أكيهابارا.. قلبُ القوة الناعمة للثقافة اليابانية

أكيهابارا؛ حيٌ تكنولوجيٌ رائعٌ في قلب طوكيو باليابان، يُطلقُ عليه مسمى المدينة الكهربائية Electric town. أحد أكثر مزارات اليابان جذباً للسائحين من أنحاء العالم. هل هو حي تاريخي أثري قديم ينتمي إلى إحدى حقب التاريخ الياباني العريق؟ لا. إنه حيٌ لا ينتمى لا إلى الماضي ولا إلى الحاضر. أكيهابارا في الحقيقة ينتمي للمستقبل.

أكيهابارا، نموذج للتطور التكنولوجى الذي بلغته اليابان وينعكس بالطبع على الترفيه والإبداع. ما سنناقشه هنا يتناول تأثير الثقافة كقوة ناعمة ترسل من خلالها اليابان قبسات من ثقافتها لتوضع أمام أعين، آذان وعقول عشاق فن الأنمي والمانجا الياباني، وهو عالم يستخف به كثيرون، بينما يزداد عدد عشاقه منذ سبعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا.

تتوقف حركة السيارات في حي أكيهابارا يوم الأحد من كل أسبوع لمدة 4 أو 5 ساعات على الأقل، لكى يُسمح للمارة بالتجول بحرية وسط هذه الأجواء الخيالية التي تختلط بها رسومات الأنمي والمانجا الضاربة بجذورها في أعماق تربة الثقافة اليابانية، لتمتد فروعها الرقمية فتُحوّل المنطقة إلى عالم يبدو كمدينة على كوكب غير الأرض.

وعندما اجتاح فيروس كوفيد-19 العالم، قامت رابطة غير ربحية اسمها ” جمعية أكيهابارا لترويج السياحة” بإطلاق مشروع “جولة أكيهابارا المهجنة” (Akihabara Hybrid Tour)، وفيها يستمتع الزائر بتجربة زيارة الأماكن الأبرز بالمنطقة، على متن دراجة ثلاثية العجلات يقودها سائق. على الزائر أن يرتدي نظارة عالم افتراضي VR Goggle، تعرض عليه تفاصيل الأماكن التي منع انتشار فيروس كورونا التجمع بداخلها، ليستمتع بها افتراضياً. بينما تلقى على آذانه كلمات مرشد الجولة الافتراضي باللغتين اليابانية للمحليين، والانجليزية للسائحين. وتقوم العجلة المكشوفة بحمل الزائر على عجلاتها الثلاث: عجلتان خلفيتان هما السياحة والصناعة، تتوسطهم إلى الأمام عجلة ثالثة هي الثقافة اليابانية.

مجتمعات عشاق الأنمي

أوتاكو Otaku، كلمة توازي كلمتي (Geek) أو (Nerd) الانجليزيتين، تطلق على عشاق فن الأنمي والمانجا، الذي يقدم عبر مجلات الرسومات، الأفلام، والمسلسلات التي بلغ إبداعها العالم الرقمي في أفلام ثلاثية الأبعاد وماكينات عرض الـ(Virtual Reality) وكذلك ألعاب الكمبيوتر والهاتف. كلمة يصعب ترجمتها حرفيا وحملت معانٍ متعددة منذ اشتهرت بإطلاقها على مجتمعات عشاق هذا الفن الياباني الأصيل. لكن لا تدع يابانية اللفظ تعطيك إنطباعاً خاطئاً بانحسار فن الأنمي داخل حدود اليابان، فمجتمعات عشاق الأنمي (Anime Fan Communities) تخطت حدود الأرخبيل الياباني منذ عقود، لتأسر قلوب وعقول المتابعين في جميع أرجاء الكوكب. على رأسها دول مثل الفيليبين، هونج كونج، تايوان، سنغافورة، كوريا الجنوبية – انتبه هنا لأسماء الدول التالية – البرازيل، المكسيك، كندا والولايات المتحدة الأمريكية. هذه هي أسماء الدول التسع التي تحتل مراكز قائمة العشر الأوائل الأكثر مشاهدة لأفلام الأنمي في العالم بصحبة اليابان على قمتها.

