بتاريخ 20 نيسان/ابريل 2022، تزعم إيتمار بن غفير، عضو الكنيست اليميني المتطرف، مسيرة أعلام للمستوطنين كان من المفترض أن تمر في منطقة باب العامود قبل أن تمنعها الشرطة الإسرائيلية. فالأجواء المشحونة التي سادت القدس منذ بداية شهر رمضان، والتخوف من تدحرج الأمور إلى مواجهة عسكرية مع القطاع، بالإضافة إلى ضغوط إقليمية ودولية، دفعت نفتالي بينيت، رئيس الحكومة الإسرائيلية، وبعد أن تشاور مع المستويات الأمنية، إلى منع هذه المسيرة. هذه الواقعة تضاف إلى سلسلة طويلة من التصرفات التي يقوم بها بن غفير منذ نجاح حزبه، “قوة يهودية”، بالحصول على مقعد يتيم في الكنيست في آذار/مارس 2021 بعد تحالفه مع حزبين استيطانيين آخرين. مثلا، في 19 تشرين الأول/اكتوبر 2021، تعارك بن غفير بالأيدي مع النائب العربي في الكنيست أيمن عودة بعد أن رفض الأول استضافة القواسمي وهو أسير مضرب عن الطعام في مشفى إسرائيلي.1 وفي 22 كانون الأول/ديسمبر 2021، سحب بن غفير مسدسه على حارس أمن داخل مدينة تل أبيب فقط لأنه من أصول عربية.2 وقد أقام بن غفير مكتبا ميدانيا له في حي الشيخ جراح، مرة في نيسان/ابريل 2021 ومرة أخرى في شباط/فبراير 2022، الأمر الذي دفع المشاحنات ما بين الفلسطينيين المهددين بالإخلاء والجماعات الاستيطانية إلى مستويات أعلى.
تعود الجذور التنظيمية والأيديولوجية لبن غفير (المولود عام 1976) إلى العام 1971، عندما هاجر مائير كهانا من الولايات المتحدة إلى إسرائيل وأسس حزب “كاخ” والذي نجح في الدخول إلى الكنيست عام 1984 بمقعد واحد قبل أن يتم تصنيفه من قبل إسرائيل كحزب فاشي خارج عن القانون ليتم حظره نهائيا وتفكيكه في العام 1994 3 وبات النهج الأيديولوجي الذي أسسه كهانا يعرف فيما بعد باسم “الكهانية” وهو نهج يجمع ما بين التدين السياسي والمغالاة القومية والممارسات العنيفة، ويمكن تلخيصه بالتالي:
1) تحث الكهانية كافة يهود العالم على الهجرة الفورية إلى إسرائيل.
2) معظم العرب المقيمين في إسرائيل (وإسرائيل تشمل الأرض المحتلة حسب الكهانية) هم أعداء للشعب الإسرائيلي ولا يمكن التعايش معهم.
3) معاداة الديمقراطية السياسية باعتبارها خيارا مناسبا فقط لأولئك الذين لم يمن الله عليهم بكتاب التوراة الذي يحتوي على نصوص ربانية حول طريقة السيادة السياسية لليهود.
4) على العرب في إسرائيل أن يعيشوا بدون حقوق سياسية أيا كانت، أما الرافضون فيمكنهم المغادرة طوعا مقابل تعويضات، والرافضون للمغادرة الطوعية سيتم إجبارهم على ذلك بالقوة.
هذه المواقف السياسية تستند، حسب كهانا، إلى تعاليم التوراة السليمة، بل هي مشيئة ربانية وليست مجرد مواقف سياسية يمكن مناقشتها أو المساومة عليها. لهذا السبب، أسس كهانا حزب “كاخ” في إسرائيل بالإضافة إلى “عصبة الدفاع اليهودية” وهي تنظيم ميليشياتي أقيم في الولايات المتحدة لمكافحة معاداة السامية بكل الأشكال المتاحة وأهمها العنف. وقد تم إخراج كل من حزب كاخ و”عصبة الدفاع” عن القانون واعتبارهما منظمتين إرهابيتين ليس فقط من قبل إسرائيل، وانما أيضا من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. بيد أن الجماعات الكهانية ما تزال حاضرة في المجتمع الإسرائيلي حتى اليوم. واليوم يشكل الكهانيون نواة يقدر عددها بحوالي 100 شخص، بالإضافة إلى أتباع يشكلون الدائرة الأوسع المحيطة بالنواة ومعظمهم لهم علاقات تربطهم بشكل مباشر أو غير مباشر بحزب “قوة يهودية” الذي يمثله بن غفير في الكنيست.
