تحت وطأة الأزمة الاقتصادية تبخرت وعود الرخاء، التى أطلقها سلفه «أنور السادات» قبل اغتياله بوقت قصير، وجاء وقت مواجهة الحقيقة.
كان «السادات» يعول على مساعدات واستثمارات غربية سوف تتدفق عليه بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (1979) تأخذ الاقتصاد المصرى من حال العوز إلى حال الازدهار.
امام الأزمة ذهب تفكير «مبارك» إلى خيارين متناقضين.
الأول، الدعوة إلى مؤتمر اقتصادى تشارك فيه أفضل النخب الاقتصادية من أكاديميين وخبراء للبحث فى أحوال الاقتصاد المصرى وسبل النهوض به من جديد.
أعطى ذلك المؤتمر أملا للرأى العام فى تصحيح اختلالات الاقتصاد، لكن مخرجاته سرعان ما نحيت جانبا، ومضت السياسات الاقتصادية على ذات النهج، كأنها ساداتية بلا «السادات»!
الثانى، أن يستعين بـ«الحلفاء الغربيين»، الذين أغدقوا الوعود لسلفه، لتخفيف اشتراطات صندوق النقد الدولى حتى لا تجد مصر نفسها مجددا أمام انتفاضة خبز جديدة تماثل انتفاضة (1977)، التى عاين وقائعها وتداعياتها من موقع نائب الرئيس.
الوثائق وحدها تكشف وتنير الصورة المهينة التى تعاملت بها رئيس الوزراء البريطانية «مارجريت تاتشر» مع الرئيس المصرى، الذى كان أقصى ما يطالب به تخفيف قبضة صندوق النقد الدولى على رقاب المصريين.
بصورة صريحة عبّر مبارك عن مخاوفه لـ«تاتشر»: «إذا اضطرت الحكومة المصرية لقبول وصفة صندوق النقد الدولى فسوف يكون هناك خطر جسيم ينذر بحدوث اضطرابات».. «وأن ذلك سوف يلقى مصر فى أتون فوضى تؤثر على المنطقة كلها»
وثائق رئاسة الوزراء البريطانية، التى حصلت عليها الـ«BBC» أخيرا بمقتضى قانون حرية المعلومات توضح الأثمان المرة التى دفعت لخيارات اقتصادية خاطئة.
وفق ما كشفته الوثائق البريطانية فإن «مبارك» طلب تدخل رئيس الوزراء الإسرائيلى فى ذلك الوقت «شيمون بيريز»، وقد كانت لديه أسبابه ودواعيه للتدخل خشية اهتزاز النظام المصرى.
بين يونيو/حزيران (1984) ومارس/أذار (1986) جرت ثلاث عمليات اغتيال لدبلوماسيين إسرائيليين، أحدهم ضابط فى جهاز «الموساد».
فى أغسطس/آب (1985) اهتزت مصر عند قتل سبعة سياح إسرائيليين بسلاح الجندى «سليمان خاطر» الذى أودع سجنا وجد مشنوقا فيه بعد فترة وجيزة.
حسب الوثائق البريطانية فإن أصواتا ارتفعت فى إسرائيل تقول إن السلام مع مصر بات فى طى النسيان وأنه يتوجب على الإسرائيليين أن يفعلوا شيئا لإنقاذه.
المفاجأة الحقيقية فى الوثائق التى ازيح الستار عنها أن «تاتشر» لم تأبه بتدخلات «بيريز» لمساعدة نظام «مبارك» ماليا «للحفاظ على السلام فى الشرق الأوسط»!
منذ سبعينيات القرن الماضى هناك فكرة شبه ثابتة فى دوائر الحكم المصرية أن إسرائيل تملك مفاتيح الغرب، وإنها إذا ما تدخلت فإن كلمتها مطاعة.
الوثائق البريطانية تفند هذه الفكرة وتضع لها حدودا.
فى (17) يوليو/تموز (1986) عشية لقاء «مبارك» مع «تاتشر» اتصل مستشار «شيمون بيريز» للشئون الخارجية بـ«شارل باول» السكرتير الخاص لـ«تاتشر» طالبا «العون لصيانة السلام».
فى برقية سرية قال «باول» إن مستشار «بيريز» أيقظه فى منتصف الليل لإبلاغه الرسالة العاجلة.
سأل «باول»، المستشار الإسرائيلى عما إذا كان «بيريز» يعلم بالضبط ما سيطلبه «مبارك» غدا من «تاتشر».