تضيّق الحكومة الصينية الخناق على الأنمي الياباني، الذي يقدم أفلاماً ومسلسلات اعتبرتها الرقابة الصينية الثقافية عنيفة، أحدها عنوانه (My Hero Academia)، الذي منع بالصين لذكره في سياق الأحداث التجارب البشرية التي أجراها الجيش الياباني الإمبراطوري إبان الحرب العالمية الثانية، والتي كان بين ضحاياها صينيون. ولكن هذا التضييق لم يمنع وجود مجتمعات عشاق الأنمي على أرض الصين. فمسلسل مثل “قاتل الشياطين” (Demon Slayer) تصدر سوق المشاهدة المتلفزة بالصين عام 2019. وذلك برغم تشبع السوق الصيني بعالمه الموازي للأنمي، المسمى دونجوا (Donghua).

وهل نسي أحدنا حلقات “كابتن ماجد” الكارتونية التي لطالما أدمنا مشاهدتها صغاراً، ولا زلنا نتذكرها ونستعيد ذكرياتها كباراً؟ الاسم الأصلي الياباني للكابتن ماجد بالمناسبة هو “كابتن تسوبازا” (Captain Tsubasa)، وهو من إنتاج عالم الأنمي الياباني.

لم يسمح عشاق هذا الجزء من الثقافة الشعبية اليابانية للأوصاف التي توجه إليهم في معرض الإهانة أن تثنيهم عن عشقهم لهذا الفن. فوصف المهتم بموضوع ما بالمهووس أو غريب الأطوار (Geek/Nerd) أصبح يُطبع على تي شيرتات تحمل هذه الكلمات ليرتديها أصحابها بفخر. ولا يختلف الأمر بالنسبة لكلمة (Otaku)، التي تعني في أصلها “بيتك”، أو “الملتزم بيته”. ولنفهم معناها بشكل أوضح، نحولها في قاموس العامية المصرية لتصبح “بيتوتي”، أي ذلك الشخص الذي يحوله هوسه بحب شيء ما، إلى شخص منغلق لا يغادر “بيته” ليكرس أطول وقت ممكن ليمارس الحب مع معشوقته. نعم، صنعت الثقافة اليابانية، معشوقة عالمية لها هذا النوع من المحبين، بل وقامت ببناء حي مخصص لهم في أكيهابارا.

سوق تجاري مختص برسومات الأنمى والمانجا، مليء بالمحلات التي تبيع شرائط الفيديو، الصور والبوسترات، ألعاب الفيديو ومتعلقاتها، الملابس والأكسسوارات، الهدايا والتماثيل الصغيرة وغيرها من السلع المتعلقة بهذا الجزء الأصيل من ثقافة الترفيه اليابانية.

حيُّ تكنولوجي تسوّقي سياحي ويجب أن نضيف هنا، ثقافي، يقع بصرياً خارج حدود الواقع، تأسر تصاميم مبانيه وأضواء لافتاته القافزة بالألوان الثابتة والمتحركة للرسوميات اليابانية أعين المتسوقين في المحلات المتخصصة في بيع المنتجات الرسومية والإلكترونية، التي تمثل كل قطعة تباع منها، وحدة ثقافية يابانية، تسافر بصحبة مشتريها إلى جميع أنحاء العالم.

بعض هذه المنتجات التكنولوجية قد تكون مقتصرة على المستخدم المحلي نتيجة فوارق تقنية تختص بها اليابان. لكن السائح الأجنبى سيجد أيضاً نسخاً مناسبة للإستخدام فى بلاده من معظم هذه المنتجات الرقمية. وتتيح الكثير من محلات المنتجات الإلكترونية في أكيهابارا فرصة الحصول على بعض البضائع مجاناً فى حدود مبلغ عشرة آلاف ين ياباني بشرط تقديم السائح جواز سفره. وإذا أراد الزائر أن يلتقط أنفاسه مع تناول وجبة بصحبة مشروبه المفضل، سيجد أمامه خيارات متعددة من مطاعم وكافيهات على ارصفة شوارع أكيهابارا، حيث ترتدي النادلات هناك ملابس تجعل كل واحدة منهن تبدو كرسمة لأحد شخصيات الأنمي الشهيرة.

