إتعظوا من الماضي والحاضر.. إنه النظام
BEIRUT, LEBANON - NOVEMBER 12: People taking part in the competition, held in the Bishara El Huri region of the capital Beirut, try to climb the entire wall using holes created in the conflict in Beirut, Lebanon on November 12, 2016. A climbing competition has been held on the El Kamal building, whose walls are studded with the marks of conflict from the Lebanese civil war (1975-1998). (Photo by Ratib Al Safadi/Anadolu Agency/Getty Images)

كأن لبنان قدره أن يتعايش مع الأزمات. مواسمها تهبُ عليه عندما يكون العالم العربي مستقرا، فيحتاج إلى متنفس لتناقضاته، أو عندما يكون العالم العربي مشتعلاً، فيحتاج إلى فسحة من الإستقرار الهش.

خدم السفير سام لويس سفيراً للولايات المتحدة لدى إسرائيل خلال حكومات مناحيم بيغن المتتالية، قبل أن يتقاعد في العام ١٩٨٤. التقينا على غداء لاحقاً خلال ممارسة مهمتي كسفير للبنان في واشنطن. باغتني يومذاك بسؤال لم أتوقعه: “أتمنى أن تعطيني جواباً صريحاً. كانت العلاقات بين الموارنة واليهود خلال السنوات الأخيرة من حياة بشير الجميّل تتصف بالمودة والأخوة والشراكة. كنت أتصور أنني في حفل زواج بينهما وكان الجميع يرقص فرحاً وابتهاجاً. ماذا حلّ بين هذين الشعبين؟”.  كان عليّ أن احكّ رأسي قبل أن أقدم له الجواب المناسب. بالفعل “حبكت معي”، كما يقال، فأجبته بعد ثوانٍ قليلة: “لم يكن هناك عرس ماروني ـ يهودي. العرس كان بين بشير (الجميل) و(أرييل) شارون. اغتيل بشير قبل أن يتعرف الموارنة واليهود على بعضهم البعض، فانهار الحلم”.

يصح هذا التشبيه على المكونات اللبنانية التي تشكل منها لبنان في ظروف مختلفة وعلى مدى قرون طويلة. الازمات المتتالية والمتعددة والمستمرة التي حلّت بلبنان منذ الاستقلال تُبيّن أن اللبنانيين ليسوا شعباً واحداً. لم تتعرف المكونات تلك على بعضها البعض. هم قبائل او طوائف ولكل مكون خصوصية/خصوصيات حملها معه الى ارض لبنان وما يزال متمسكاً بها. اللبنانيون مجموعة شعوب ولكل منها سند خارجي يدعمه. علاقات الصداقة والتعارف القائمة على مستوى النخب لم تترجم نزولاً الى عامة الشعب. النظام القائم لا يناسب اللبنانيين ولا يعطيهم أمناً وأماناً وإستقراراً وازدهاراً مستداماً. وبرغم أن هذا النظام أعطى اللبنانيين في فترات عديدة من تاريخه، البحبوحة والأمان، إلا أنه أتى بالويلات على أبنائه في فترات عديدة، كما يبيّن تاريخه أيضاً. النظام لا يخدم أحداً من اللبنانيين. لا أعتقد أن ثمة حاجة لإثبات ذلك بالإحصائيات، لكن العودة المختصرة إلى تاريخنا منذ الاستقلال قد تثبت صحة ذلك للقارىء:

أولاً، كان اللبنانيون منقسمين إلى ثلاث مجموعات عشية الاستقلال عام ١٩٤٣:  مع الوحدة مع سوريا؛ مع بقاء الانتداب الفرنسي؛ مع الوفاق المسيحي – المسلم (النموذج اللبناني). رعت بريطانيا الفئة الاخيرة، فكان الاستقلال والميثاق الوطني الذي كرس داخلياً شراكة في الحكم مع أرجحية مسيحية، وبالاخص مارونية. أما خارجيا، فكانت صيغة “لا غرب ولا شرق ولبنان ذو وجه عربي”. أعطى معظم اللبنانيين فرصة للاتفاق الجديد، لكن بقي هناك شعور مبيت بأن هذه التجربة لن تصمد طويلا، وبالفعل عاشت ١٣ عاما.

ثانياً، ظهر الخلاف بين اللبنانيين بعد حرب السويس والاعتداء الثلاثي (بريطانيا، فرنسا واسرائيل) على مصر في خريف ١٩٥٦. عاد اللبنانيون الى الانقسام وقامت حرب اهلية عام ١٩٥٨، بعدما تحالف الحكم مع الغرب والدول العربية المتحالفة معه. وبينما دعمت الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) معارضي الحكم اللبناني، دعمت الولايات المتحدة الرئيس الماروني (كميل شمعون) ومؤيديه. بكلام اوضح، التف المسيحيون حول الحكم وبات المسلمون هم رأس حربة المعارضة. انتهت “ثورة 1958” باتفاق اميركي مصري على انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، فأجرى تغييرات طفيفة في بنية النظام، ومنها شعار “٦ و ٦ مكرر”. كذلك ابتدع شهاب سياسة خارجية قوامها الآتي: “مع العرب اذا اتفقوا وعلى الحياد اذا اختلفوا”، بالاضافة الى “لا شرق ولا غرب، انما مع الشرق والغرب”. أعطى النهج الشهابي لبنان حوالي عشر سنوات من الاستقرار والازدهار.

