – أي بنسبة 45%- تعيش فقراً مدقعاً، كما أن مليونين من المغاربة يعيشون في البراريك (الأكواخ) القصديريّة”.
ويضيف على ذلك: “سوء الوضع الاقتصادي الذي فاقمهُ إفلاس المغرب حيث بلغت ديونه الخارجيّة آنذاك 7.000 مليون دولار، أدّى إليه سوء التدبير الذي أنتجته سياسة الحسن الثاني التبذيريّة والتي تميّزت بالإنفاق الضخم على التسليح لأجل حرب الصحراء حيث كلّفت مليون دولار يومياً، وكذا انخفاض ثمن الفوسفات”.
هذا الوضع المزريّ “أدّى بالمغرب إلى الخضوع لتوجيهات صندوق النقد الدولي المتمثلة في تبني سياسة التقويم الهيكلي المرتكزة على سياسة التقشف والتي انتهت إلى فرض مجموعة من الإجراءات التي أُجهز من خلالها على مجموعة من المكتسبات في مجموعة من القطاعات من بينها التعليم والصحة والشغل.
ومن ذلك ما عرفته أثمنة المواد الأساسيّة من ارتفاعٍ حادّ، حيث بلغت 18% بالنسبة للسكر و67% بالنسبة للزبدة، أما بالنسبة للغاز والوقود فقد ارتفعت أثمنتهما بنسبة 20%. أما بالنسبة لقطاع التعليم، فقد أضيفت رسوم جديدة للتسجيل، تمثلت في دفع 50 درهماً بالنسبة للتلاميذ الراغبين في التسجيل بالبكالوريا، و100 درهم بالنسبة للطلبة الجامعييّن”.
“هذا ما ألمّ بالشعب المغربي برمته، إلا أنّ إقليم الناظور أضيفت إليه أزمة أخرى، فاقتصاد هذا الإقليم مرتبط أساساً بالتهريب الذي يمرّ عبر مليلية، تلك العملية التي تستفيد منها جلّ العائلات الريفيّة بالناظور. فرض المخزن في سنة 1983 على الراغبين في الدخول لمليلية دفع مبلغ 100 درهم للراجلين و500 درهم لأصحاب السيارات، ثم حدث تغيير سنة 1984 حيث تمّ تعميم مبلغ 100 درهم، و هو ما أدّى إلى تفاقم الوضع الاقتصادي المزري بالإقليم.
هذا الوضع هو الذي أدّى في النهاية إلى تفجير الانتفاضة، بعد أن اتحد جميع المواطنين ضد هذه السياسة، حيث نزلت الجماهير الشعبية إلى الشوارع في مسيرات ألفية في مجموعة من أهم المدن منها الحسيمة والناظور وتطوان والقصر الكبير ومراكش ووجدة”.
والحال أنّ السلطة الرسميّة أرجعت أسباب الغلاء الفاحش إلى اضطرارها إلى الامتثال إلى شروط صندوق النقد الدولي كما هو مبيّن سابقاً، وعلى أثر الاحتجاج الذي جوبهت به السلطة، قامَ المخزن بقمع الانتفاضة قمعاً قاسياً، إذ تمّ الاعتراف الرسمي بمقتل 16 شخصاً، فيما رأت أطراف تنتمي إلى المنطقة بتجاوز هذا العدد بكثير. وقد تمّ العثور لاحقاً على مقبرة جماعيّة بجوار ثكنة الجيش بحي تاويمة بالناظور.
وقد اشتهر خطاب العاهل المغربي الحسن الثاني الموجّه إلى قاطنيّ المنطقة بوصفه للمحتجين بـ”لعب الذراري” (لعب عيال) في إشارة إلى تلامذة الثانويّة، وبـ”الأوباش” أيّ المحتجّين. وبرغم أنّ عبدالهادي بوطالب قد قال قبل وفاته في برنامج “شاهد على العصر”، بأنّ الأخبار التي كانت تصل إلى الملك ملفّقة تستهدف القطيعة، وبأنّ العاهل المغربي قد اعتذر لاحقاً عن هذه الأوصاف وأوفد ممثلين لهُ قدّموا الاعتذار وتمّ ترميم العلاقة (حسب شهادته. وللمفارقة فإنّ بوطالب الذي كان يسعى لتهدئة العلاقة المتشنّجة بين الريف والمخزن قد أقالهُ الملك لاحقاً).
انتفاضة 24 فبراير 2004 (زلزال الحسيمة)
زلزال الحسيمة، أحد أعنف الزلازل التي ضربت إقليم الحسيمة شمال المغرب. وقع يوم 24 شباط/ فبراير 2004 في تمام الساعة 02:27:47 بالتوقيت المحلي. وقد خلّف هذا الزلزال خسائر بشريّة وماديّة وعمرانيّة كبيرة. حتى أنّ المناطق المجاورة للمدينة هي الأخرى تضرّرت من هذا الزلزال.
بلغت قوّته 6.5 على سلم ريختر. وأسفر عن وفاة حوالي 1000 ومئات من الجرحى من سكان الحسيمة والمناطق المجاورة لها في إمزورن وبني بوعياش وايت قمرة التي حدّدها الجيولوجيون كمركز للهزّة الأرضيّة العنيفة.
