“أمس، كان دور العريف أوريئيل بيرتس، وأول أمس، كان الدور على الرقيب أول يوڤال شوهام. في كل يوم نخسر جندياً قتيلاً في هذه الحرب الطويلة التي بدأت سنة 2023، وتمتد حتى سنة 2025، ولا يبدو أن نهايتها قريبة.
إن قسائم الأراضي الخاصة بالجنود القتلى في المقابر العسكرية تشكّل شهادة صامتة على ثمن الحرب. وعلى غرارها أيضاً الكيبوتسات المدمرة في منطقة غلاف غزة، والمستوطنات التي تتعرض للقصف على الحدود الشمالية. إن “الانتصار التام” هو شعار جميل يردده السياسيون، بينما يدفع البشر ثمنه يومياً بالدم، والأملاك، والأموال، والأرواح.
ويعتمد جوهر مفهوم الأمن في إسرائيل على خوض حروب قصيرة ونقْلها إلى أرض العدو. وفي الجزء الأول من هذه العقيدة الأمنية، أخفقت إسرائيل؛ فالحرب الحالية هي الأطول في تاريخها، أمّا في الجزء الثاني، فقد حققت فيه نجاحاً جزئياً؛ إذ معظم القتال يدور على أرض العدو، لكن الجبهة الداخلية الإسرائيلية كانت، ولا تزال، تحت تهديد من جبهات متعددة.
تآكل أُنشوطة الأعداء
يمكن تلخيص السنة المنصرمة بسلسلة من الإنجازات، والتي لم تكن قليلة؛ فحزب الله تعرض لضربات قاسية في الشمال، وفَقَد معظم قيادته السياسية والعسكرية، وعلى رأسهم قائده المهيمن حسن نصر الله. و”حماس” تعرضت لضربات في الجنوب، وخسرت معظم قيادتها السياسية والعسكرية، وعلى رأسهم قائدها المهيمن يحيى السنوار. وإيران فقدت عدة معاقل مهمة من “محور الشر”، وتعرضت لأضرار في أصول استراتيجية على أراضيها. كما تم استهداف الحوثيين في اليمن، وتلقّى “الإرهاب” في الضفة الغربية ضربات موجعة. وحتى الرئيس الأسد فَقَدَ سلطته، ومع أن ذلك حدث بصورة غير مخطط لها، فإنه ساهم في تآكل حلقة العداء التي تحيط بإسرائيل.
كما يمكن تلخيص السنة المنصرمة بسلسلة من الإخفاقات، والتي لم تكن قليلة أيضاً؛ فهناك 100 مختطَف لم يعودوا إلى بيوتهم، وعشرات الآلاف من النازحين لا يزالون مشردين وخارج منازلهم في الشمال، وكذلك في الجنوب، وإعادة الإعمار لا تزال متعثرة. هذا فضلاً عن فتْح جبهة مواجهة مباشرة مع إيران، التي أطلقت لأول مرة (بل وفي جولتين) صواريخ وطائرات مسيّرة في اتجاه إسرائيل.
ومع تصاعُد المواجهة المباشرة مع الحوثيين في اليمن والارتفاع الكبير في العمليات “الإرهابية” المنطلقة من الضفة الغربية، وتدهوُر المكانة السياسية لإسرائيل وقوتها الاقتصادية، بالإضافة إلى تسريع الإجراءات القانونية ضد قادتها في العالم، ودخول السنة الجديدة، التي تبدأ الليلة عند منتصف الليل، وتحمل معها مجموعة من التحديات على جميع الجبهات، فستكون هذه هي السنة التي ستُحسم فيها الأمور بشأن إيران. وعلى طاولة الحسم، هناك مشروعها النووي، وكل الخيارات مفتوحة؛ مِن محاولة إيرانية للوصول إلى القنبلة النووية، إلى هجوم إسرائيلي (أو أميركي، أو مشترك)، وحتى التوصل إلى اتفاق جديد.
إن المسارات كلها ستمر عبر البيت الأبيض، وعبر مكتب دونالد ترامب، الذي يُتوقَّع أن يكون اللاعب الرئيسي فيما سيحدث في الشرق الأوسط في السنة المقبلة وما بعدها.
وستكون هذه السنة أيضاً السنة التي ستُضطر فيها إسرائيل إلى اتخاذ قرار بشأن مستقبل قطاع غزة، والسنة البديهية التي تقضي بربط إعادة المختطَفين بوقف القتال، ومسألة “اليوم التالي”، سواء بصورة منفصلة أو كجزء من صفقة واسعة، ولا بد من أن تشمل اتفاق تطبيع مع السعودية ودول أُخرى. وإن صفقة كهذه ستكون بمثابة درع حماية مهم لإسرائيل في مواجهة المحور الشيعي، كما يُفترض أن تقدّم دفعة قوية إلى الاقتصاد الإسرائيلي.
