قبل كلاوزفيتز، كان الإيطالي نيكولا ميكافيلي (1469 ـ 1527) قد قال في كتاب “فن الحرب” الموازي بأهميته لكتابه المعروف “الأمير”، إن أولى واجبات القائد العسكري “معرفته الكاملة ببلاد العدو، مدنها، طرقها، جبالها، أنهارها، غاباتها، مواقعها الطبيعية، وكذلك في مميزات وتقاليد العدو، وخططه ونوعية سلاحه”.
وقبل كلاوزفيتز وميكافيلي، كان رائد العلوم العسكري، الصيني سون تزو (551 ـ 479 ق.م)، قد أفرد فصلا خاصا عن الأذرع الخفية للحرب في كتابه “فن الحرب” إذ يقول:”لا تأتي المعرفة للقيادة العسكرية المستنيرة، من الخيالات والأحلام، ولا من أخذ العبرة من أحداث الماضي فحسب، ولا من أي حسابات استنتاجية، بل تأتي من المعرفة بأحوال العدو، وتتم تلك المعرفة عن طريق الجواسيس وهم خمسة أنواع: جواسيس الوطن (مواطن العدو)، الجواسيس الداخلية (ضباط من جيش العدو)، الجواسيس المجندة (الذين يتم استمالتهم بعدما كانوا يعملون للعدو)، الجواسيس المضللة (الذين يبثون معلومات خاطئة في بيئة العدو)، الجواسيس الناجية (الذين يفرون من أرض العدو)”.
لا شك أن اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، يندرج في سياق عمل تجسسي إسرائيلي في الداخل الإيراني، إلا أن قراءة هذا الحدث من منظور حصري يتوقف عند الإختراق الإسرائيلي الناجح لأشد القطاعات الإيرانية حساسية، تنطوي على نصف مشهد الجوسسة، فيما المشهد المكتمل يُظهر جوسسة إيرانية في الداخل الإسرائيلي، لا تقل شأناً عن ضدها المنطلق من إسرائيل بإتجاه إيران.
ماذا في سجلات الجوسسة الإيرانية؟
في شهر حزيران/يونيو 2018، كشفت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن اعتقال الوزير والنائب الإسرائيلي الأسبق، غونين سيغيف، بتهمة التعامل مع إيران، وتعليقا على ذلك، نقلت صحيفة “إسرائيل هيوم” المقربة من بنيامين نتنياهو (19 ـ 6 ـ 2028) عن مسؤولين في جهاز “الشاباك” الإسرائيلي قولهم:”إنهم يتوقعون أن يكون هناك المزيد من الجواسيس الإسرائيليين الذين يعملون لصالح الأعداء”، فيما قال نائب رئيس “الشاباك”، يسرائيل حسون، للصحيفة عينها “إن الكنيست هو آخر مكان يمكن أن نبحث فيه عن جواسيس، وعمليات التجسس التي قام بها سيغيف دامت عدة سنوات وبعمل كثيف أحيانا”، وكتب يوسي ميلمان (21ـ 6 ـ 2018) في صحيفة “معاريف” إنه حين يصل الأمر إلى تجنيد سيغيف “فهذا يعني أن الإيرانيين نجحوا في اختراق الزجاج الخاص بالمجتمع الإسرائيلي”.
سبق ذلك إلقاء جهاز الـ”شين بيت” الإسرائيلي، القبض على “جاسوس إيراني إسمه علي منصوري في مدينة تل أبيب”، وفقا لقناة “بي بي سي” البريطانية بتاريخ 29 ـ 9 ـ 2013، وجاء في تقرير نشره موقع “عرب 48” في 24 تموز/يوليو 2019، أن جهاز “الشاباك” وبالتعاون مع أجهزة أمنية أخرى “أحبط محاولات إيرانية لتجنيد أشخاص، كان يقودها شخص سوري يدعى أبو جهاد، بهدف جمع معلومات عن القواعد العسكرية والمنشآت الأمنية الحساسة والموظفين ومراكز الشرطة والمستشفيات وغيرها”.
وفي 20 حزيران/يونيو 2019، ذكرت صحيفة “الغد” الأردنية وقناة “روسيا اليوم” نقلاً عن أوفير جندلمان المتحدث باسم رئاسة الحكومة الإسرائيلية، أن “الشاباك” إعتقل رجل الأعمال الأردني، ثائر شعفوط، “الذي دخل إسرائيل بأوامر من الإستخبارات الإيرانية، وتم تكليفه بإقامة علاقات تجارية في إسرائيل وفي الضفة الغربية كغطاء لعمله التجسسي لصالح إيران”.
حرب أمنية غير معلنة
وتحت عنوان “اعتقال جاسوس إسرائيلي يعمل لمصلحة إيران”، نشرت صحيفة “اندبندنت عربية” الإلكترونية تقريرا مطولا (10 ـ 4ـ 2020) لمراسلتها في مدينة القدس المحتلة، آمال شحادة، قالت فيه: “بعد يومين من سماح الرقابة العسكرية الإسرائيلية النشر عن اعتقال إسرائيلي، جُنّد للعمل لصالح ايران، تواصل أجهزة الإستخبارات التكتم على تفاصيل عمليات خطط لها الرجل الخمسيني لتنفيذها ضد أهداف إسرائيلية”. وعن هوية المتهم، ألمحت أنه شخصية لها مكانة خاصة في المجتمع، ووفقا للائحة الإتهام، فقد جند المتهم من قبل وسيط يدعى خالد يماني، وقد سلم الشخص الإسرائيلي معلومات كثيرة، امنية وسياسية ومدنية واجتماعية وغيرها، “تساعد إيران في تنفيذ عمليات ضد تل أبيب”.
