خطاب الحزبيات اللبنانية الفاشلة.. أقرب من الأنوف!

يطيب لغالبية الأحزاب السياسية اللبنانية، الترويج لإستحالة التعايش بين اللبنانيين، نظراً للتعدد الطائفي والمذهبي الذي يطبع الواقع الأهلي في لبنان، وهذا الترويج الناتج عن فقر العقل السياسي لـ"النخب" التي تصوغ الخطاب الحزبي العام، يؤكد مرة تلو أخرى، افتقاد معظم الأحزاب اللبنانية الحالية لمفكرين قرؤوا تعدديات قومية ودينية في مجتمعات شتى في العالم، تحولت معها تلك المجتمعات إلى دول مضيئة في تجاربها الوطنية وإنجازاتها السياسية والعلمية والحضارية.

في كتاب “صنع العدو” (La fabrication de l’ennemi)، يُفكّك المفكر الفرنسي بيار كونيزا عناصر صناعة الأعداء الخارجيين والداخليين، وهي “صناعة” تقوم على اختلاق العدو لأجل إيجاد الذات، فالأخيرة وفق قواعد “صناعة العدو” لا يمكن تحديدها إلا بعد ان يسبقها تحديد العدو أو الآخر، ويأتي بعد ذلك أبلسة هذا العدو بهدف تقديس الذات وإظهارها كرابطة حماية ودفاع تتصدى لشيطنة الآخر ومخاطره.

ثمة مجموعة من الأعداء المختلقين او الوهميين، كما يقول بيار كونيزا، ويحددهم بالتالي:

العدو العالمي: المنافس في خصومة قوتين تعطيان لنفسهما نزعة عالمية، وهذا مظهر من مظاهر تنافس الإمبرياليات.

العدو المحجوب: ما يظنه البعض بأنه القوة الخفية التي تدير الشعوب وتسيطر على مصائرها.

العدو الحميم: هو الآخر على الأرض الواحدة، وهو الإقتتال بين أبناء الوطن الواحد الذين كانوا يظنون أنهم يعيشون بسلام، تبدأ الحرب بالكلمات ولا تُعلن أبدا، ثم تنتهي بالقتل الإستباقي، هي الحرب الأهلية.

العدو الإعلامي: يشكل الحالة الأحدث للفراغ الإيديولوجي والإستراتيجي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة والتي يجتاحها الإعلام، ولا يتحدد هذا التهديد غير الإستراتيجي عبر المؤسسات الإستراتيجية، بل يتحدد بصورة أساسية عبر “مثقفين” إعلاميين.

على تلك الأحزاب اللبنانية أن تنظر إلى أبعد من أنوفها قليلا، لترى ان ثمة مجتمعات تعددية، كبرى وصغرى، شرقا وغربا، استطاعت أن تدير تعددياتها الحادة والتي تتجاوز حرارتها وحديتها التعددية اللبنانية بأشواط ضوئية

ومن ضمن نماذج “العدو الحميم”، يورد كونيزا “النموذج اللبناني”، وحوله يقول “إن عنف الحروب الأهلية لا حدود له، ولكنه ينتشر في محيطه الجيوسياسي، والأصعب هو إثارة اهتمام المجتمع الدولي، ويشكل نمو الهويات المحلية والطائفية الأساس الأول للحروب الأهلية، والمثال اللبناني حاضر حيث يبالغ الزعماء في المسألة الإثنية ـ الطائفية، وتمتلك الطبقة السياسية سلطتها من استمرار الإنقسامات”، معتمدة على خطاب سياسي وإعلامي تقليدي جرى ويجري اعتماده في مختلف الحروب الأهلية في العالم قاطبة، وقوامه الآتي:

ـ استحضار دائم للمجازر والحروب السابقة بهدف إبقاء الذاكرة متوترة ومستنفرة وقابلة للإشتعال في أية لحظة.

ـ استدعاء نظرية المؤامرة الدولية والبناء عليها وتحميلها أوزار الإنقسامات والإخفاقات وسائر النزاعات.

ـ إعلاء شأن التحذير من استهداف الهويات الطائفية أو القومية.

ـ الفصل أو الفرز السكاني، وما يستتبعهما من فصل جغرافي، يؤدي إلى تموضع أصحاب الهويات المتنازعة في مناطق مفصولة سكانيا عن بعضها البعض.

