“تسمع نساءٌ من قبيلة الحويطات يسكنّ في الحسينية بمعان جنوبيّ الأردن صباح الأحد عن إصابة ثلاثة إسرائيليين بمسدس سائق شاحنة أردني. تقول أم قدر زوجة سائق شاحنة من هناك: «الله يجعله من سَكَنة الفردوس. نيّاله، مين هذا اللي يحلّوا عشانه بكل مكان؟».
ظلت أم قدر تتابع الأخبار المتداولة عن اسم منفذي العملية وتدعو لهم بالرحمة حتى الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، حين انتشرت صورة جواز سفر زوجها «ماهر ذياب حسين الجازي»، البالغ من العمر 39 عامًا، على أنه المنفذ الشهيد.
لحظتها، دخلت في حالة من الصدمة. «ما جابلي سيرة بالمرّة»، تقول، «بعد وقت فكّرت مع حالي، إذا طلبها ونالها فأنا فخورة فيه».
كان ماهر قد أوصل حمولة مياه معدنية معبأة قبل ثمانية أيام إلى جسر الملك حسين، الذي يحمل اسم معبر الكرامة فلسطينيًا، وعاد إلى الحسينية بانتظار فحص حمولته وتفريغها عند الجانب الإسرائيلي.
في اليوم الذي سبق توجهه للجسر لاستلام الشاحنة، ذهب برفقة أخيه في رحلة بالبرّ إلى الصحراء الجنوبية، حيث اعتادا فرد الشباك لصيد طيور الفري والشحّوم وشويها قبل العودة للبيت.
مع غروب يوم السبت، وبحدود الساعة السادسة، غادر ماهر إلى المعبر مثل كل مرّة دون أن يلحظ أحد عليه شيئًا مختلفًا، لتكون تلك آخر مرة يغادر فيها إلى العمل.
قرابة الساعة العاشرة إلا خمس دقائق صباح الأحد، توجه مسعفو أحد المراكز الإسرائيلية الطبية لإنعاش ثلاثة من موظفي سلطة المعابر، أصيبوا برصاص سائق شاحنة أردني، ثم أعلن عن مقتلهم. كان واحد منهم قد عمل رئيسًا للعمال وتطوّع لسنوات في الحرس المدني، وتم تجنيده لفئة التنبيه بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
يشكل هذا المعبر أحد ثلاثة معابر برية بين الأردن و«إسرائيل»، ويستخدم بشكل رئيس لنقل البضائع والمسافرين، ويبعد عن مدينة أريحا شرقي الضفة الغربية قرابة خمسة كيلومترات.
زعم التحقيق الإسرائيلي الأولي للحادثة أن ماهر قاد الشاحنة من الجانب الأردني إلى منطقة تفتيش البضائع في محطة الشحن على الجانب الإسرائيلي، ونزل من الشاحنة وفتح النار على موظفي المعبر، قبل أن يتمكن حراس الأمن من قتله.
أغلقت «إسرائيل» المعبر، وكثفت التعزيزات الأمنية للمنطقة، وحطت طائرة عامودية مكان الحادثة لإجراء مسح واستبعاد وجود متعاونين آخرين.
اعتقلت قوات الاحتلال العشرات من سائقي الشاحنات الأردنيين الذين كانوا على الجانب الإسرائيلي، وأجبرتهم على النوم على بطونهم على الأرض، وضربهم الجنود بالأقدام وشتموهم، وأجبروا ثلاثة منهم على الأقل على خلع كامل ملابسهم بحسب أحد السائقين. استمر هذا الوضع لساعة ونصف جرى خلالها التحقيق معهم وسؤالهم حول هوية منفذ العملية ومجرياتها. وفي الأثناء، كانت جميع المعابر البرية بين الأردن وإسرائيل قد أغلقت، وهي الكرامة، معبر العبور الوحيد للفلسطينيين من الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية نحو الأردن، ومعبر وادي عربة أقصى جنوبيّ الأردن، ومعبر الشيخ حسين شماليّ الأردن.
بدأ ماهر العملَ في الشحن عام 2022 ومنذ ذلك الحين وفي كل أسبوع، يخرج مرة أو مرتين في رحلة على شاحنة يملكها أحد أقاربه لنقل البضائع داخل الأردن ومنها معبر الكرامة، حيث فضّل على الدوام الوجهات القريبة مثل عمان وإربد والمعابر على الوجهات الخارجية مثل دول الخليج.
وفي الأيام التي لا تتوفر فيها حمولة شحن، يذهب للعمل في مزرعة بوادي عربة تزرعها العائلة بالبرسيم، ويحدّث إخوته عن مشاريعه المستقبلية بما فيها تربية المواشي. «تسمع سوالفه، تحس بده يعيش مية سنة»، يقول شقيقه شادي.
انتقل ماهر للعمل في الشحن بعد عشرين سنة من الخدمة العسكرية بدأها بعمر السابعة عشرة وأنهاها بعمر السابعة والثلاثين متقاعدًا برتبة وكيل أول. في البداية خدم سائقًا في الجيش العربي ثم انتقل للخدمة في الشرطة العسكرية الملكية، لم يُسجّل خلالها عليه أية مخالفات تُذكر. وبسبب حسن سيرته، أُرسل ضمن بعثة للعمل في أمن السفارة الأردنية في الولايات المتحدة لمدة ستة أشهر عام 2019، بحسب زوجته وعمّه.
