وبرقيّ أخلاقها ورفعة مكانتها ورشاقة ثقافتها ابتسمت العطار، واستكملنا الحديث عن الجواهري، الذي كان حبل الوصل وزاد المائدة في كل لقاء معها أو مع جلال الطالباني. وهكذا استمرّ تواصلنا في الحديث عن الجواهري وكأننا نستكمل حديثاً سابقاً.
وقد روى لنا الطالباني كيف أقنع الجواهري على أن يعتمر غطاء الرأس (الطاقية) الذي اشتهر به وذلك بعد لقائهما في مدينة ميونيخ (ألمانيا الاتحادية حينها) عام 1964 في إطار مؤتمر لجمعية الطلبة الأكراد في أوروبا، كانت قد وجهت فيه الدعوة إلى الجواهري باعتباره رئيساً للجنة الدفاع عن الشعب العراقي التي تأسست بعد انقلاب شباط /فبراير1963، وضمت شخصيات بارزة مثل فيصل السامر وعزيز الحاج ومحمود صبري ونزيهه الدليمي ونوري عبد الرزّاق وغيرهم.
واسترسل الطالباني في روايته أنه كان يزوّد الجواهري بأعداد من غطاء الرأس بين فترة وأخرى. وكانت جميع الطاقيّات مطرّزة بالعربي أو بالكردي أو بالإنكليزي بكلمة “كوردستان”، ومنذ ذلك الحين لم يشاهد الجواهري دونها. والجواهري كان يعي ذلك فيناكف صاحبه أحياناً بأنك أردت أن تلبسني طاقية “الكرد”، واليوم تحاول أن تجرّني إلى “معارضتكم”.
ماذا أغني؟
وللحكاية وجهٌ آخر فكان حينها جلال الطالباني قد أرسل رسالة إلى الجواهري يستثيره فيها على أن يغني من جديد بعد صمت غير قصير، فما كان من الجواهري إلاّ أن كتب إلى الطالباني قصيدة بعنوان “ماذا أغنيّ؟” وذلك بتاريخ 10 ديسمبر/كانون الأول 1980، وقد نشرْتها لأول مرة في كتاب “الجواهري في العيون من أشعاره” الذي صدر في دمشق في العام 1986 عن دار طلاس، والذي يمثّل ذائقتي الشعرية، وذلك بالتعاون مع الجواهري الكبير الذي كتب له تمهيداً.
يقول الجواهري في قصيدته المهداة إلى الطالباني:
شوقاً “جلال” كشوق العين للوسنِ/ كشوق ناءٍ غريب الدار للوطنِ.
والقصيدة المؤلفة من 73 بيتاً تستمر في تصاعدٍ درامي في التعبير عن رؤية الجواهري وموقفه، خصوصاً وكانت الحرب العراقية –الإيرانية قد اندلعت في 22 أيلول/سبتمبر 1980، الأمر الذي أثار التباسات عديدة في الموقف منها ومن استمرارها، وهو ما انعكس على مواقف عدد من القوى والشخصيات العراقية.
لعلّ قصيدة “ماذا أغنّي؟” هي استمرار لقصيدة سابقة مؤلفة من 9 أبيات أرسلها الجواهري إلى الطالباني في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1966 بعنوان “حمار عيسى” وهي على أثر حديث دعابة ومزاح بينهما. وكنت قد نشرتها لأول مرّة أيضاً.
كانت تلك المصادفة التي جمعتنا في دمشق قبل ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، حيث تألّق الطالباني وهو يردّد على أسماعنا ما كتبه الجواهري وحين توّقف عند أحد الأبيات أخرج دفتراً صغيراً من جيبه ليعيد القراءة وكأنه يؤدي امتحاناً مدرسياً لا يريد أن يخطئ فيه، وهو يعرف مكانة الجواهري ولغته لدى السيدة العطّار وكاتب السطور، بل إنه كان يريد أن يتبارى معنا على طريقته الشائقة في التحديّ.
