بعدها، تحرك موكبه إلى المطار ليستقل طائرة الفالكون- ٥٠ الرئاسية التى كان طياروها الفرنسيون قد فرغوا من وضع خطة مسار الرحلة وإحداثياتها إلى رواندا بعد إنتهاء قمة إقليمية كُرّست لبحث قضايا السلام والإستقرار في تلك البقعة الملتهبة.. كان الإقلاع جيداً والطائرة ترتفع رويداً فوق أجواء مدينة دار السلام وكان المودعون ينفضون من على أرض المطار.
فى كيغالي، على الجانب الآخر، بدأت تنشط مظاهر استقبال الوفد الرئاسي ويتوافد كبار مسؤوليها إلى مطارها ويزداد إيقاع الحركة كلما اقترب موعد هبوط الطائرة التي كانت تُسمَعُ ترددات صوت قائدها مع برج المراقبة. كانت الطائرة تُحلّق بانخفاض فوق محيط القصر الرئاسي متجهة الى نقطة الهبوط عندما انشقت الأرض عن صاروخ فاتك استهدف طائرة الرئيس الرواندي جوفينال هباريمانا ورصيفه البوروندي سيبريان نتارميرا الذي صحبه في تلك الرحلة، فكانت النتيجة أن لقيَ الرجلان حتفهما مع جمع من كبار المسؤولين المرافقين وطاقم الطائرة.
يقول روميو دالير في كتاب مذكراته “كنت أثناء تجوالي في كيغالي أغوص الى ركبتيّ وسط الجثث المتراكمة بعضها فوق بعض، ومن حولها آلاف المحتضرين الذين يقطع أنينهم نياط القلوب، وآلاف الاطفال الذين تتدفق الدماء من جراحهم، وهم ايضا في طريقهم الى الموت”
ومثلما تناثرت اشلاء الضحايا وحطام الطائرة تناثرت على امتداد ذلك القطر المكنى بـ”بلاد الألف تل” أهوال دامية غيرت وإلى الأبد وجه التاريخ في تلك المنطقة، فلم تكد تمضي ساعة من زمان اسقاط الطائرة فى السادس من ابريل/نيسان ١٩٩٤ حتى بدأت اكبر مذابح القرن للابادة الجماعية على يد ميليشيات الهوتو المتطرفة و”الانترهاموي” – شباب الحزب الحاكم “الحركة الوطنية الجمهورية من أجل الديمقراطية والتنمية” والقوات الخاصة لحكومة الأزمة التي تسلمت الأعباء بعد مقتل هباريمانا، إستهدفت أقلية التوتسي وأيضاً الهوتو المعتدلين الذين كان رئيس الوزراء اغات أولنجيانا فى صدارة من تمت تصفيته منهم، وسط اجواء مسمومة بخطاب كراهية عنيف سُخّرت له وسائل الإعلام. زدْ على ذلك إستقطاب عرقي وقتل على الهوية حتى أن الرجل أجبر على قتل زوجته التوتسية وإلا ناله القتل.. ومحظوظ ذاك الذى يدفع ثمن الطلقة فيُقتل بها بدلاً عن ذبحه، كما يقول الجنرال الكندي روميو دالير قائد بعثة الأمم المتحدة لمساعدة رواندا (يونامير) والتى كانت تعمل دون نجاح في تنفيذ اتفاقية اروشا لتقاسم السلطة قبل المذابح.
يقول روميو دالير في كتاب مذكراته “كنت أثناء تجوالي في كيغالي أغوص الى ركبتيّ وسط الجثث المتراكمة بعضها فوق بعض، ومن حولها آلاف المحتضرين الذين يقطع أنينهم نياط القلوب، وآلاف الاطفال الذين تتدفق الدماء من جراحهم، وهم ايضا في طريقهم الى الموت.. كنت أسير في القرى التي ليس فيها من علامات الحياة الا دجاجة او عنزة او طائر، او كلب يتجول لينهش لحم الموتى..”.
وقد امتد أوان المذابح لمائة يوم قتل خلالها أكثر من ثمانمائة الف رواندي حتى منتصف يوليو/تموز ١٩٩٤ عندما تمكنت “الجبهة الوطنية الرواندية” بقيادة الرئيس الحالي بول كاقامي من إكمال سيطرتها على البلاد وتولي الحكم في تلك البلاد واستعادة سلطة التوتسي فيها، ليستعيد التاريخ ايضا حركته الدائرية بهروب الآلاف من الهوتو هذه المرة إلى دول الجوار وخاصة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية بمتوالية هندسية جديدة من عدم الاستقرار والمطاردات الساخنة لحركات المعارضة المسلحة والمليشيات.. لتصبح مجازر رواندا عبرة لمن يريد الاعتبار.
