“على المستوى الإيراني، من الواضح أن النظام الإسلامي يفحص إمكانية تغيير قواعد اللعبة وتخصيب اليورانيوم على درجة عسكرية. وبعكس تصريحات أميركية سابقة (تصريحات وزير الدفاع الأميركي في سنة 2012)، والتي جاء فيها صراحة أن الولايات المتحدة تعتبر أي محاولة إيرانية لتطوير سلاح نووي خطاً أحمر، ولن تقبل إنتاج اليورانيوم على هذه الدرجة، فإن إدارة بايدن، بعد أن تحولت هذه الإمكانية إلى حقيقة، تبعث برسالة ضعيفة. فقد قال رئيس الأركان المشتركة في الولايات المتحدة الجنرال ميلي أمام لجان الكونغرس (23 آذار/مارس) “إن الولايات المتحدة لا تزال تلتزم سياسة عدم حصول إيران على سلاح نووي”. بكلام آخر، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تستطيع إيران تخصيب اليورانيوم على درجة عسكرية، وربما أيضاً استخدامه لإنتاج رؤوس نووية متفجرة، لكنها إذا أنتجت سلاحاً نووياً، فإن الأميركيين لن يسكتوا عن ذلك.
صحيح أن ميلي قال إن الجيش الأميركي طوّر مجموعة إمكانات عمل كي يستخدمها صنّاع القرار، إذا قررت إيران إنتاج سلاح نووي، لكن عدم الوضوح بشأن مسألة تغيُّر الخط الأحمر الأميركي كان أمراً مهماً. رداً على كلام ميلي، قالت الناطقة بلسان البيت الأبيض إن “الولايات المتحدة ملتزمة منع إيران من الوصول إلى سلاح نووي”. وكرّرت بذلك رسائل الرؤساء الأميركيين السابقين (أوباما وترامب وبايدن)، لكنها أبقت الغموض بشأن ما إذا كانت تصريحات ميلي هي تصريحات غير موفقة، أم هناك تبدُّل في الخطوط الأميركية الحمراء، بحيث أن تخصيب اليورانيوم على درجة عسكرية، ومغزاه الوحيد هو الرغبة في إنتاج سلاح نووي، لم يعد يتطلب رداً.
إذا استنتجنا من الكلام الأميركي أن تخصيب اليورانيوم على درجة عسكرية لا يفرض القيام بعملية، فإن هذا يخلق فجوة بين وجهة النظر الإسرائيلية وبين وجهة نظر الإدارة الأميركية. على ما يبدو، هذه الفجوة ليست كبيرة لأن الطرفين في هذه المرحلة يدّعيان أن إيران لم تتخذ قراراً بشأن إنتاج سلاح نووي، ولم تستأنف العمل في مجموعات السلاح التي جمّدتها في سنة 2003. لكن يبرز هنا اختلاف في الآراء بشأن الوقت الذي يحتاج إليه الإيرانيون لإنتاج سلاح نووي منذ اللحظة التي يتخذون فيها قراراً في هذا الشأن. ويُجمع الكل على أن الإيرانيين قادرون على إنتاج كميات انشطارية من أجل جهاز نووي متفجر واحد خلال أقل من أسبوعين، وخلال 3 أشهر، يستطيعون إنتاج كميات انشطارية تكفي 5 أجهزة نووية متفجرة. مع ذلك، حتى وقت قريب، كان التقدير أنه حتى لو خصّب الإيرانيون اليورانيوم على درجة عسكرية، فإنهم بحاجة إلى عامين على الأقل لإنتاج سلاح نووي يركَّب على صواريخهم البعيدة المدى، لكن ميلي جاء ليقول إن الوقت الذي يحتاج إليه الإيرانيون لإنتاج جهاز نووي متفجر يمكن أن يكون أقصر بكثير، وليسوا بحاجة إلى أكثر من بضعة أشهر…
وكلما كان الوقت الذي تحتاج إليه إيران لإنتاج سلاح نووي أقصر، كلما أصبحت الفجوة أكبر وملحّة أكثر بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن ما الذي يجب فعله إذا قررت إيران تخصيب يورانيوم على درجة عسكرية.
