بالنسبة إليّ، كان الجانب الأكثر لفتاً للنظر في شخصية ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية، هو تصميمها الحديدي على أن تكون مملّة. فخلال العقود السبعة التي قضتها في الحكم، نادراً ما عبرت الملكة الراحلة عن آرائها أو وجهات نظرها بخصوص أي من الأحداث الكبيرة التي شهدتها؛ سواء السياسية منها أو العامة. فهي لم تُبد قط رأياً؛ ولو تلميحاً؛ حتى عن أي من الشخصيات العامة اللامعة التي إلتقت بها أو تعاملت معها. نحن لا نعرف رأيها، مثلاً، بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ولا بالرئيس الأسبق باراك أوباما ولا برئيسة وزرائها السابقة مارغريت تاتشر. ولن نعرف أبداً. ذلك لأن الملكة إليزابيث كانت الشخصية العامة الأكثر انضباطاً في القرن الماضي.
لقد احتفظت هذه المرأة بنصائحها الخاصة تجاه أي فكرة ورغبة وصورة تنبثق في رؤوسنا. وكما ورد في كتاب تينا براون الرائع “أوراق القصر“، كانت الملكة إليزابيث حريصة على تصرفاتها وملامحها حتى في حفلات زفاف عائلتها وجنازاتها. كانت نادراً ما تبتسم أو تبكي. تمسكت بالكرامة وموقف عدم الانحياز. كان هذا هو تفسيرها وتجسيدها لدورها كملكة دستورية، ملكة تقود كل الناس ولا تنحاز لأي طرف أبداً. وقد لعبت هذا الدور بشكل أفضل من أي شخص آخر. حتى خلال فترة النقاشات التي سبقت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “البريكست“، لم تقل يوماً ماذا كانت تفضل، ولم تدع موقفها الشخصي لحظة يؤثر على النقاش. وعندما زلّ لسان رئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، وكشف في أحد التصريحات الصحافية أن الملكة شعرت بالسرور لكون اسكتلندا صوّتت ضد الاستقلال في الاستفتاء، اضطر أن يقدم اعتذاراً شخصياً أمام الرأي العام.
من السهل التفكير في أفراد العائلة المالكة البريطانية على أنهم يعيشون حياة ساحرة، في قصور كبيرة، ويتمتعون باهتمام العالم، وفي الغالب، التملق. هذا كله صحيح. لكن الملكة إليزابيث أظهرت الجانب الآخر لتلك العملة: كانت تقوم بسيل لا نهاية له من الواجبات العامة، الكبيرة والصغيرة، التي تتطلب الكثير من الزهد بشكل صحيح وبدافع الواجب والوفاء.
كنَّا دائماً بحاجة إلى بعض المعايير التي تطلب من الفرد أن يتراجع خطوة إلى الوراء، وأن يضحي ببعض الأنا، وأن يكون له دور في مشروع خاص بالمصلحة العامة. لم يؤد أحدٌ هذه الواجبات أفضل من الملكة إليزابيث الثانية
بطريقة ما، تكشف رحلة الأمير هاري وزوجته ميغان، دوق ودوقة ساسكس، عن تحدي النظام الملكي الحديث. وبصرف النظر عن تهم العنصرية التي وجهوها ضد أفراد من العائلة المالكة، بدا أنهما مستاءان من حياة قصّ الشريط والمجاملات العامة، لا سيما وبالنظر إلى أنهما، كأفراد من العائلة المالكة الصغار، كان مصيرهما أن يعيشا حياة متواضعة نسبياً. (ويُقال إن هذا هو السبب الذي كان يدفع الأمير أندرو للتسكع دائماً مع الأثرياء، على أمل الحصول على صدقة أو أكثر). وبالنظر إلى شهرتهما، يبدو أن هاري وميغان قد أدركا أنهما يستطيعان الإنطلاق في الحياة والاستفادة من الثروة، والاستمتاع بثراء أكبر بكثير مع قدر أكبر من الحرية الشخصية. وهذا ما حصل فعلاً. لكنهما كانا يتصرفان من منطلق الإهتمام بذاتيهما كأفراد أولاً، ويهتمان بتحقيق ما يرضيهما أكثر. أما الملكة فقد كانت تعيش وتتصرف كـ”مؤسسة”، وكل ما كانت ترغبه لنفسها إنما كان من أجل المحافظة على مكانة الحكومة البريطانية أولاً.