ترتّب على تعامل السلطة مع آثار الزلزال وتداعياته استياءَ سكّان المنطقة وقد اتهموها بالتقاعس، وقالوا بأنّ السلطة قد حاصرت المتضرّرين والغاضبين على تجاهلها لهم. وبرغم أنّ السلطة قد تلافتْ مخلفات الزلزال وتأثيراتهُ السياسيّة بإعادة الاعمار وتطويق الخسائر، إلا أنّ بعض المؤرّخين لتلك الواقعة يعتقد بأنّ زلزال الحسيمة قد أفرز انتفاضة أخذت منحى سياسي وينبغي أن تُعامل على أنّها كذلك.
حراك الريف 2016
يوم الجمعة 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 صادرت السلطات المحلية داخل ميناء مدينة الحسيمة سلعة الشاب محسن فكري، بحجة أن السمك الذي كان يبيعه ممنوع صيده. بعدما صادرت السلطات سلعته ورمت السمك في شاحنة الأزبال، وكخطوة احتجاجيّة صعد محسن ورفاقه إلى شاحنة الأزبال لمنع عملية إتلاف السلعة. وحسب شهود عيان فإنّ ممثل السلطة المسؤولة عن العملية أعطى تعليمات بتشغيل آلة الطّحن، مستعملا عبارته الشهيرة: “طحن مّو” (اطحن أمّه) بالرغم من علمه بوجود الشباب على متن الشاحنة. تمكّن أصدقاء محسن فكري من القفز والنجاة من الموت، بينما لم يتمكّن هو من ذلك لأنّه كان ممدّداً داخل الآلة التي سحقته بسرعة كبيرة ولقي مصرعه في الحال أمام أعين ممثل السلطة الذي لم يحرّك ساكناً من الصدمة. في تلك الليلة بدأت وقفة في المدينة تزعمها الشاب ناصر الزفزافي حاور فيها عدّة مسؤولين. أصبح الزفزافي لاحقاً قائدا للحراك وناطقا باسمه وضحيته في الآن ذاته. تأسست لجنة متابعة ملف محسن فكري في البداية لمتابعة سير التحقيق ونظمت عدة مسيرات في المدينة. ومع مرور الوقت، تطوّرت اللجنة إلى لجنة للحراك الشعبي اشتملت على عدّة مطالب اجتماعيّة واقتصاديّة من بينها محاسبة قتلة محسن فكري. وانتهى الحراك إلى أحكام قضائيّة ثقيلة تمّ الإشارة إليها بالتفصيل في أول المقالة أعلاه.
***
هل سنشهد حراكاً ريفياً تقودهُ روح ريان؟
مثلما تمّ العرض التاريخي السابق وهو عرضٌ موثّق، تمّ سرده على أكثر من صياغة، يتجلّى بوضوح أنّ وراء كل انتفاضة قادها الريفيون في المغرب؛ عود ثقاب أو ضغطة زناد يقفُ خلفها متأهبون لتسديد دينٍ تاريخي يلقي بأتعابه المكلفة على الحاضر والمستقبل. فالريفيون مثل كل الثورييّن في العالم يتصيّدون اللحظة الحرجة التي تجتمع فيها كافة أسباب الانفجار حتى يصفّوا حسابهم مع المخزن.
يشعر ريفيو المغرب بالظلم إلى يوم الناس هذا، وبرغم أنّ الملك محمد السادس صالحهم وصالحَ كل ضحايا والده عبر ما يعرف بهيئة الانصاف والمصالحة، إلا أنّ هنالك ذاكرة تأبى النسيان ومن الصعب تلافي جراحاتها وترميم صدوعها في فترة وجيزة. لا سيما أنّ التطبيع مع إسرائيل قد فاقمَ من حدّة الشعور باستحالة وصول الملكيّة في المغرب إلى طريق مفتوح، يضمن قدراً من الانسانيّة والانحياز إلى الحق.
وبالعودة إلى قضية الطفل ريان، فقد قالت الكثير من التقارير التي تمّ تناقلها هنا وهناك بأنّ ريان قد لفظَ أنفاسه الأخيرة قبل الاعلان عن وفاته بعد إخراجهِ من الجُب بيومين سابقين، وتمّ استغلال موجة التعاطف العالمي معهُ من قبل المخزن المغربي لأسباب سياسيّة كما يقول البعض.
وسواءً صحّت هذه الفرضية وتوثقتْ أو أخطأت أو “شطحت” بعيداً عن الحقيقة، فالثابت الذي لا يقبل ردّاً أو يستأهلُ دحضاً أنّ طفلاً فقيراً ينتمي لعائلة فقيرة في قرية مُعدمة تجرّ تاريخها خلفها في منطقة ظاهرها الجمالي غير باطنها المأسوي؛ قد لاقى حتفهُ في ملابس رثّةٍ وجسم باردٍ وبطنٍ جائعة وثغر يحثوهُ ترابٌ ثقيل في نفقٍ نحيفٍ تحت جبلٍ أفطس، مثل مشهدهُ الصاعق بالألم؛ إملاق الوالد وافتقار الأم، وإلى جانبهِ الأليم ثمّة أطفالٌ كثيرون يتضوّرون جوعاً وكبار عديدونٌ ينظرون إلى مستقبلٍ بلا تباشير، فالذي أمامهم لن يكون في أحسن الأحوال وأقلّها سوءاً سوى شبيهاً بالذي قبلهم.