الثقافة كصناعة

لم يكن نجيب محفوظ مخطئاً حين قال بأن “المحلية هي أقرب طريق إلى العالمية“. فقد كانت بدايات الأنمي قبل أكيهابارا، وقبل التكنولوجيا، رسومية، يدوية ويابانية بامتياز. لكنها مع غزو التقنيات الرقمية، تدرّجت في تطورها الرقمي، لتستمر في إطلاق إشعاعات من الثقافة اليابانية خارج حدود الإمبراطورية. ولم تعد الأيادي التي تقوم بتصميم الرسوم، اليدوية منها والرقمية، مقتصرة على اليابانيين فقط.

إقرأ على موقع 180  هل يُشعِل الديموقراطيون حرباً جديدة؟

حجم صناعة الأنمي لا يمكن تجاهله. دعونا ننظر إلى بعض المؤشرات الدالة على مدى نجاح وانتشار هذه الصناعة اليابانية الأصل. ولنبدأ من أكثر امتيازات الأنمي (Franchise) نجاحاً في تاريخ الصناعة على الإطلاق، ألا وهو (Pokemon)، وهي الشركة التي حققت عبر حقوق ملكيتها الفكرية لهذه الرسوميات ما يقارب الـ 100 مليار دولار!

إلى تعاقدات رسمية قامت بها ماركات عالمية بحجم نايكي (Nike)، جوتشي (Gucci)، أديداس (Adidas) وسكتشرز (Sckechers)، مع أكبر شركات إنتاج ألعاب وأفلام رسوميات الأنمي المتحركة للحصول على الحقوق الحصرية لصناعة منتجات الملابس التي تحمل شعاراتها وشخصياتها، حاملة في بعض تصميماتها أحرف اللغة اليابانية.

إلى إحصائية سجلت احتلال تصنيف الأنمي للمركز الخامس في قائمة أكثر التصنيفات طلباً للمشاهدة عبر مختلف الوسائط المرئية في دولة كندا خلال الربع الأول من عام 2021.

وإذا كنا نعتقد أن كابتن تسوبازا (المعروف لدينا بكابتن ماجد) كان ناجحاً، فماذا إذا قلنا لك أن أنجح امتيازات الأنمي في عام 2021 وهي هايكيو (Haikyuu)، وهو مسلسل كرتوني عن كرة القدم أيضا، حقق بدون إصدار أي جزء جديد من الحلقات الكارتونية ولا عدد جديداً من مجلة المانجا (الأنمي في صورته المطبوعة) الخاصة بها، دخلاً بلغ 30 مليون دولار خلال العام السابق فقط.

إلى ماكينات الباتشينكو (Pachinko) النابعة من عالم المانجا والأنمي، والتي تشبه ماكينات المراهنات الشهيرة باسم (Slot Machines)، وهي التي حققت صالاتها (Pachinko Parlours)، أرباحاً صافية (ناهيك عن حجم السوق الذي يبلغ خمسة أضعاف الرقم التالي) قدرت في عام 2020 بـ 2.35 تريليون ين ياباني (حوالي 21.5 مليار دولار). وإن تعجبت من ضخامة هذا الرقم، إليك رقم آخر لا يتضمن إيرادات الباتشينكو، وهو 2.7 تريليون ين ياباني (حوالي 23.5 مليار دولار)، وهذا هو تقدير لحجم سوق الأنمي العالمي في عام 2020. هذا مع عدم إمكانية حساب المشاهدات خارج إطار حقوق الملكية الفكرية للشركات المنتجة، أو مشاركة الألعاب، أفلام ومسلسلات الأنمي التي تقع خارج الإطار الإحصائي بالطبع.

هي إذن صناعة شرسة، وقد صدر تقرير صحفي في صورة دراسة أجرتها شبكة (Vox) على صناعة الأنمي اليابانية، تكشف فيه مدى هذه الشراسة. معبرة عن أن المبدعين الحقيقيين، أصحاب “الصنعة” التي تبدع رسوميات الأنمي لا يحققون النسب الكافية التي تكفي حتى لصنع حياة كريمة لهم، رغم الإيرادات الضخمة التي تحققها “الصناعة”. وكان أحد العناوين الفرعية في هذا التحقيق الصحفي يقول “مشكلة عمالة السُخرة للأنمي” (Anime’s Slave Labor Problem).