التعمق في المسيرة التاريخية للكهانية قد تضع الأمور في نصابها وتكشف عن أن السلوك السياسي لإيتمار بن غفير يستند إلى مشوار طويل من العنف والعداء للعرب والانتقاد الدائم للمؤسسة الحاكمة بسبب اللين الذي تبديه، حسب الكهانية، تجاه الفلسطينيين بشكل خاص
بعد أن تم إخراج حزب “كاخ” عن القانون في إسرائيل عام 1994، مرت الصهيونية الدينية المتطرفة بعدة تحولات ساهمت في تطرفها سياسيا وأيديولوجيا، وهي سيرورة تم تناولها في مركز مدار بشكل مستفيض في العديد من المنشورات. وأهم هذه الأحداث تمثلت في اتفاق أوسلو الذي أفضى إلى منح الفلسطينيين حكما ذاتيا على مناطق داخل الضفة الغربية (1993-1999)، والانسحاب من قطاع غزة (2005). هذا الأمر دفع تيارات مختلفة داخل الصهيونية الدينية إلى الردكلة المتطرفة من خلال إنشاء العديد من الأحزاب والحركات والجمعيات والمدارس الدينية. أحد أهم هذه التشكيلات كان تحالف “الاتحاد القومي” (تأسس عام 1999) وضم تشكيلة متنوعة من الأحزاب اليمينية الاستيطانية واليمينية العلمانية ونجح في الوصول إلى الكنيست حاصدا 4 مقاعد (في انتخابات العام 1999) ثم 7 مقاعد (في انتخابات العام 2003) ثم 6 مقاعد (في انتخابات العام 2006) ثم 4 مقاعد (في انتخابات العام 2009) قبل أن يتفكك في العام 2013. وقد عرف تحالف “الاتحاد القومي” بعدائه الشديد للفلسطينيين، واستعداده لمواجهة مؤسسات دولة إسرائيل وأجهزتها الأمنية عندما يتعلق الأمر بحياة المستوطنين أو إخلاء بؤرهم. مثلا، ارتبط اسم “الاتحاد القومي” بجماعات “تدفيع الثمن” التخريبية وشبيبة التلال المتطرفة، وأيد في أكثر من مناسبة المستوطنين الذين يواجهون أجهزة أمن إسرائيل دفاعا عن أراضي “يهودا والسامرة”.4
بسبب تفكك “الاتحاد القومي” في العام 2013، قام آرييه إلداد وميخائيل بين آري بتأسيس حزب “قوة لإسرائيل”، والذي حول اسمه لاحقا إلى “قوة يهودية”. وإلداد كان قد دعا في العام 2009 إلى منح كافة الفلسطينيين جنسية أردنية الأمر الذي أغضب السلطات الأردنية في حينها. أما بن آري الذي كان عضوا سابقا في حزب “كاخ” (قبل إخراجه عن القانون في العام 1994) فقد كان عضو كنيست ناشطا جدا داخل “الاتحاد القومي”. في العام 2011 وصف بن آري اليسار الإسرائيلي بأنه جرثومة وعدو لإسرائيل وقارنه بحزب الله وحماس. وفي العام 2015، دعا بن آري إلى طرد الفلسطينيين والقيام بمشروع ترانسفير قسري 5. وفي العام 2009 تم اعتقاله من قبل الشرطة الإسرائيلية بسبب تهجمه على عناصرها بالقرب من مستوطنة يتسهار. وفي العام 2019 تم منعه من الترشح للكنيست بعد أن قدمت ميرتس التماسا للمحكمة تتهمه بالتطرف الشديد. لكن الأهم، هو أن بن آري وبعد انتخابه كعضو كنيست في انتخابات العام 2009 قام بتعيين مساعدين له من مستوطنات الخليل، وأحد هؤلاء المساعدين الذين تتلمذوا على يديه هو إيتمار بن غفير.
وقد مر حزب “قوة يهودية” بسيرورة متعرجة من التحالفات والتكتلات مع أحزاب صهيونية دينية في أوقات مختلفة ففشل تارة في اجتياز نسبة الحسم لصغر حجمه ونجح في مرات أخرى بسبب تحالفاته الانتخابية. آخر تحالف انتخابي لحزب “قوة يهودية” كان عند تشكيل “قائمة الصهيونية الدينية” التي ضمت بالإضافة إلى “قوة يهودية” كلاً من “نوعام” (حزب صهيوني ديني يتخذ من الحيز الاجتماعي وليس السياسي ميدانا للتدخل) وحزب “الاتحاد القومي- تكوما (بزعامة بتسلئيل سموتريتش). هذا التحالف منح حزب “قوة يهودية” مقعدا واحدا في انتخابات آذار/مارس 2021. وربما ساهمت قضية منع بن آري من الترشح للانتخابات العام 2019 في صعود بن غفير إلى الواجهة كممثل للحزب في الكنيست.
قد تبدو سلوكيات بن غفير السياسية على أنها سلوكيات رعناء وأقرب إلى الهرج والمرج السياسي. بيد أن التعمق في المسيرة التاريخية للكهانية قد تضع الأمور في نصابها وتكشف عن أن السلوك السياسي لبن غفير يستند إلى مشوار طويل من العنف والعداء للعرب والانتقاد الدائم للمؤسسة الحاكمة بسبب اللين الذي تبديه، حسب الكهانية، تجاه الفلسطينيين بشكل خاص. مثلاً، تهجم بن غفير لفظيا على وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، عومر بار ليف، بعد عملية الخضيرة في 28 آذار/مارس، ليس فقط لأنه يراه متهاونا تجاه الفلسطينيين وانما أيضا لأنه “جرثومة” يسارية، كما قال معلم بن غفير بن آري. ولا يمكن أن ننظر إلى ممارسات بن غفير على أنها تندرج فقط تحت عنوان التناكف السياسي مع حكومة بينيت من قبل متطرف آخر يقف في المعارضة. بل إن بن غفير، المحصن بآلة إعلامية قادرة على صياغة الأحداث، وإخراجها وتنفيذها، يطمح على ما يبدو إلى تحويل خطاب معاداة العرب والمؤسسات الديمقراطية للدولة إلى روتين يراه الإسرائيلي يوميا ويتعاطف معه. فعلى الرغم من صغر حجم الكهانيين وأتباع إيتمار بن غفير، إلا أن أعمالهم تنذر بالتحول إلى أعمال “مألوفة”؛ إذ إن سلوكهم في الميدان، وعلى الرغم من استعراضيته المجبولة بالعنف، إلا أنه يستند إلى مسوغات أيديولوجية تجمع ما بين الرهاب من العرب وما بين الفكر الصهيوني الديني الخلاصي الساعي إلى أرض إسرائيل “الطاهرة” من الأغيار. (المصدر: موقع مدار)
المصادر والمراجع