ـ إيصال كل اختلاف سياسي إلى خلاف بين الهويات والطائفيات والقوميات، الأمر الذي يجعل أبناء الوطن الواحد يعيشون بإستمرار على حافة الهاوية، وفي أحيان كثيرة على حافة الحرب، بل في لجة الحرب.

هنا ثمة سؤال كبير:

أوليس ما تقدم ذكره يعكس واقع المشهد السياسي في لبنان، وحيث تراوح غالبية القوى السياسية على عناد لا نظير له ويتمثل بتمسكها المتصلب بمفردات التبعثر والتناحر، ولا تكل هذه القوى ولا تمل عن تصدير خطاب سياسي ملؤه الحقد من جهة، وحافل بإقناع أنصارها ومريديها بإستحالة بناء دولة وطنية حقيقية لأن التعدد الطائفي والمذهبي يقف عائقا دون ذلك، وبالتالي ليس بالإمكان أكثر مما هو كائن من جهة أخرى؟

هذا السؤال ـ الجواب ينطوي على حقيقتين ومن دون ترجيح واحدة على أخرى، فإما غالبية رواد العمل الحزبي في لبنان مصرة على المراوحة الإنقسامية والتناحرية لأن “شرعية” أحزابهم مستمدة من تأجيج نزاع الهويات الطائفية، وإما أنهم مصابون بالعقم الفكري، أو ليس في أحزابهم مفكرون، أو أن مفكريهم مقصيون ومهمشون، وفي الخلاصة أن على تلك الأحزاب اللبنانية أن تنظر إلى أبعد من أنوفها قليلا، لترى ان ثمة مجتمعات تعددية، كبرى وصغرى، شرقا وغربا، استطاعت أن تدير تعددياتها الحادة والتي تتجاوز حرارتها وحديتها التعددية اللبنانية بأشواط ضوئية، ومن أمثلة ذلك:

أولاً؛ النماذج الشرقية:

أ ـ سنغافورة: يأخذ الأميون السياسيون والحزبيون على لبنان صغر مساحته واتساع تعدديته، وبهذين العاملين يربطون عجزهم عن إدارة التعدد اللبناني، ولكن لو تم النظر إلى سنغافورة، وكانت جزءاً من ماليزيا حتى عام 1965، ربما حكّ أولئك رؤوسهم قليلا، فسنغافورة لا تتجاوز مساحتها 710 كيلومترات مربعة، ويتعدد عدد سكانها خمسة ملايين نسمة، أي ما يقارب عدد سكان لبنان.

في سنغافورة تعدد عرقي وديني وثقافي شبيه بالفسيفساء، ونسيجها السكاني خليط من المهاجرين القادمين من الصين وماليزيا والهند والقوقاز وبلاد أخرى، وتعددها الديني يتوزع بين البوذية (34 في المائة) والمسيحية بمذاهبها المختلفة (18 في المائة) والإسلام (15 في المائة) والطاوية ـ الصينية (11 في المائة) والهندوسية (6 في المائة)، فضلا عن اتباع اللادينية المقدر عددهم بحوالي 15 في المائة من المجموع العام، وأما لغاتها الرسمية فثلاث وهي: الإنكليزية والصينية والماليزية.

وواقع الحال، انه لا يمكن مقارنة التعدد في سنغافورة بنظيره اللبناني، لا من حيث القوميات ولا من حيث الأديان، ولكن المقارنة تستقر على التالي: في سنغافورة سياسيون ناجحون وفي لبنان سياسيون فاشلون.

ب ـ ماليزيا: يغلب الطابع المالاوي على ماليزيا، ولكن الصينيين يشكلون ربع السكان، ويضاف إليهم الهنود وآسيويون آخرون، وإذ يتبع أكثر من نصف الماليزيين الديانة الإسلامية، فإن عشرين في المائة من الماليزيين ينتمون إلى البوذية، و9 في المائة إلى المسيحية، و7 في المائة إلى الهندوسية والسيخية، وثلاثة في المائة يتبعون تعاليم كونفوشيوس وغيره من فلاسفة الصين القدماء وطرقهم الفلسفية المتعددة.