إن مجرد تخصيب اليورانيوم على درجة قريبة من الدرجة العسكرية (60% وربما 84%) والتغييرات التي أجريت مؤخراً على تكوين أجهزة الطرد المركزي في منشأة فوردو تحت الأرض، والتي تسمح بالتخصيب على درجة عسكرية، كل ذلك يدل على أن إيران أصبحت أكثر جرأة، وكلام مثل كلام الجنرال ميلي مع التردد الأميركي في نقاشات الوكالة الدولية للطاقة النووية، يمكن أن يزيد في الاستعداد الإيراني لاختبار الولايات المتحدة (وإسرائيل). وضمن هذا الإطار، يجب أن نرى تصاعُد هجمات وكلاء إيران في سوريا والعراق ضد قواعد أميركية في سوريا، والتي أدت إلى مقتل مقاول أميركي وجرح خمسة آخرين. صحيح أن بايدن ردّ على ذلك بحدّة، والأميركيون هاجموا قاعدة إيرانية في شمال سوريا، لكن ثمة شك في أن هذا سيحقق الردع المطلوب.
تكشف عبوة مجدو تصعيداً في درجة جرأة وكلاء إيران في لبنان. صحيح أن ما حدث بالضبط لا يزال خفياً، لكن من الواضح أن عنصراً قوياً في لبنان يتمتع بمهنية عسكرية مثيرة للإعجاب، وقدرة على الوصول إلى عبوة متطورة، وعلى اجتياز العائق الحدودي، قرر أن يرسل إلى الأراضي الإسرائيلية “مخرباً” مسلحاً بصورة جيدة
في جميع الأحوال، يبدو أن إيران تستمد تشجيعاً من تحسُّن مكانتها الإقليمية والدولية بعد الاتفاق بينها وبين السعودية، وتعزيز العلاقات بينها وبين الصين وروسيا، ومن الضعف الأميركي في المنطقة، ومن عودة الرئيس السوري بشار الأسد إلى حضن العالم العربي، ومن انشغال إسرائيل بمشكلاتها الداخلية وإحجامها عن الدخول في مواجهة مع حزب الله.
تندرج هنا حادثة الهجوم في مجدو، والتي تكشف تصعيداً في درجة جرأة وكلاء إيران في لبنان. صحيح أن ما حدث بالضبط لا يزال خفياً، لكن من الواضح أن عنصراً قوياً في لبنان يتمتع بمهنية عسكرية مثيرة للإعجاب، وقدرة على الوصول إلى عبوة متطورة، وعلى اجتياز العائق الحدودي، قرر أن يرسل إلى الأراضي الإسرائيلية “مخرباً” مسلحاً بصورة جيدة، نجح في تنفيذ عمليته التي انتهت “بأعجوبة” بسقوط جريح واحد فقط. حدث هذا كله من دون أن يكون أي شخص في إسرائيل على علم بالنية والقرار والتنفيذ، كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت الاستخبارات الإسرائيلية قادرة على منع تكرار مثل هذه الحادثة لاحقاً.
من الناحية الاستخباراتية، ما جرى هو مفاجأة متعددة الأبعاد. والأخطر من أي شيء أن ما جرى مفاجأة تتعلق بأسس التقديرات الإسرائيلية. تعمل المنظومة الإسرائيلية على أساس تحليل أساسي أن أطراف القوة في لبنان في حالة ردع بسبب القوة الإسرائيلية، وهي تلتزم قواعد اللعبة التي تمنعها من مهاجمة أهداف في إسرائيل – ما دامت إسرائيل لا تؤذي مصالح لبنانية حيوية، أو تهاجم في لبنان، أو تمسّ بعناصر حزب الله في سوريا، ضمن إطار المعركة بين الحروب، التي تهدف إلى ضرب جهود بناء قوة عسكرية لإيران وحزب الله في سوريا ولبنان.