الجواهري ضيف العطّار
في أواخر العام 1978 كانت الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة والإرشاد القومي والإعلام قد وجهت دعوة إلى الجواهري لزيارة دمشق، وذلك في أجواء التقارب السوري – العراقي، حيث أقيمت حفلة تكريميّة كبرى له في سينما الحمراء ألقى فيها الجواهري قصيدته الشهيرة “دلفتُ إليكِ” التي نظمها في دمشق وأكملها في بغداد، ونشرَتها جريدة “الجمهورية” في ملحق عددها 3516 في 24 شباط/فبراير 1979 بعنوان “نسيم صبا دمشق” وقد أعدتُ نشرها كاملة في كتاب “الجواهري في العيون من أشعاره”. وفيها أطلق على السيدة العطار لقب “ريحانة الأدب المصفّى”، ويقول في مطلعها:
دلفتُ إليك يفضحني لغوبي/ ويسخر من شبابي والمشيبِ
يجرر بالذُّبالة من سراجي/ ويخنق ما عهدت من اللهيبِ
***
يظل المرء مهما أخطأته/ يدُ الأيام طوع يدُ المُصيبِ
كأن العمر ينضج في إناء/ بعيد الغور شفّاف الثقوب
صداقة الجواهري والكتب
كانت صداقة الجواهري وصداقة الكتب حلقة الوصل بصداقة مديدة مع الدكتورة العطّار، وهي صداقة اعتز بها، جامعها الثقافة والفكر والأدب وبكل ما هو أنيس وجليس، ولم تكن زيارتي لدمشق لتكتمل دون زيارة الدكتورة العطّار، حتى حين أصبحتْ نائباً لرئيس الجمهورية العربية السورية منذ 23 آذار/مارس 2006 وإلى اليوم، فقد كنت في كل مرّة أزورها في قصر الضيافة في أبو رمّانة.
ومع تجنّبيِ طلب اللقاء بمسؤولين رسميين، إلاّ أن علاقتي الثقافية بالعطّار لها شأن آخر، حيث كنت ولا أزال شديد الحرص على اللقاء والتواصل معها كلما سنحت الفرصة بذلك وكلما أتيحت لي الظروف، وكنتُ أبلغ مكتبها بمكان إقامتي ومدة بقائي في الشام، سواء قُبيل أو بُعيد وصولي إليها، وسرعان ما كنت أتلقى مبادرة منها للقاء وتحديد موعد وهو ما يسعدني تلبيته باعتزاز ومحبة.
ولم يكن يصدر لها كتاب في السنوات الأخيرة إلاّ وقد أرسلتْ لي نسخة منه، وبالوقت عينه كنت شديد الحرص على إرسال ما يصدر عنّي إليها، سواء خلال زياراتي المتواصلة إلى دمشق أو عبر الصديق السفير السوري في بيروت الدكتور علي عبد الكريم علي، في السنوات الأخيرة. ولم يصدف أن التقينا إلاّ وكانت الدكتورة العطّار تشغل حيّزاً من حديثنا، وبالفعل فنحن الاثنان نشعر بمحبّة خاصة واحترام كبير إزاءها.
الثقافة هي البوصلة
على الرغم من تولي الدكتورة العطّار منصب وزيرة الثقافة لنحو ربع قرن وكأول إمرأة عربيّة تحتلّ منصب نائب الرئيس، إلاّ أن ما كان يغلب عليها وعلى سلوكها وتعاملها هو صفة “المثقف” و”الأديب” وهي الصفة الدائمة التي ظلت تحملها وتعتز بها وهي التي طبعت سيمائها، فقد ظلت الثقافة كوظيفة نقدية تمثل جوهر فكرها وتستحوذ على تفكيرها، وقد كانت مخلصة لتلك الوظيفة الجمالية الإبداعية الإنسانية، بل وتشعر أنها منذورة إليها.
وإذا كانت في بداياتها تريد دراسة الحقوق وهي التي انخرطت منذ فتوتها الأولى في النضال الوطني ضد الانتداب الفرنسي في الأربعينيات وضد اغتصاب فلسطين في العام 1948 محرّضة على التظاهر، إلاّ أنها انصرفت إلى الأدب والعلوم الإنسانية، لكنها ظلت تحمل روح الحق والعدل في داخلها فيما كتبت وقالت بقناعة وشعور بالمسؤولية بانتمائها.
الثقافة بالنسبة إليها هي حقل مقاومة أيضاً وهي دفاع عن الهوّية الحضارية للأمة العربية، ولم يأتِ ذلك من فراغ، فهي ابنة قاضٍ وشاعر متنّور من الذين نالوا إجازة في الحقوق من اسطنبول، وكان منفتحاً على العلم، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق المرأة. وليس غريباً أن تختار العطار منذ وقت مبكر، متقدّمة على جيلها التحرر من العادات والتقاليد الباليّة والعتيقة متطلّعة نحو الرقي والحداثة مزاوجة بين الفكرة السياسية والأخلاق وبينها وبين التنوير، بالرغم من المرحلة الصعبة التي عاشتها سوريا والاستقطابات السياسية الحادة التي شهدتها، فقد ظلت الثقافة مظلتها وبوصلتها في الآن.