الخلاف على التشكيلة الوزارية في بلجيكا لا يضرب مؤسسات الدولة ولا ينال من دورة الحياة العامة ولا يعصف بالإقتصاد ولا يدفع السياسيين على قارعة العوز والإفقار كما هو أمر أهل السياسة في لبنان

وبالنظر إلى التعدد القومي الذي يميّز ماليزيا، فسكانها يتحدثون بثلاث لغات هي الملاوية والصينية والهندية، كما أن أحزابها الكبرى تقوم على قواعد هذا التعدد، فحزب “الإتحاد” يضم الملاويين، وحزب “الجمعية الوطنية” يجمع الصينيين، وحزب “المؤتمر” ينظّم الهنود، ومع ذلك، فقد تحولت ماليزيا إلى كتلة ضوء اقتصادية وحضارية تقدمت إلى الصفوف الأولى من دول العالم، فقد قفز حجم اقتصادها من 3 مليار دولار عام 1970 إلى 365 مليار دولار في عام 2019 وفقا لبيانات “البنك الدولي” و”منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية”.

إقرأ على موقع 180  الترسيم البحري: إسرائيل تجتاح لبنان بخطين جديدين!

ثانياً؛ النماذج الغربية:

أ ـ المانيا: خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية عام 1945 محطمة ومدمرة، وشاءت الأقدار أن يقود مرحلة ما بعد الحرب، قائد فذ إسمه كونراد أديناور (1876ـ 1967)، فذهب أولا إلى تأسيس “الإتحاد الديمقراطي المسيحي”، وعلى الرغم من اتخاذ الحزب القيم المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية مبادىء عامة له، فقواعده الشعبية كانت غالبيتها من الكاثوليك، وإلى حدود راحت فيها الطرائف الألمانية تصفه بأنه “حزب مدينة بون” بإعتبارها قاعدة للكثلكة، وأما خصمه التقليدي الحزب “الإشتراكي الديموقراطي”، فبعد تخليه المبكر عن الماركسية، فقد كان المنضوون في صفوفه ذات غالبية بروتستانتية.

لا بأس من إعادة توصيف انطلاقة الحزبين التقليديين في ألمانيا، “الديموقراطي المسيحي” ذو أكثرية كاثوليكية، و”الإشتراكي الديموقراطي” ذو أكثرية بروتستانتية، وفي ذلك يقول وزير الخارجية الألمانية الأسبق يوشكا فيشرفي مقالة وزعتها رابطة “بروجيكت سنديكيت” للصحافة الدولية بتاريخ 11 ـ 3 ـ 2012 “إن الإتحاد الديموقراطي المسيحي وتوأمه حزب الإتحاد الإجتماعي المسيحي في مقاطعة بافاريا، يأتيان خلفا لحزب الوسط الألماني الكاثوليكي، الذي حارب ضد هيمنة البروتستانت في بروسيا ورايخ بسمارك وبدعم من الأغلبية الكاثوليكية في غرب وشرق ألمانيا”، وحيال ذلك لا بد من ملاحظة التالي:

ـ تولى كونراد أديناور منصب المستشارية، أي السلطة التنفيذية في ألمانيا طوال 14 عاما بين 1949 و1963، وخلفه لودفيغ إيرهارت حتى 1966، ثم كورت غيورغ كيزينغر حتى 1969، وخلال هذه الأعوام المديدة لم يخرج من النوافذ ولا الأبواب صياح وصراخ البروتستانت لتندد بـ”سلطة الكاثوليك”.

ـ في عام 1969، آلت مقاليد الحُكم في ألمانيا إلى فيلي برانت (1913ـ 1992) زعيم الحزب “الإشتراكي الديموقراطي” الخصم اللدود للديموقراطيين المسيحيين، ولم يخرج الكاثوليك شاجبين انتقال السلطة إلى البروتستانت، ولا ذهبوا إلى تعييرهم بأن حزبهم “الديموقراطي المسيحي” وزعيمهم كونراد أديناور هو الذي أعاد بناء ألمانيا بعد الحرب وجعلها حية بعدما كانت جثة.

ـ حين التقط هيلموت كول (1930 ـ 2017) لحظة انهيار الإتحاد السوفياتي والمنظومة الإشتراكية، وغامر بإعادة توحيد المانيا عام 1990، لم يتوجس الكاثوليك الألمان من الوحدة الألمانية ولا ارتعبوا من الغلبة العددية للبروتستانت في حال توحد الشطرين الألمانيين، ولا قالوا إن الأغنياء في غرب ألمانيا يرفضون العيش مع الفقراء في شرقها، وإنما أقاموا أعراسا للوحدة وراحوا يرقصون وينشدون:

وحدة… عدالة… حرية/ للوطن الألماني/ لأجل ذلك علينا النضال/ بأخوة… بقلب ويد/ وحدة… عدالة… حرية.