على الجانب الآخر من الاطلنطي، وتحديداً في مدينة نيويورك، كانت شمس ابريل/نيسان قد تمددت بأشعة ساطعة فوق النهر الشرقي عندما بدأ يوم عمل جديد في مبنى الأمم المتحدة بمانهاتن. كانت حصيلة الساعات الأولى من الابادة الرواندية قد وردت من البعثة الاممية هناك الى ادارة حفظ السلام التى كان يقودها كوفي عنان وعبرها للطابق الثامن والثلاثين لمكتب الامين العام بطرس غالي الذى تيقن وقتها واشباح الموتى تغزو مكتبه انه قد دخل بالفعل الى “عش الدبابير”، حسبما اورد في كتابه “خمسة أعوام في بيت من زجاج”..
كانت التقارير تنهمر على مكتب بطرس غالي من قائد قوة حفظ السلام ضعيفة العدة والعتاد والأثر في رواندا الكندى روميو دالير، بينما كان غالي يُحدّق بعيداً بنظارته السميكة عبر نافذة المبنى لعله يستذكر فشلاً سابقاً للأمم المتحدة في الصومال ثم فشلاً في التعامل مع تحذيرات بوميض نار وكارثة في طور التشكل فى رواندا بعث بها دالير من كيغالي قبل بدء حرب الابادة، وفشلاً لاحقاً لمجلس الامن في التعامل مع الخيارات التي رفعها غالي حيث كان قرار المجلس بتخفيض كبير للبعثة بدلاً من دعمها وتدعيمها للاستجابة لما كان يجري على الارض من فظائع.. يقول غالي ان الدول الكبرى تلجأ دائماً لطيب الكلام ومعسوله عندما تدلهم الخطوب ثم تترك الامم المتحدة بلا سند او اسناد فذلك تحكمه مصالحها فقط.
في العشاء الأخير الذى جمعه بمادلين اولبرايت وزيرة خارجية أمريكا، وهو يجمع أوراقه للرحيل عن ذلك البيت الزجاجى بعد فيتو امريكى رافض للتجديد له أميناً عاماً، تمنعت أولبرايت عن الاجابة على استفساره حول اسباب الموقف الامريكي منه.. فلعلها تركت الجواب إلى تقديره.
اذا كان الجنرال دالير قد تحسرعلى ما أسماه “لامبالاة مجلس الأمن وانعدام الأهمية الأستراتيجية لرواندا”، فإن كوفي عنان قد أقر بدوره بضعف بل فشل دور الامم المتحدة في رواندا، وانه كان يمكنها التصدي او الحد من حرب الابادة هناك
لم يخلد غالي الى النوم طوال تلك الرحلة الطويلة عبر الاطلنطي التي عادت به الى القاهرة.. فأشجان نيويورك مؤرقة حقاً، أما كوفي عنان، فقد كرّس سنوات عمله اللاحقة للافلات مما عدّها مراقبون “لعنة التاريخ”، وهو القيم على إدارة حفظ السلام إبّان تلك المذابح حيث كانت “مسؤولية الحماية” من بين المشاريع التي سعى إلى تكريسها عندما خلف بطرس غالي في الأمانة العامة للأمم المتحدة.
اذا كان الجنرال دالير (الصورة أعلاه) قد تحسر على ما أسماه “لامبالاة مجلس الأمن وانعدام الأهمية الأستراتيجية لرواندا”، فإن كوفي عنان قد أقر بدوره بضعف بل فشل دور الامم المتحدة في رواندا، وانه كان يمكنها التصدي او الحد من حرب الابادة هناك، ووضّح كذلك ان العديد من التقارير المحذرة لم ترفع للامين العام ربما لمعرفته سلفاً بما كان يردده غالي من ان البعثات الدولية تلجأ عادة للاثارة في تقاريرها. يقول عنان إن من بين أسباب الموقف الأمريكي من بطرس غالي تردده في الموافقة على عمليات قصف حلف الأطلسى للبوسنة.. هذا بخلاف اعتبارات أخرى بينها حاجة الإدارة الامريكية وقتها إلى رفع شعبيتها واعتبارات شرق اوسطية أخرى. وبينما يرى صوماليون ان غالي لعب دوراً سلبياً في تعقيد مشكلة الصومال كفشل آخر للأمم المتحدة بسبب معاملته لعايديد وكأن بينهما ثأراً، فإن المناخ السائد في المنظمة الدولية، بحسب متابعين، لم يكن متحمساً لتجربة أخرى في رواندا.. وفي البال سحل جندي امريكي قبل عدة اشهر منها في شوارع مقديشو.