شعب من كوكب الأنمي

هنا لا بد من فتح مزدوجين: صناعة الأنمي تعاني من نسب انكماش مزدوجة الأرقام في الأعوام الأخيرة. وتعاني منطقة أكيهابارا من بعض الصعوبات بسبب جائحة كورونا. وستتعجب عندما تتابع ردود فعل شعب (مَعْنيّ) كأهل اليابان، على صفقة استحواذ شركة جندا (Genda) على الحصة الباقية من شركة سيجا (SEGA)، ليصبح لها الحق في تغيير إسم سيجا إلى (GiGO)، فيختفى اسم إحدى أكبر شركات عالم الألعاب اليابانية من السوق العالمية ومن قلب عالم الأنمي بأكيهابارا.

يزداد العجب إذا ما قرأت أمثلة لتعليقات اليابانيين على إغلاق فرع لسلسلة مطاعم أوكامورايا (Okamuraya)، التي يعدونها من معالم المنطقة الكهربائية وارتبطت ذكرياتهم بها مصحوبة بذكريات كوكب الأنمي. تدرك أنك أمام تجربة تتخطى كونها مجرد حيِّ للترفيه، بل أنت أمام شعب مشارك في صنع هويته، ويحب عيش تفاصيل تجاربه التي يصنعها بيديه، ويفهم أن كل عنصر بها وإن صغر، هو وحدة من وحدات ثقافتهم، ولذلك يصعب عليهم تقبل فكرة سقوط أية تفصيلة في معالمها.

ولكن الحقيقة ستفاجئك بما هو أكثر من العجب من ردود فعل هؤلاء اليابانيين، حينما تعلم أن شركة جندا التي استحوذت على سيجا هي أيضاً شركة يابانية وليست شركة “غريبة”. بينما سلسلة المطاعم التي أغلقت فروعها بأكيهابارا هي مجرد سلسلة مطاعم، يوجد لها منافسون لا زالت فروعهم قائمةٌ ترزق بأكيهابارا، وتقوم بتقديم ذات قائمة الطعام. بل أن مطعم أوكامورايا ذاته، لا يزال له فرع قائم في طوكيو بعيداً عن أكيهابارا. كما أن هذه الأخبار التي تواترت عن إغلاقات بعض المراكز الترفيهية في حيّ أكيهابارا لم تكن نتاج فشل هيكلي أو جوهري في بيزنس أنشطته ومستثمريه، بل جاءت نتيجة لانتشار وباء عالمي.

هل أدركت الآن مغزى ما نتحدث عنه عزيزي القارئ. هل يمكننا تجاهل التأثير الثقافي والاقتصادي لمثل هكذا صناعة ومثل هكذا شعب، يهتم بحب حتى وهو يمارس الترفيه؟. ولا تنسى أننا نتحدث فقط عن حي صغير اسمه أكيهابارا في مقاطعة ضمن 14 مقاطعة أخرى، داخل مدينة طوكيو عاصمة اليابان.

لم تخطىء التقارير السنوية الصادرة عن مواقع يابانية، والتي تقيس حجم الإيرادات التي حققتها صناعة الأنمي كل عام، عندما تجد الكثير منها يصف الصناعة بتعبير “القوة الناعمة”. ولم يخطىء المدوّن التشيكي الرحالة “سباستيان وورتيس” عندما أضاف تحت عنوان مقاله “أكيهابارا المدينة الكهربائية”، عنواناً فرعياً ترجمته هي “سوق أسود للبضائع الإلكترونية سابقاُ، جنة لمتسوقي الأوتاكو الآن”. كما لم يخطىء أيضاً نجيب محفوظ في مقولته الشهيرة “المحلية هي أقرب طريق للعالمية”.

المخطئ هو من يستخف بكل شيء، ولا يقدر قيمة أي شيء، فلا ينتج أي شيء، ترفيه كان أم جد. المخطئ بحق هو من لا يقدّر القيمة الثقافية والاقتصادية التي يمكن أن تمثلها القوة الناعمة، حتى ولو جاءت على هيئة شخصية كرتونية.

سايونارا

さよなら

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  العلاقات الأميركية - الإسرائيلية: إختبارات وإحتمال نشوء توترات