الخطير في الوضع الحالي ان المسؤولين لم يتعظوا من فشل الماضي وما زالوا يجهدون بمحاولة تلو الاخرى لاستمرار النظام من دون تغيير

ثالثاً، انقسم اللبنانيون مجددا في أواخر الستينيات بين مؤيد ومعارض للعمل الفلسطيني المسلح وحرية استخدام الاراضي اللبنانية لمهاجمة اسرائيل. لم يتمكن اتفاق القاهرة بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٦٩ من تبديد الخلاف بين اللبنانيين، بل تراكم وتفاقم إلى أن إنفجر في ربيع ١٩٧٥ حرباً دموية ومدمرة كرّست انقسامات طائفية عميقة. إجتمع نواب لبنان في الطائف في تشرين الاول/اكتوبر ١٩٨٩، بدعوة من لجنة عربية ثلاثية تشكلت في قمة عربية عقدت خصيصا في المغرب لوقف الاقتتال والوصول الى سلام في لبنان. تألفت اللجنة العربية من ملكي السعودية والمغرب ورئيس الجزائر. اتفق النواب على اصلاحات داخلية عرفت بـ”اتفاق الطائف”. في خريف ١٩٩٠، عشية الحرب الدولية لإخراج صدام حسين من الكويت، منحت اميركا والسعودية الرئيس السوري حافظ الأسد حق الوصاية على  لبنان. اقتصر تطبيق الاتفاق على نقل القرار من رئاسة الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعا.

رابعاً، عينت دمشق “مفوضا ساميا” أدار البلد طوال 15 عاماً وحَكم بين اللبنانيين وكان يفض خلافاتهم المستمرة. اعطت الوصاية السورية إستقراراً سياسياً وأمنياً دام عقداً ونصف من الزمن. اعتمدت الوصاية السورية على قيادات الميليشيات الاسلامية، وجرّدت الميليشيات المسيحية من سلاحها بعدما توزعت قياداتها بين المنفى والسجن. تبدلت الأحوال بعد خلاف أميركي – سوري حول الارهاب والاجتياح الاميركي للعراق، فانقسم اللبنانيون بعد قرار مجلس الامن الرقم ١٥٥٩ عام ٢٠٠٤ الذي انهى الوصاية السورية على لبنان وطالب بحل القوى المسلحة غير الشرعية (حزب الله ضمناً) وإنتخاب رئيس جديد للجمهورية. خرجت القوات السورية العسكرية والامنية من لبنان بعد اقل من شهرين من اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط/فبراير ٢٠٠٥. انتهت الوصاية السورية تحت ضغوط اقليمية ودولية ولبنانية. لم يكن الانقسام هذه المرة طائفياً. فبينما الذين اشتركوا في مظاهرات ٨ اذار كانوا من الطائفة الشيعية بالاضافة الى اقليات سنية ومسيحية ودرزية، حضرت في مظاهرات ١٤ اذار اكثرية السنة والدروز والمسيحيين مع أقلية شيعية. نجحت اكثرية ١٤ اذار في عزل ميشال عون بعد الانتخابات النيابية في ربيع ٢٠٠٥، برغم ما حققه على صعيد التمثيل المسيحي الكاسح، فقرر “الجنرال” إبرام تفاهم مع حزب الله (شباط/فبراير 2006) اوصله الى رئاسة الجمهورية بعد عشر سنوات.

إقرأ على موقع 180  حزب الله وصندوق النقد ولبنان.. طابخ السم آكله!