ب ـ بلجيكا: في النماذج الغربية الناجحة في إدارة التنوع والتعدد، لا يمكن ان يغيب عن البال نموذج سويسرا الرائدة وتعدديتها القومية ولغاتها الرسمية الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية (إحدى لهجات اللغة اللاتينية القديمة) وكذلك كندا التي خرجت من إطار النزاعات اللغوية ـ القومية بإتفاقية العام 1982التي أكدت على ثئائية الفرنسية والإنكليزية باعتبارهما لغتين رسميتين، ولكن يبقى للنموذج البلجيكي خاصية المقارنة مع النموذج اللبناني من ناحية الفراغ الحكومي التي تسبق تشكيل الحكومات في بلجيكا ولبنان، وغير ذلك لا يجمع جامع بين الإثنين ولا يقترب أحدهما من الآخر لا في الشكل ولا في المضمون.

في بلجيكا كما هو معروف يوجد مجموعتان قوميتان كبيرتان، الفلمنكيون Vlamingen في الشمال وينطقون بالهولندية، والوالون Wallons في الجنوب ويتحدثون بالفرنسية، وتنضم إلى هاتين المجموعتين اللغويتين مجموعة ثالثة هي الألمانية، ولتغدو معها اللغات الرسمية في بلجيكا ثلاثا.

في لبنان يدأب السياسيون منذ عام 2015 على إغراق بلادهم بالنفايات، ويعجزون عن إيجاد حل لهذه الآفة، ومن يعجز عن معالجة هذه المخزاة، هل يُفلح في إدارة دولة وتسيير مجتمع؟

يتنازع البلجيك حول طريقة تشكيل الحكومات بعد كل انتخابات عامة او إثر استقالة الحكومة، ولكن آليات إدارة الدولة تبقى على زخمها بلا نقصان أو تعطيل، وبحسب تقرير بثته قناة “يورور نيوز” الأوروبية في السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير 2020، انه بعد “أربعة عشر شهرا بدون حكومة فيدرالية، فالحياة اليومية في المدن البلجيكية تسير على أكمل وجه، فالعمّال والموظفون يتقاضون رواتبهم، وقطاع الخدمات يقوم بمهامه كالمعتاد، كما هو حال القطاعات الأخرى في الدولة”. بمعنى آخر، فالخلاف على التشكيلة الوزارية لا يضرب مؤسسات الدولة ولا ينال من دورة الحياة العامة ولا يعصف بالإقتصاد ولا يدفع السياسيين على قارعة العوز والإفقار كما هو أمر أهل السياسة في لبنان، وفي جدول بياني لـ”البنك الدولي” حول نمو الإقتصاد البلجيكي رغم سخونة تأليف الحكومات، تتحدث لغة الأرقام بالآتي:

ـ 1995: الناتج الإجمالي المحلي بلغ 288 مليار دولار.

ــ 2004: 368 مليار دولار.

ـ 2008: 515 مليار دولار.

ـ 2014: 534 مليار دولار.

ـ 2018: 543 مليار دولار.

ـ 2020: 521 مليار دولار، وأسباب هذا الإنخفاض في عام 2020 تعود إلى تداعيات جائحة “كورونا” التي ضربت الإقتصاد العالمي عموما.

ما يقال في النموذج البلجيكي ذي الشبه بحالة واحدة مع النموذج اللبناني، ان في بروكسل يحصر السياسيون خلافاتهم في نطاق تشكيل الحكومة ولا يتدافعون إلى تحطيم الهيكل على رؤوس مواطنيهم، وأما في بيروت فلا يُبقي السياسيون حياة أو رمقا أخيرا.

في الختام عودة إلى المقارنة بين سنغافورة ولبنان:

ـ في سنغافورة: يدأب السياسيون على ان تبقى بلادهم أنظف البلاد في العالم، وحتى رمي “العلكة ـ اللبان” في الشارع، له قصاص وعقاب.

ـ في لبنان: يدأب السياسيون منذ عام 2015 على إغراق بلادهم بالنفايات، ويعجزون عن إيجاد حل لهذه الآفة، ومن يعجز عن معالجة هذه المخزاة، هل يُفلح في إدارة دولة وتسيير مجتمع؟

ذاك هو الفارق بين سياستين، سياسة نظيفة هناك، وسياسة غير نظيفة هنا، وبعد التمعن والتدقيق في هذا الفارق، لا يبقى تفاصيل ولا حواش ولا شروحات.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  "ميني حرب لبنانية".. أين جعجع والجيش وحزب الله؟