ويظهر الآن أن هذا الافتراض لم يعد صالحاً. هناك طرف قوي في لبنان يعتقد أن في الإمكان شنّ عملية “إرهابية” في الأراضي الإسرائيلية، وعلى الأرجح، المقصود هو حزب الله نفسه، أو طرف مرتبط به، أو بإيران (مثلاً حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني الذي نفّذ في سنة 2002 هجوماً مشابهاً من السياج اللبناني، وأدى يومها إلى مقتل 5 إسرائيليين). إذا كان هذا صحيحاً، فإن شيئاً أساسياً في الفهم الإسرائيلي للواقع في لبنان هو خطأ. ويبدو أننا لم نفهم أن التغييرات التي جرت مؤخراً يمكنها أن تغيّر الصورة في نظر أعدائنا، وتدفعهم إلى انتهاج استراتيجيا جديدة. وكما حذّرت في مقالي في هذا الموقع، وعلى الرغم مما قيل عن التردد الإسرائيلي والإحجام عن الدخول في مواجهة مع حزب الله بشأن اتفاق الغاز، هناك تخوّف أمني كبير من أن تزداد ثقة الحزب بنفسه، الأمر الذي يشجعه على المجازفة بصورة تبدو لنا أنها غير محسوبة، لكنها في نظرة محسوبة.
تطورات الأشهر الأخيرة – سلوك إسرائيل حيال اتفاق الغاز، وتعزيز قوة نظام الأسد، والتقارب بين إيران وروسيا، والاتفاقات بين السعودية وإيران التي عززت قوة النظام المتطرف في طهران، والتصعيد في مواجهة الفلسطينيين في الضفة والأزمة الداخلية في إسرائيل، إزاء هذا كله، يزداد الانطباع أن القيود التي تأخذها عناصر القوة في لبنان في الاعتبار بشأن تقديراتها للوضع خفّت، ودفعت طرفاً ما إلى انتهاج سياسة جديدة، أو على الأقل فحص تداعيات انتهاج مثل هذه السياسة من خلال الهجوم في مجدو. صحيح أن (السيد حسن) نصر الله لم يعلن مسؤوليته عن الهجوم، لكنه حاول طرح معادلة جديدة، مفادها أنه مسموح لعناصر القوة العاملة في لبنان بالعمل ضد إسرائيل عبر الحدود (من الأفضل من خلال إخفاء هويتهم وعدم تحمّل المسؤولية)، لكن ممنوع على إسرائيل الرد، وأيّ ردّ سيواجَه بردّ أكبر.
من اللحظة التي يتضح فيها لإسرائيل مَن المسؤول عن هجوم مجدو، يتعين عليها أن تدفّعه ثمناً باهظاً كما وعدت. وإذا لم يجرِ ذلك، فإن الخلاصة التي سيصل إليها الحزب وعناصر قوة أُخرى، أن القيود تآكلت، وثمة مجال لزيادة العمليات “الإرهابية” ضد إسرائيل من لبنان. قناة المنار التلفزيونية التابعة لحزب الله عرضت في يوم السبت (18 آذار/مارس) فيديو تهديدات لتنظيم اعترف بمسؤوليته عن هجوم مجدو، يحمل اسم “قوات الجليل – الذئاب الوحيدة”، هدد فيه بتنفيذ هجمات أُخرى، هذه المرة ضد شخصيات رفيعة المستوى، بينها الرئيس هرتسوغ. في هذه المرحلة، ليس من الواضح لنا صحة ادّعاء “الجهاد الإسلامي” أن اغتيال أحد ناشطيه في 19 آذار/مارس في دمشق علي رمزي الأسود، كان نتيجة عملية إسرائيلية، وهل هناك علاقة بين الاغتيال وبين الهجوم في مجدو، وإذا كان هذا صحيحاً، فإن الأمر هو ردّ نوعي.
هناك مشكلة منفصلة تتمثل في المفاجأة العملانية التي انطوى عليها الهجوم. من المفترض أن الجيش وسائر الأجهزة الأمنية مستعدون لإحباط هجمات من الحدود، حتى من دون معرفة مسبقة. هناك أسباب تدعو إلى القلق تتعلق بالغموض بشأن هوية الطرف الذي أرسل “المخرب”، وما هي نياته، ولماذا لم يستخدم الحزام الناسف، وهل جرى إعداد “مخربين” آخرين، وهل “المخرب” فلسطيني، أو لبناني. كل هذه الأسئلة، من المهم الإجابة عنها لمنع الهجوم المقبل. نأمل بأن يقدم التحقيق السريع في الحادثة إجابات كاملة عن هذه الأسئلة في أقرب وقت. هذا الواقع المعقد والخطر يفسّر، جزئياً، دعوة وزير الدفاع يوآف غالانت إلى وقف العملية التشريعية ووقف التهديدات برفض الخدمة العسكرية”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).