“أعتقد أن كثيرين من المواطنين سألوا أنفسهم باستغراب مساء الاثنين الماضي، بعد نشر تفاصيل القضية الأمنية التي كانت خلال الأيام الأخيرة تحت أمر حظر نشر، علامَ كانت كل هذه الفوضى؟ فخلافاً للإشاعات التي شرحت أن هناك “مخربين” استأجروا شقة في صفد، بهدف تنفيذ عملية في مستشفى هناك، وخطف جنود عبر نفق، تبين أن الواقع أبسط بكثير: “مخرب مسلح بعبوات ناسفة اخترق الحدود الإسرائيلية، وقام بتفعيل إحداها بنجاح نسبي على مفرق مجدو، ولاحقاً، تم اغتياله بعد مطاردة، وهو يحاول العودة إلى لبنان مرة أخرى”.
لكن هذه النظرة ضيقة جداً. يجب النظر إلى هذا الحدث من وجهة نظر أوسع بكثير، بسبب الإسقاطات العميقة والإمكانات القابلة للانفجار فيه، بالنسبة إلى أمن إسرائيل واستقرار المنطقة، هذا هو السبب أيضاً وراء المداولات التي أجرتها أجهزة الأمن في الأيام الماضية، وأدت إلى تقصير زيارة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى برلين. والموضوع هو أن: قرار إسرائيل ليس أقل من دراماتيكي، هل سترد وكيف، وهي على علم بأن الأمر يمكن أن يؤدي إلى تصعيد غير مرغوب فيه في الشمال.
نفق أو لا نفق؟
يتضمن الحدث عدة أسئلة تكتيكية، وسؤالاً واحداً استراتيجياً. على الصعيد التكتيكي، يريد الجيش وجهاز “الشاباك” أولاً معرفة كيفية دخول “المخرب” إلى إسرائيل. هذا غاية في الأهمية: صحيح أن الحدود الشمالية ليست مغلقة كلياً، والجدار يجب أن يُستكمل بعد وصول الميزانية، بعد أكثر من عامين، لكنه مرصود جيداً بحساسات إلكترونية عديدة من المفترض بها على الأقل أن تشير إلى نقطة وطريق الاختراق، ولو بعد وقت.
حقيقة أنه لا يزال هناك سؤال في هذا الموضوع، تثير الشكوك مرة أخرى بشأن وجود نفق من النوع الذي حفره حزب الله لسنوات وأغلقه الجيش خلال حملة “الحارس الشمالي” في سنة 2019. هذا الاحتمال ضئيل، وبالأساس لأن حزب الله لن يتسرع في المخاطرة بأمر استراتيجي كهذا من أجل عملية محدودة. على الرغم من ذلك، وحتى لو كان من أجل راحة سكان الشمال، يجب إلغاء هذا الاحتمال كلياً.
المعضلة الإسرائيلية الآن هي ماذا عليها أن تفعل. التجاهل سيعامَل على أنه ضعف، والرد الحاد جداً يمكن أن يؤدي إلى مواجهة واسعة، وحتى إلى حرب لا تريدها إسرائيل. يبدو أن إسرائيل ستذهب إلى ما بين بين، وفي الوقت نفسه، ستمرر رسائل واضحة من خلال وسطاء، بهدف منع أحداث مشابهة مستقبلاً
تنفيذ هاوٍ.. أم محترف؟
هناك سؤال إضافي عما إذا كان هناك مساعدة من أطراف داخل إسرائيل. السائق الذي أقلّه اعتُقل وتم التحقيق معه، ومن غير الواضح بعد كلياً ما إذا كان “المخرب” قد ضلّله، أم أن السائق ساعده عن وعي؟
ومن غير الواضح أيضاً لماذا تم تفعيل العبوة في مفرق “مجدو” بشكل هاوٍ إلى هذه الدرجة (على الرغم من أنه أدى إلى إصابة بالغة لشاب عربي إسرائيلي)، ولماذا لم يستعمل “المخرب” الحزام الناسف والسلاح الذي كان معه لتنفيذ عملية إضافية؟
“المخرب” نفسه اغتيل على يد قوات “اليمام” لأنه هددهم في الوقت نفسه، حين أوقفوا السيارة التي كان يستقلها مقابل بلدة على الحدود الشمالية. صحيح أن الرأي العام الإسرائيلي يميل بشكل واضح إلى اغتيال “المخربين” ميدانياً، إلا إن هذه الحالة بصورة خاصة كان يجب أن يحدث فيها العكس: لو تم اعتقال “المخرب” حياً، لكانوا تمكنوا من استخراج المعلومات بالتحقيق معه، والحصول على معلومات استخباراتية غالية الثمن عمّن قام بإرساله، ومَن جهّز له العبوات، وكيف دخل إلى البلد، وما إذا كان هناك “مخربون” إضافيون يخططون للخروج والعمل بطريقة مشابهة.