العطار من عائلة ضاربة الجذور في الأرض السورية وشاهقة العلو والتسامق والمؤّصلة جيلاً بعد جيل. وكانت قد درست في جامعة دمشق، الآداب والعلوم الإنسانية وتخرّجت منها، ثم استكملت دراستها العليا فنالت شهادة الدكتوراه من جامعة أدنبره في المملكة المتحدة.
سنديانة الثقافة
يمكن اعتبار العطّار جزءًا مهماً وأصيلاً من ذاكرة الثقافة السورية المعاصرة، فقد توّلت مسؤولية وزارة الثقافة في العام 1976 واستمرت فيها لغاية العام 2000. وبغض النظر عن الاختلاف في التوجهات الفكرية والسياسية والمواقف المتباعدة والرؤى المتعارضة أحياناً إزاء المشهد العام، إلا أن القسم الأكبر من المثقفين السوريين حين يستعيدون الذاكرة الثقافية لجيل السبعينيات وصولاً إلى العام 2000، أي لنحو ربع قرن من الزمن يجدون هذه الذاكرة مصحوبة بالدكتورة العطّار، إذْ لا تخلو الحياة المسرحية أو السينمائية أو التشكيلية أو الشعرية أو الموسيقية، إلى المجلات التي تصدر عن الوزارة، وخصوصاً مجلة “المعرفة”، من بصمة خاصة بها، سواءً مرّت من تحت يدها أو خطت يراعها شيئا فيها، أو كان لها فيها رأيّ. والمقصود خارج دائرة السياسة والكوارث والنكبات التي حلّت بالبلد، فحتى في هذه الظروف لم تفارقها ابتسامتها وأناقتها وجمالها وكبرياؤها، وقد حاولتْ دائماً أن تجد فضاءً للتنوّع وأفقاً للتعددية وقبولاً للإبداع بغض النظر عن خلفياته.
ونجاح العطّار هي شقيقة عصام العطّار، أحد أبرز قادة حركة الإخوان المسلمين في سوريا والتي دخلت في صراع مسلّح مع الدولة، لكن ذلك لم يؤثر على تماسكها ومواقفها ورؤيتها وإذا كان هناك من يتحدّث عن رجل الدولة، فالعطار إمرأة الدولة بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، وخصوصاً في معايير علم الإدارة الحديثة والعلاقة بين التخطيط والتنفيذ من خلال المتابعة والتقييم وصولاً للإنجاز. ولعل ذلك ما دفع الرئيس حافظ الأسد إلى اختيارها لتكون إلى جانبه في فترة عصيبة، وأن تبقى معه في ظرف شديد التعقيد بالنسبة لها، سواءً على المستوى الشخصيّ أم العام.
استكمال السردية
عودة على كلام الطالباني الذي كنتُ قد افتتحتُ به هذه السردية، والشيء بالشيء يُذكر كما يُقال، فيمكنني إضافة شخصية رابعة إلى المثلث الذي افترضه الطالباني وهو الدكتور صابر فلحوط مدير وكالة “سانا” ونقيب الصحفيين السوريين الأسبق، فقد كان من أشدّ المعجبين بالجواهري، وبذل أقصى ما يستطيع لتوفير ما يستلزم له خلال إقامته في دمشق وحتى وفاته، وكنت وإياه نلتقي في منزل الجواهري في الثمانينيات، واستمرّت علاقتي به إلى اليوم، حيث نلتقي في فعاليات وأنشطة متنوعة، فكرية وثقافية، وكان حريصاً مثل حرصي على التواصل واللقاء.
وقد كتب الجواهري قصيدة إلى صابر فلحوط (1982) جاء في مطلعها:
“أأبا مهنّد والجراح فمُ/ وعلى الشفاه من الجراح دمُ”.
وذلك ردأً على قصيدة فلحوط إلى الجواهري ومطلعها:
“أبا فرات تحيتي ألم/ حيث الحناجر كالجراح دم”.