الحسم في سوريا ولبنان
ستكون هذه السنة أيضاً سنة التغييرات في الشمال؛ ففي لبنان، ستُطرح تساؤلات بشأن ما إذا كان البلد سيعود ليصبح رهينة لحزب الله، أم إنه سيتحرر ليصير مستقلاً، بالإضافة إلى ما سيترتب على ذلك من طبيعة النشاطات التي سيقوم بها الجيش الإسرائيلي داخل البلد. أمّا في سوريا، فسيتم تحديد مستقبلها تحت النظام الجديد، كما ستحتاج إلى صوغ علاقاتها المستقبلية بإسرائيل؛ إمّا التعايش (سواء أكان دافئاً أم بارداً)، وإمّا المواجهة.
فضلاً عما سيجري في الساحة الفلسطينية، إذ بتنا نقترب من انتهاء حقبة محمود عباس والفوضى الممكنة في غيابه. وهناك من يرحب بهذا في إسرائيل، كجزء من خطته الكبرى لضم الضفة الغربية، ومع ذلك، فيبدو أن فرحة هؤلاء مبكرة للغاية، وتتجاهل الثمن الباهظ الذي يمكن أن يرافق ذلك؛ أمنياً، وسياسياً، واقتصادياً.
كما ستكون هذه هي السنة التي سيحتاج فيها الجيش الإسرائيلي إلى النظر إلى الداخل، والبدء بعملية التعافي، وسيكون عليه إتمام التحقيقات واستخلاص الدروس، وهناك ضباط كبار، على رأسهم رئيس هيئة الأركان، سيُضطرون إلى ترك مناصبهم.
وأولئك الذين سيخلفون الضباط الحاليين سيتعين عليهم بذل جهود عميقة لإعادة بناء ثقة الجيش بنفسه وثقة الجمهور به، كما سيتعين عليهم التعامل مع قضايا حساسة، على رأسها تجنيد المتدينين الحريديم، ومستقبل جيش الاحتياط، وحجم الجيش النظامي، والاستقالات الجماعية لكبار قادة الجيش، والاستثمارات الضخمة في المنصات العسكرية، ولن يتمكنوا من التعامل مع هذه التحديات إلاّ إذا التزموا الولاء للعَلَم، وفقط العَلَم.
وستكون هذه سنة يستمر فيها السياسيون في محاولاتهم لإضعاف الجيش الإسرائيلي وجهاز الشاباك، كجزء من أخطر جبهة تواجه إسرائيل: الجبهة الداخلية.
لقد علّمتنا بداية الحرب ما يحدث عندما تكون إسرائيل منقسمة وممزقة؛ إذ تصبح فريسة سهلة لأعدائها، بينما أظهر مسار الحرب ما يحدث عندما تتوحد إسرائيل أمام التحديات، مهما تكن؛ إذ يمكنها التغلب عليها، وبقوة.
وما يثير الأسف والقلق أن المنظومة السياسية عادت، منذ وقت طويل، إلى الحالة التي كانت سائدة في 6 تشرين الأول/أكتوبر، ففي الوقت الذي يسقط فيه الجنود في غزة، ينشغل الكنيست بقوانين التهرب من التجنيد، وفرض قيود على الجهاز القضائي والإعلام، ومحاولات التهرب من تشكيل لجنة تحقيق رسمية تبحث في إخفاقاتها وتضمن عدم تكرار كارثة مشابهة في المستقبل.
على حافة دوامة خطِرة
هذه الفجوة القائمة بين طاقم الدبابة في غزة وفريق الاستطلاع في لبنان والقوة المداهمة في جنين من جهة، ومن جهة أُخرى السلوك في أروقة السياسة، لا تترك مجالاً للراحة.
وهي السبب في غياب حل لقضية المختطَفين، والإحباط المتزايد المتغلغل بين جنود الاحتياط وأُسَرِهِم، وجنود الخدمة النظامية وأُسَرِهِم، وكذلك في التأخير في تقديم حلول مدنية كافية لمشكلات النازحين وإعادة الإعمار. كما أنها تساهم في هجرة العقول من البلد، وفي الشعور المتزايد بأن إسرائيل، بدلاً من التركيز على القضايا الأساسية، تنجرف نحو دوامة خطِرة جديدة.
وتملك إسرائيل أن تختار مساراً مختلفاً؛ فأوراق البوكر التي وُزعت عليها الآن ليست سيئة مطلقاً لسنة 2025؛ إذ هناك وجود ترامب في البيت الأبيض، وتحسُن الوضع الأمني في معظم الجبهات.
فإذا ما استطاعت إسرائيل أن تنسجم مع نفسها، وأن تميز بين السمين والغث، وبين المصالح الوطنية وتلك السياسية الضيقة، وبين الشأن العام والخاص، وتمكنت من وضع الغرور والاعتبارات الشخصية جانباً والعمل بعقلانية بدلاً من الانفعال، فإنها ستتمكن من مواجهة جميع التحديات الأُخرى”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).