كان رده أنه لا يعلم، غير أنه يتوقع أن يطلب مزيدا من المساعدة المالية.
مصر لا يصح أن تغرق ولا أن تنهض.
هذه فكرة شبه راسخة فى الاستراتيجيات الغربية المعاصرة.
غرقها مشكلة ونهضتها مشكلة أكبر.
الغرق يؤدى إلى فوضى كاملة فى الإقليم تضرب فى صميم الاستراتيجيات والمصالح الغربية.
والنهضة تفضى بحقائقها إلى تطلع مصر لقيادة العالم العربى من جديد وتحدى الاستراتيجيات الغربية.
أن تعانى مصر.. هذه ليست مشكلة، المشكلة تبدأ عندما توشك على الغرق، حينها يتوجب التدخل بالمساندة المالية دون أن يسمح لها أن تنهض مجددا.
فى لقائه مع «تاتشر» رسم «مبارك» صورة كئيبة، هكذا بالنص، لحالة بلاده الاقتصادية.
ركز على صعوبتين فى المفاوضات المتعثرة مع صندوق النقد الدولى.
الأولى، طلب زيادة أسعار الفائدة من (11%) إلى (20%).
كان تقديره أن ذلك سوف يوقف الاستثمار ويرفع الأسعار بمعدلات كبيرة.
والثانية، طلب توحيد أسعار الصرف المختلفة خلال عام واحد.
وكان تقديره أن ذلك سوف يؤدى إلى قفزة كبيرة فى الأسعار.
بصورة صريحة عبّر مبارك عن مخاوفه لـ«تاتشر»: «إذا اضطرت الحكومة المصرية لقبول وصفة صندوق النقد الدولى فسوف يكون هناك خطر جسيم ينذر بحدوث اضطرابات».. «وأن ذلك سوف يلقى مصر فى أتون فوضى تؤثر على المنطقة كلها».
لم يكن «مبارك» يرفض وصفة الصندوق، كان أقصى ما يطلبه التخفيف من حدتها خشية تداعياتها على أمن النظام.
وفق الوثائق البريطانية كشف «مبارك» أنه ينوى رفع أسعار الكهرباء فى أبريل/نيسان (1987) عندما يكون طلبة الجامعات مشغولين بالامتحانات فتقل فرص حدوث اضطرابات.
المفاجأة الحقيقية فى الوثائق التى ازيح الستار عنها أن «تاتشر» لم تأبه بتدخلات «بيريز» لمساعدة نظام «مبارك» ماليا «للحفاظ على السلام فى الشرق الأوسط»
رغم كل تلك المناشدات والشروح لم تكن بريطانيا بوارد الاستجابة له، فمصر لا بد أن تتبع وصفة الصندوق كما هى.
اضطر «مبارك» إلى شىء من الإذعان وشىء آخر من المناورة.
قال إنه «يدرك أن تطبيق توصيات الصندوق فى مصلحة مصر، غير أن لديه شعبا يريد أن يأكل ولا يستطيع ببساطة أن يتحرك بالسرعة التى يطلبها الصندوق».
غير أنه سرعان ما عاد إلى طلبه الرئيسى أن يساعده الأصدقاء فى إقناع الصندوق بأن يتفاوض بطريقة معقولة.
مرة بعد أخرى عادت «تاتشر» لتؤكد على موقفها، ضرورة الالتزام بما يطلبه الصندوق.
هكذا بوضوح كامل وصل إلى حد الصفاقة.
قالت: «إنها يمكن أن تتفهم ما يقوله لكن يجب أن يقتنع الصندوق بأنه وصل إلى حدود الممكن» قاصدة الإذعان الكامل.
بدت تلك العبارة أقرب إلى عملية نسف لأهداف زيارة «مبارك».
بتأكيد آخر على موقفها قالت: «إنها سوف تنظر فى التعليمات التى أعطيت لممثل المملكة المتحدة فى الصندوق لكنها لا يمكن أن تكلفه أن يفعل أى شىء غير معقول فى الأساس».
حسب الوثائق البريطانية فإن ألمانيا انتهجت الموقف نفسه.
ترك «مبارك» نهبا للأزمة الاقتصادية، التى داهمت سنواته الأولى فى الحكم، حتى يكون مضطرا إلى تبنى سياسات تناقض فى كثير من الحالات المصالح الاستراتيجية المصرية، فلكل أزمة اقتصادية ثمنٌ لا بد أن يُدفع وقد دُفع مضاعفا.
(*) بالتزامن مع “الشروق“