العطار في سينما الحمراء
ألقت نجاح العطّار كلمة بليغة نشرتْها في ديوان الجواهري (الأجزاء الكاملة) الذي قامت بطباعته وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق 1979. وقد كانت كلمة العطّار بالغة الدلالة والجمال حين وصفت الجواهري بـ”العملاق كالأسطورة، وبالغريب كالخارق من الأشياء، فعلى وجهه يتشهى ألق موهبة من كل ذرة في كيانه صوت صارخ: أني أنا الشاعر، أنا البيداء التي منها الخيل والليل والمتنبي، وأنا الفارس الذي خيوله مجرات، وقوافيه أفلاك تدور بها نجوم وتدوي رعود وتتساقط نيازك وتتفتح زهور وتشرق شموس وفيها البرق والريح والمطر”.
وواصلت مخاطبة الجواهري قائلة:
“وتنطفئ النار، كل النار، وحتى الأرض تبرد يوماً، وهو يشتعل. من أين، أيها الشاعر، جذوتك التي في السبعين، هي ذاتها في العشرين؟، وتفجرّك الذي لا حدّ له، فكأنه في الغضب الأتي اكتساحاً، والإعصار اجتياحاً، وكأنه في النجوى بوح سريرة إلى سريرة، وخرير موج في مهامسة مع رمل الشاطىء.
وعلى أن تنفست الشعر مع الرضاع، في نجفك الذي كلّه شعر، فقد أبيت أن تحمل على الطاعة وفي طبعك تمرد، ورفضت الاستسلام وفي دمك ثورة، وعشت أنوفاً إلاّ مع الصحب، وعليهم، واحتفظت منذ طفولتك بالكبرياء وبالدلال، حتى “لتحسب الأنجم بعض لعبك” وهذا بعض روح الشعر.
وكما “لثورة الفكر تاريخ يحدثنا” لثورة العرب مرآة هي أنت، فقد طلبت بالشعر ما هو أعزّ منه: الثورة، وكان شعرك على الأعوام نسغاً ثورياً في عراقك وأمتك، وما زال لهيباً يتأرث في الدم العربي”.
“أيام عشناها”
هو عنوان كتاب العطار الأخير مع عنوان فرعي “وهي الآن للتاريخ“2021، تحاول فيه استشراف العبر وقراءة المستقبل وفق معطيات الحاضر، وهو يرصد تجربة نصف قرن من الأحداث والمتغيّرات المهمة التي عاشتها ومعها الأمة العربية بشكل عام وسوريا بشكل خاص.
بلغة بليغة وأسلوب رشيق تدخل العطار في صلب الحدث لتوصلنا إلى النتيجة من القسم الأول وهي تتحدث عن الواقع العربي فتقول “اليوم ندرك حقيقة مؤامراتهم هذه وما حملته من أخطار لم نكن نتصور أن بعضها قابل للحدوث، بل كنا نؤمن أن لدى أقطارنا مناعة تحميها من السقوط ولم يكن في الظن أبداً أن يتفكك التضامن العربي، ليحلّ محله التطبيع مع إسرائيل”.
وإذا كان الصحفي ـ بحسب ألبير كامو ـ مؤرخ اللحظة، فالدكتورة نجاح العطار تؤرّخ لحظة الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982 وصولاً إلى العاصمة بيروت، ولكن على طريقتها الخاصة بالحرف والكلمة والريشة واللوحة والموسيقى والقصيدة في مواجهة الإحتلال والدمار وتقول “هل هناك فاصلة أخطر من اجتياح بيروت في رمزيتها ومكانتها ونتائجها”.
وكانت الصحف الوطنية في بيروت تصدر من تحت الأنقاض أو من بينها على الرغم من قذائف النابالم، فتبديّ العطّار إعجابها برباطة جأش محرريها وصلابتهم، وتتوقف عند المبدع الكبير ناجي العلي (“السفير”).
ويمثّل كتاب “أيام عشتها.. وهي الآن للتاريخ” وثيقة تاريخية مهمة وشهادة على زمن قاسٍ وأحداث جسام عاشتها العطار بكل كيانها وأعادت استذكارها بمراجعة نقدية ضرورية، فالكتاب يعكس أسلوبها المتميّز ومفرداتها الرشيقة ولغتها الأنيقة، وبالنتيجة فالكتابة روح أيضاً، وتلك هي الروح الجميلة التي تمتلكها العطار.