خامساً،  منذ عام ٢٠٠٥ ولبنان منقسم بين من يدعم امحور غربي، وبالتحديد اميركا والسعودية، وبين محور شرقي قوامه ايران وسوريا: السنة مع الغرب والشيعة مع الشرق والمسيحيون والدروز منقسمون بين الاتجاهين. كما شهدت الخمسة عشر عاما  الاخيرة، من جراء الانقسام القائم، حالة من عدم الاستقرار السياسي والامني، تخلله اصطدام مسلح في ربيع ٢٠٠٨ واجتماع القيادات اللبنانية في قطر واتفاقهم على انتخاب رئيس للجمهورية بعد فراغ رئاسي دام سبعة اشهر، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، للمعارضة فيها حق النقض بإعطائها ثلث عدد الوزراء زائدا واحد. لم تنتج الانتخابات النيابية في عام ٢٠٠٩ ولا تشكيل حكومات الوحدة الوطنية الاستقرار السياسي المنشود. وقع فراغ رئاسي اخر دام عامين وخمسة اشهر كما كانت الحكومات المتتالية تاخذ اشهرا طويلة لتشكيلها. والجديد منذ عامين، ان السياسات النقدية والمالية التي وضعت في اوائل التسعينيات استنفدت غايتها، وبات لبنان يعاني من ازمات سياسية واقتصادية وحياتية ومالية ونقدية والى حد اقل امنية. والخطير في الوضع الحالي ان المسؤولين لم يتعظوا من فشل الماضي، وهم يجهدون محاولة تلو اخرى لاستمرار النظام من دون تغيير، ولو أن من يدفع ثمن تعطيل المؤسسات هو كل الشعب اللبناني.

ان تشكيل حكومة غير سياسية وببيان وزاري يتطرق فقط الى القضايا الحياتية العالقة هو حاجة ماسة لوقف الانهيار والفقر والعوز والجوع ولعدم تدرج لبنان نحو تصنيفه دولة فاشلة

هذا العرض التاريخي يقودنا إلى الإستنتاج أن هناك سبعة عوامل اساسية للخلاف وهي:

  1. كانت الخلافات الخارجية دائما السبب في تفجير الوضع الامني والعسكري. انقسم اللبنانيون باستمرار حول السياسة الخارجية وكان تاريخيا لكل من المكونات اللبنانية دعم خارجي.
  2. بالرغم من ان الخلافات الداخلية اساسية، الا انها لم تكن السبب الرئيسي للتفجير في ايٍّ من الاحداث التي وقعت في لبنان على مدى سبعة عقود ونيف.
  3. بينما كان الانقسام لغاية أواخر القرن العشرين بين مسيحي ومسلم، انقسم المكون المسلم في هذا القرن الى سني وشيعي، مما عقد الوصول الى حلول للقضايا الداخلية العالقة.
  4. ان الخلافات الاقليمية تنعكس باستمرار على الوضع في لبنان، ومن ثم على رئيس الجمهورية ان يتصرف كحَكم وليس كطرف. ان من مصلحة اللبنانيين، وبالاخص طائفته ان يسعى باستمرار لتضييق الهوة بين المكونات اللبنانية الرئيسية.
  5. بينما لعب البريطانيون دورا اساسيا عام ١٩٤٣، اتى الحل عام ١٩٥٨ من واشنطن والقاهرة، وفي عام ١٩٩٠ من السعودية واميركا، وفي عام ٢٠٠٨ من قطر، واليوم تحاول باريس إيجاد حل للبنان.
  6. برغم حدة الإشتباك الداخلي، لا افكار جديدة لتعديل النظام الحالي او استبداله او حتى تطبيق ما اوصى به مؤتمر الطائف عام ١٩٨٩. للاسف، ما زال لبنان يتخبط بفراغ  يضيف الى الوضع الراهن تعقيدات جديدة.
  7. لبنان بحاجة الى حوار يزيل الى حد بعيد الخلافات الداخلية ويمنع بالمطلق الخلافات الخارجية من تفجير لبنان والسير في حروب سياسية وعسكرية.

هذا كله لا يعني ابدا ان لبنان ليس بحاجة الان الى حكومة تعالج بسرعة مشاكله الحياتية. ان تشكيل حكومة غير سياسية وببيان وزاري يتطرق فقط الى القضايا الحياتية العالقة هو حاجة ماسة لوقف الانهيار والفقر والعوز والجوع ولعدم تدرج لبنان نحو تصنيفه دولة فاشلة.

ان لبنان بحاجة الى حكومة تستعيد علاقاته ودوره في المجتمعين الدولي والعربي. كذلك ان التعاون مع المؤسسات الانمائية والمالية الدولية والاقليمية اكثر من ضروري للخروج من الازمات الاقتصادية التي يواجهها كل لبنان. اضافة الى كل ذلك، يجب ان ينصب اهتمام الدولة، إبتداءً من رئيس الجمهورية مرورا برئيس الحكومة وصولا إلى الوزراء والنواب على معالجة تلك الازمات.

وفي إنتظار أن تتشكل حكومة وفق الأعراف السائدة بعد الطائف، لا بد من إختيار فريق عمل مهمته إقتراح خارطة طريق لتأسيس نظام جديد ياخذ بالاعتبار خلفيات وتطلعات كل مكون من المكونات اللبنانية وخصوصيته التي تزيد لبنان غنىً وتنوعًا، كما انها جعلت منه وطنا مميزا في منطقته وفريداً في العالم.

Print Friendly, PDF & Email
عبد الله بو حبيب

وزير خارجية لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  مجتمع دولي يُكرر.. ولا عاقل لبنانياً يفهم عليه!