في منتصف ثلاثينيات القرن المنصرم، وأثناء الحرب العالميّة الثانية، قام النظام النازي (بمساعدة الكثير من الأنظمة في أوروبا أو بتغاضيها) باقتراف إحدى أعظم الجرائم في التاريخ: المحرقة التي ذهب ضحيّتها ملايين من الناس. تأثير المحرقة على اليهود تحديداً كان كارثياً بأبعاده الوجوديّة، بما في ذلك تحوّل كثير منهم إلى جلّادين لا يختلفون بتاتاً عن النازيين الذين ارتكبوا أفظع الجرائم في غرف الغاز وحقول القتل في أوْشْفِيتز وأمثاله. القتل الممنهج والتهجير الذي قام به اليهود في سنة 1948 وبعدها في فلسطين وأماكن أخرى (بما في ذلك سياسة تهجير اليهود من بقاع العالم كي ينتقلوا “طواعية” إلى إسرائيل) شبيه بسياسة النازيين وحلفائهم في فرنسا وإيطاليا وبلدان أوروبيّة كثيرة. وكما ساعد هؤلاء هتلر في التخلّص من الضحيّة، فهم الآن يساعدون بشتّى الوسائل الضحيّة التي أصبحت جلّاداً على التخلّص من ضحيّة جديدة: شعب فلسطين.
نجد الأمر مماثلاً في أميركا، فأكثر سموم العنصرية ضدّ المهاجرين تأتينا من مهاجرين أو أولاد مهاجرين، أمثال الثلاثي القبيح: السناتوران الجمهوريان ماركو روبيو وتيد كروز (أهلهما من اللاجئين من كوبا)، وأنريكي تاريو، زعيم عصابة الشباب الفخورين (Proud Boys) وأصله مهاجر من أفارقة البحر الكاريبي. ويمكن القول إنّ معظم تاريخ القارّة الأميركيّة منذ وصول الأوروبيّين إليها بعد سنة 1492 هو عبارة عن إنتقال ضحيّة من دورها كضحيّة لكي تصبح جلّاداً. في أميركا الشماليّة تحديداً (الولايات المتّحدة وكندا)، جاء المستعمرون الأوائل هرباً من الظلم والفقر الذي عانوه في أوروبا، لكن في اللحظة التي وطأت أقدامهم أرض القارة الجديدة، تحوّلوا في عقولهم من ضحايا إلى جلّادين. إستباحوا الأرض وصادروها وتصرّفوا بثرواتها وقتلوا وهجّروا ونكّلوا بمن كان يقيم عليها من سكانها الأصليين وفرضوا الديانة المسيحيّة عليهم.
حصل ذلك أيضاً مع المهاجرين من أصول إيطاليّة وإيرلنديّة ومكسيكيّة وكوبيّة إلخ.. هؤلاء عانوا الكثير من العنصريّة والإضطهاد والسخرية في أميركا عند وصولهم إلى شاطئها ليتحوّلوا في ما بعد إلى ممارسين للعنصريّة والإضطهاد والسخريّة حيال المهاجرين الأحدث منهم.
وإذا نظرنا إلى فرنسا، نجد أن الصورة تتبدى بأقبح تجلياتها مع حثالة من أمثال أريك زمّور اليهودي الأصل من الجزائر. بريطانيا ليست بأفضل حال مع أمثال بوريس جونسون (أصله عثماني تركي) ووزيرة الداخليّة بريتي باتيل (أصلها هندي-أوغندي) وسياستهم العنصريّة ضدّ المهاجرين.