هذه الأسئلة التكتيكية ضرورية لفهم إطار العملية، ومن أجل تأمين الحدود بطريقة أفضل لإحباط محاولات تنفيذ عمليات مشابهة في المستقبل، لكن المشكلة الأساسية لدى إسرائيل هي استراتيجية: ما الذي دفع “حزب الله” إلى القيام بحركة حربية تخرج عن إطار التفاهمات المتبادلة غير المكتوبة بينه وبين إسرائيل.
الإحتمال الأول هو أن حزب الله يعتقد أنه يستطيع العمل خفية من دون أن يتضح أنه مَن يقف وراء العملية. هذا افتراض ساذج، وذلك لأن العبوة مختلفة كلياً عن تلك التي يحضرها الفلسطينيون في الضفة وغزة، وتشبه كثيراً العبوات التي كان يستعملها التنظيم خلال فترة وجود الجيش في الجنوب اللبناني، خلال الألفية السابقة.
إمتحان إسرائيل
الاحتمال الثاني هو أن حزب الله اعتقد أن المسؤولية ستقع على جهات أخرى، “حماس” مثلاً التي تعمل في لبنان أيضاً. هذا أيضاً افتراض إشكالي، وليس فقط لأن حزب الله يسيطر على ما يحدث في منطقة الجدار، ومن غير المعقول أن حدثاً كبيراً كهذا كان سيحدث من دون علمه. وفي كل الأحوال، حتى لو كانت “حماس” هي المسؤولة، فإن إسرائيل سترد في لبنان لتمرير رسالة ردع، وبذلك تدفع حزب الله إلى الرد كحارس لبنان، ثم الانجرار إلى حرب.
الاحتمال الثالث والمقلق أكثر من أي شيء آخر، هو أن حزب الله يلاحظ ما يعتقد أنه ضعف إسرائيلي، بسبب الانشقاق الداخلي في البلد. إشارات إلى ذلك كانت موجودة في خطابات (السيد) حسن نصرالله، ومن الممكن أن يكون التنظيم قد قرر امتحان إسرائيل الآن. التوقيت – قبل رمضان بأسبوع – غير مفاجئ، وهو على عِلم بأن الرد الإسرائيلي يمكن أن يؤدي إلى تصعيد متعدد الجبهات خلال شهر رمضان، يُدخل إليه الضفة وغزة وعرب إسرائيل.
المعضلة الإسرائيلية الآن هي ماذا عليها أن تفعل. التجاهل سيعامَل على أنه ضعف، والرد الحاد جداً يمكن أن يؤدي إلى مواجهة واسعة، وحتى إلى حرب لا تريدها إسرائيل. يبدو أن إسرائيل ستذهب إلى ما بين بين، وفي الوقت نفسه، ستمرر رسائل واضحة من خلال وسطاء، بهدف منع أحداث مشابهة مستقبلاً. ولكن يجب القول إنه وقبل أن تتجه إلى حراسة الحدود الخارجية، على الحكومة العمل على تعزيز الحصانة الداخلية والمجتمع الموحد، وبكلمات أخرى: وضع الإصلاحات القضائية جانباً، والتفرغ للأحداث الطارئة والقابلة للانفجار أكثر بكثير”.
(*) المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.