كان العمل في الشحن وسيلته لتحسين راتبه التقاعدي الشهري البالغ 380 دينارًا الذي ينفقه على أولاده الستة، وهم أربع بنات وصبيان، بعد أن طوّر من رخصته لقيادة عموم السيارات، إذ كان حريصًا على أن يُكملوا تعليمهم وأن ينضمّوا لتدريبات اللغة الإنجليزية والتايكوندو، بحسب زوجته.
مع بدء الحرب على غزة، تابع ماهر مثل بقية إخوانه مشاهد المجازر على نشرات الأخبار، وكان يردد «شكلها مهي مطوّلة، خربانة خربانة». لم يبدِ أي نيّة لتنفيذ عملية أو انتقام، ولم يتحدث كثيرًا ولا يذكر أهله أنه شارك في أي من المظاهرات التي خرجت من معان دعمًا لغزة، ولم يُعرف عنه بين أهل الحسينية أنه صاحب فورة غضب على المستوى الشخصي.
تأكدت العائلة من وسائل الإعلام أن ماهر منفذ العملية عندما رأت صورة جواز السفر المثبت عليه اسمه بعد أن جرى تداول أسماء أخرى، وتعرفت على صورة السلاح، وهو سلاح مرخص اشتراه آخر خدمته في الجيش، ومعه رخصة اقتناء، ويحتفظ به منذ سنوات.
قرابة الساعة الرابعة عصرًا، بدأ أفراد القبيلة في التجمع في بيت عزاء جهزته العائلة. يشير شقيقه شادي إلى بيت الشعر المنصوب قرب بيت العائلة ومن جاؤوا إليه: «بالنسبة إلي كأنهم جايين يهنوني. بدك تعرف كيف أنظر للمسألة، هاي شغلة بينه وبين الله أولًا، وثانيًا في 50 ألف شهيد في غزة، وكل لحظة يموت خمسين وستين طحنة وحدة، إحنا واحد. إذا هاي ما افتخر فيها، بإيش بدي أفتخر؟ وخليها تصل نتنياهو».
أجمع كل من قابلناهم من عائلة ماهر في الحسينية، على أنه لم يكن مدعومًا من أي جهةٍ ولم ينتمِ إلى أيديولوجيا محددة، وهو ما أكده بيان أصدرته قبيلة الحويطات صباح اليوم (الإثنين)، قالت فيه إن ما قام به ابنها إنما هو «ردة فعل طبيعية لإنسان غيور على دينه ووطنه وعروبته تجاه الجرائم المتواصلة التي يقوم بها الاحتلال الغاصب ضد أبناء الشعب الفلسطيني وخاصة ما يجري في غزة من قتل وتشريد وإبادة».
في بيت الشعر، قدّم أكاديمي من قبيلة الحويطات لنا قائمة بأسماء شهداء القبيلة في فلسطين، المتطوعين منهم والمنتسبين للجيش العربي والمشاركين في حرب عام 1948، بوصف الشهيد سلسل أجداده، هارون الجازي، ومشهور حديثة الجازي، وامتدادًا لسيرة عائلية ترى في «إسرائيل» عدوًا.
لم تُشكّل هذه العملية مصدر اعتزاز عند الحويطات فحسب، حيث رحّب شيخ عشيرة بني صخر طراد الفايز بالعملية التي قال إنها تعبر عن الشعب الأردني والأمة العربية، ووزع أردنيون في عمان الحلويات احتفاءً بها، وشارك مئات المتظاهرين، أمام المسجد الحسيني في عمّان، في وقفة «زفة الشهيد الأردني البطل، من الكرامة إلى الكرامة»، في إشارة لمعركة ومعبر الكرامة.
طوال اليوم، تتابعت بيانات فصائل المقاومة المشيدة بالعملية، وكان آخرها مجموعة تغريدات للناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، التي خص فيها عملية ماهر الجازي وباركها، واصفًا منفذها بأنه أحد أبطال طوفان الأقصى الذي صلى عليه مجاهدو القسام صلاة الغائب من داخل عقدهم القتالية وكمائنهم وثغورهم في غزة.
في بيت عزاء النساء، عرضت امرأة هذه التغريدات لزوجة الشهيد، فتوقفت عن البكاء لتقول: «الله يعلّي مراتبه في الآخرة مثل ما علّى مراتبه في الدنيا».
تطالب العائلة بتسليم جثمان ماهر، إذ قال شيخ عشيرتهم، سلطان الجازي «نحن مع المقاومة، وشھيدنا هو شهيد الوطن، وعلى الاحتلال تسليم جثمانه»، وهو مطلب دعت له بعض الأحزاب الأردنية.
أعادت العملية إلى الذاكرة حوادث سابقة شهدها الجسر ذاته، مثل استشهاد القاضي الأردني رائد زعيتر عام 2014 على يد جنود إسرائيليين، وتعرّض سيارة السفير الإسرائيلي في عمّان لمحاولة تفجير بالقرب من الجسر عام 2010 (…).
تنظر عائلة الشهيد ماهر الجازي لعملية ابنهم واستشهاده بعين الفخر وعلى أنه حدث سيظلون يتذكرونه رغم عدم معرفتهم بدوافعه، لكن الجملة التي تكررت أكثر من مرة على لسان أهله وأقاربه هي أن «دم ماهر مش أغلى ولا أهم من دم أطفال غزة».
(*) المصدر: موقع “حبر“