من الأقوال الشهيرة للكاتب وولتر باجيهوت، أشهر كتَّاب القرن التاسع عشر، “أن أي نظام دستوري يحتاج أن يكون من جزأين – أحدهما كريم والآخر فعَّال. جزء لإبهار وإرهاب الجمهور والجزء الآخر يدفع الحكومة لكي تعمل”. والملكة إليزابيث جسَّدت الجانب الكريم من النظام، وكانت في ذلك مثالاً يُحتذى به، وهو شيء يمكننا في الولايات المتحدة أن نستخدمه أكثر في نظامنا الدستوري.
فرئيس الولايات المتحدة هو في الوقت نفسه رئيس الحكومة ورئيس الدولة. هذا المزيج له مزاياه. إنه يدمج بين السلطة والهيبة، ويمنح الرئيس التنفيذي حضوراً قيادياً على المسرح العالمي. لكنه أيضاً يحطّ من قدر المنصب والديموقراطية الأميركية نفسها. فعندما تصرف ترامب الرئيس، بطرق فظيعة في أكثر من مناسبة وموقف، لم يكن يتصرف بشكل سيء كشخص فحسب، بل كان يسيء لمعايير الديموقراطية الأميركية. كان لبريطانيا نصيبها من رؤساء الوزراء الضعفاء والمتواضعين، لكن سلوك هؤلاء لم يكن له التأثير نفسه على صورة البلاد.
إننا نعيش في عصر حيث عدد الذين يفكرون بأهمية دور المؤسسات قليلٌ جداً. كما أن عدد الذين هم على إستعداد لتقديم تضحيات أقل.
على سبيل المثال، جورج س. مارشال، كان من الشخصيات التي تبوأت مناصب عُليا في عهد الرئيسين فرانكلين روزفلت، وهاري إس. ترومان. واعتبره كثيرون أنه هو من يقف وراء الانتصار الذي حققته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. لكن مارشال رفض أن يكتب مذكراته عن الفترة التي قضاها في منصبه. كان يعتقد أن القيام بذلك سيكون بمثابة ربح غير لائق من الخدمة الحكومية.
مثالٌ آخرٌ هو رئيس المحكمة العُليا، جون ج. روبرتس، وهو واحد من آخر المؤسسين في أميركا. بصفته فقيهاً محافظاً، ربما يتفق مع إجماع المحافظين على أن قرار القاضي رو ج. وودي بخصوص حظر الإجهاض كان معيباً للغاية وفق المنطق القضائي التقني، لكنه يريد أيضاً الحفاظ على شرعية المحكمة، في بلد تعتمد فيه النساء منذ ما يقرب من 50 عاماً على الحقوق والحماية الراسخة والتي يؤمنها القضاء الذي يمثله رو. لذلك، يُقال أن روبرتس حاول إقناع زملائه المحافظين بالإلتفاف حول حل وسط، من شأنه أن يحافظ على الحق الدستوري الأساسي للإجهاض ولكنه يقلّل بشكل كبير من الحصانة التي يتمتع بها رو. لكن أحداً من زملائه المحافظين لم يقف إلى جانبه. فبالنسبة لهم جميعاً، تغلبت الأيديولوجيا على المؤسسات.
نحن نعيش الحياة كأفراد، ولكن أيضاً كجزء من المجتمع. ولجعل المجتمعات تعمل بشكل جيد، كنَّا دائماً بحاجة إلى بعض المعايير التي تطلب من الفرد أن يتراجع خطوة إلى الوراء، وأن يضحي ببعض الأنا، وأن يكون له دور في مشروع خاص بالمصلحة العامة. لم يؤد أحدٌ هذه الواجبات أفضل من الملكة إليزابيث الثانية.
– النص بالإنكليزية على موقع “الواشنطن بوست“