نسأل هنا، هل نسي كلّ هؤلاء العنصرية والتهميش الذي مورس بحق أهلهم وأبناء جلدتهم من قبل الأنظمة السياسيّة التي يخدمونها الآن؟
ماذا يقول أريك زمّور لأبنائه عن محرقة اليهود كونه الآن يطالب بمحرقة للمسلمين؟ وماذا تقول بريتي باتيل لإبنها عن أهلها عندما هاجروا إلى بريطانيا: هل فُلشت أمامهم سجادة حمراء أم رأوا الضيم والهوان وعضّوا على كبريائهم من أجل أن يكون لأولادهم مستقبل أفضل ممّا كان لهم؟ أليس هذا مشابه لمن يشرب من البئر ويرمي فيها حجر بعد أن يروي ظمأه؟
إستخدام الضحيّة حتى تكون جلاداً ليس بالأمر الجديد في تاريخ البشريّة. إنه عماد السياسة الأوروبيّة والأميركيّة منذ القرن التاسع عشر. طبّقوها ويطبّقونها في مستعمراتهم ودولهم. كانت استراتيجيّة فرنسا أن تأتي بجنود من السنغال إلى الجزائر ولبنان وحتّى فيتنام لكي ينكلوا بأهل هذه البلدان، وترسل إلى السنغال جنوداً من مستعمرات أخرى ليفعلوا الشيء ذاته هناك. فأصبح كثير من أولاد المستعمرات يكرهون بعضهم البعض، وتستهويهم أكثر فأكثر إنسانيّة المستعمر الزائفة وثرواته التي يجمعها من خلال سلبهم ثرواتهم.
عندما يُصبح الضحيّة جلاداً، تصبح محنته ومعاناته سخرية وهباء لا تنفع بشيء إلاّ إذا تمكّن من استخدامها من أجل الإمعان في جرائمه، كما يحصل تحديداً مع كثير من اليهود في يومنا هذا واستخدامهم للمحرقة من أجل تغطية جرائم إسرائيل وتبريرها. وكما يحصل مع كثير من زعماء وأغنياء العالم الذين همّهم تكديس الثروات، حتّى لو كان نتيجة ذلك المزيد من الفقر والمعاناة والتلوّث والهجرة
لنعد إلى الولايات المتحّدة، ولنتحدّث عن الصحافي والدبلوماسي الأميركي الأسود كارل رُوان (Carl Rowan) الذي أرسلته وزارة الخارجيّة في سنة 1954 إلى آسيا من أجل تسويق الحريّة والديموقراطيّة فيها عبر سلسلة من المحاضرات واللقاءات مع المفكّرين والمثقّفين في الهند وفيتنام وإندونسيا وبلدان أخرى. هذه السياسة كانت نتاج عمل دؤوب من قبل الـ”سي. آي. إي” (CIA) وقضت باستخدام الكثير من الصحافيّين وأساتذة الجامعات الأميركيّين من أجل التأثير على شعوب العالم واستمالتها إلى المعسكر الغربي. يقال أنه خلال جولة كارل رُوان في الهند، سأله مثقّف هندي: “كيف يكون لشخص لا يعرف معنى الحريّة أو خبرها في بلده أن يأتي إلى الهند ويخطب بهذه الحماسة عن الديموقراطيّة والحريّة في أميركا”؟ لا أدري هل قصد ذلك المثّقف الهندي أن يطرح ذلك كسؤال أم علامة تعجّب؟ أظنّ أنّه قصد الإثنين معاً. لكن تأثير السؤال كان كبيراً على رُوان وأزعجه كثيراً، إذ فضح زيفه ونفاقه.
هل نسي رُوان العنصريّة التي واجهها هو نفسه في الجيش الأميركي وفي عمله بعد ذلك كصحافي ثم في وزارة الخارجية؟ مستحيل. هو نفسه لم يكن له الحقّ في دخول المطاعم والقاعات التي كانت مخصّصة لزملائه البيض في محيط عمله. هو نفسه كدبلوماسي في وزارة الخارجيّة كان يشاهد بأم عينيه ويسمع بأذنيه إزدراء زملائه له. هو نفسه لن ينسى ما عاناه السود وما كانوا يعانونه من فظائع في الولايات المتّحدة وقتذاك. هو نفسه كصحافي كان يُلّم بكلّ تفاصيل الجرائم التي كان يتعرّض لها السود. هل نسي رُوان ما حدّثه عنه والده من عنصريّة وحقد وتهميش تعرض لهم على يد زملائه البيض بعد عودته من القتال في الحرب العالميّة الأولى؟ من المستحيل أنّ ينسي ذلك. لكن عندما قرّر رُوان أن يتحوّل من ضحيّة إلى جلّاد، كان عليه أن ينسى كلّ ذلك ليتمكّن من الوقوف في وجه العالم لينافق بالنيابة عن الولايات المتّحدة.
يمكن أن نستحضر هنا صورة وزير الخارجيّة الأسبق كولين باول ينافق في أروقة الأمم المتّحدة بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقيّة وضرورة إجتياح العراق من أجل تخليص العالم منها والدفاع عن حريّة وأمن العالم (وليس من مجازر صدّام حسين)، وفي المقابل، نجده كيف يتناسى الجرائم التي كانت ترتكبها أميركا وقتذاك. يمكن أن نستحضر صورة وزير الخارجيّة الأميركي الحالي أنطوني بلينكن (من أصل يهودي من كييف) وهو ينافق في نفس المكان عن خطر فلاديمير بوتين وأطماعه، وينسى أطماع إسرائيل وأميركا وأوروبا.
ولنأخذ أيضاً نموذج بلداننا العربية ومنها لبنان. كل بلدان اللجوء منذ قرون من الزمن إقتضت تضحيات كبيرة للوصول إليها. عمل المهاجرون اللبنانيون والعرب الأوائل في مهن متعددة ولكن أغلبها كانت وضيعة جداً. كانوا الضحية وكان من سبقهم يلعب دور الجلاد. هم أنفسهم عندما عادوا إلى بلدانهم، إرتدوا ثوب الجلاد سواء ضد أبناء جلدتهم أو ضد اللاجئين إليهم هرباً من جور حكامهم.
نعم، كثيرون مّمن عانوا من الاستغلال والفقر إنقلبوا وأصبحوا مُستغلّين ومُفقّرين لغيرهم ما أن إبتسم لهم الدهر ومنّ عليهم بالمال والجاه. كم من غني اليوم يتذكّر معاناته عندما كان فقيراً ويستخدم ذلك من أجل القضاء على الفقر في محيطه؟
عندما تُصبح الضحيّة جلاداً، ينتصر الجلاد الأقدم لأنّ ذلك يعفيه من التبعات الأخلاقيّة لجريمته. إذاً، الجلّاد بحاجة إلى أن تصبّح ضحيته جلاداً، وعند ذلك يبتسم. لذلك علينا أن نقول إنّ النازيّة انتصرت على اليهود بتحويل أكثرهم إلى جلّادين، وانتصرت على الولايات المتّحدة بتحويلها إلى نظام نازي عالمي، و..
وعندما تُصبح الضحيّة جلاداً، تصبح محنتها ومعاناتها سخرية وهباء لا تنفع بشيء إلاّ إذا تمكّنت من استخدامها من أجل الإمعان في جرائمها، كما يحصل تحديداً مع كثير من اليهود في يومنا هذا واستخدامهم للمحرقة من أجل تغطية جرائم إسرائيل وتبريرها. وكما يحصل مع كثير من زعماء وأغنياء العالم الذين همّهم تكديس الثروات، حتّى لو كان نتيجة ذلك المزيد من الفقر والمعاناة والتلوّث والهجرة.
التحوّل من ضحيّة إلى جلّاد هو مشروع لا يمكن أن يقوم إلّا على هزيمة الذات (كشخص وكمجتمع). عند ذلك، يصبح الألم عهراً. لذلك إذا أردنا حقيقةً أن يكون لآلامنا من معنى، من الأفضل لنا أن نموت أو نبقى ضحيّة ليكون لنا أمل في حياة ومستقبل أفضل.