يوسي ميلمان: الإيرانيون يعملون دون توقف ضد إسرائيل، وجهاز الشاباك لا يبدي استهتارا بالقدرات الأمنية الإيرانية
في ذروة الحملة الإنتخابية النيايبة في آذار/مارس 2019، تحدثت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن اختراق الإستخبارات الإيرانية للهاتف المحمول لمرشح تكتل “أبيض ـ أزرق” لرئاسة الحكومة ووزير الدفاع الإسرائيلي لاحقا، الجنرال بيني غانتس، وتعقيبا على هذا الأمر، كتب ناحوم برنياع (17 ـ 3ـ 2019) في صحيفة “يديعوت احرونوت” متسائلا: “حين يُبث خبر كهذا تثور بضعة أسئلة، الأول: من هم الذين اقتحم الإيرانيون هواتفهم أيضا؟ والثاني: من وكيف في إسرائيل يعرف بإقتحام الإيرانيين؟ والثالث: هل توجد في الهاتف مواد إشكالية وأمنية أو شخصية”؟
بما يتجاوز الجوسسة الإيرانية في داخل إسرائيل، ثمة حرب أمنية غير معلنة بين طهران وتل أبيب، وتلك الحرب، كان أشار إليها الكاتب المعروف يوسي ميلمان في مقالة نشرتها “معاريف” في 21 حزيران/يونيو 2018، وفيها يقول:”الحرب السرية التي تخوضها الإستخبارات الإيرانية والإسرائيلية قوية وقاسية، ولا يجب الإستخفاف بها، لأن الإيرانيين يعملون دون توقف ضد إسرائيل، وجهاز الشاباك لا يبدي استهتارا بالقدرات الأمنية الإيرانية، ولذلك فإن الوحدة العاملة فيه لمواجهة الإستخبارات الإيرانية تعمل ضمن قسم مكافحة التجسس الأجنبي، وتم توسيعها في السنوات الأخيرة”.
ماذا في ميدان الحرب السيبرانية؟
نشرت هيئة البث الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية i24 تقريرا نقلا عن موقع “واينت” الإسرائيلي (6 ـ 2 ـ 2020)، وفيه “ان قراصنة إيرانيين يعملون تحت رعاية السلطات الإيرانية نجحوا باختراق المئات من أنظمة الحواسيب في إسرائيل والعالم وتمكنوا من الكشف عن معلومات استخباراتية بكميات كبيرة”، وهذا الهجوم المرتبط بالجوسسة الأمنية والحرب السيبرانية معا، لا يبدو خارجا عن إطار سلسلة هجمات مماثلة، ففي 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، قال الخبير في الشؤون الأمنية عمير ربابورت لموقع “اسرائيل دفينيس” أن عمليات تعقب ورصد هجمات “السايبر” التي تعرضت لها إسرائيل “قادت الى تحديد العديد من الحواسيب التي يشغلها الحرس الثوري الإيراني، وأن أحد الحواسيب المخترقة يعود إلى لواء في الجيش الإسرائيلي، ومن بين أهداف تلك الهجمات، شخصيات بارزة وعلماء ذرة إسرائيليون “.
وأوردت القناة “13” وصحيفة “يديعوت احرونوت” الإسرائيليتان وقناة “روسيا اليوم” في 24 نيسان/ابريل 2020، أن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر، “ناقش هجوما سيبرانيا خطيرا تعرضت له البنية التحتية الإسرائيلية، ولم يتضح من كان وراء الهجوم الواسع، لكن تقارير إعلامية غربية، تقول إن إيران نفذت هذا الهجوم”، وفي مقالة بتاريخ (24 ـ 4 ـ 2020) للكاتب الصحافي الإسرائيلي بن كسبيت لحساب موقع “المونيتور” أن إسرائيل “تحولت هدفا لهجوم سيبراني ليلة 24 نيسان/إبريل، أصاب مرافق المياه والصرف الصحي واخترق أنظمة الكمبيوتر العائدة لمرافقها المائية”، ونقلت “اندبدنت عربية” بتاريخ 20 ـ 5 ـ 2020 عن الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، عاموس يدلين، قوله: “ينضم السايبر إلى أبعاد البر والبحر والجو كبعد حربي مهم، ولا شك في أن إيران تمارس حرب السايبر”، ويختصر وزير الدفاع الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت حروب الأذرع الخفية بين إيران وإسرائيل بقوله (قناة “الحرة”ـ 21ـ 6 ـ 2020):”إن الأخطبوط الإيراني يرسل أذرعه من أجل الإلتفاف حولنا من كل مكان”.
الذراع الإسرائيلية التي طالت فخري زاده، يقابلها ذراع إيرانية ليست قصيرة مثلما أوردت وسائل الإعلام المختلفة والمسبوقة الذكر، وكما يقول الإسرائيليون أنفسهم بعد اغتيال فخري زاده
الرد سيكون إسرائيلياً
بالعودة إلى العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، من المناسب القول إن عملية اغتياله لا تخرج عن دائرة ميادين الحروب المشتعلة وغير المعلنة بين إسرائيل وإيران، وبهذا المعنى، فإن الذراع الإسرائيلية التي طالت فخري زاده، يقابلها ذراع إيرانية ليست قصيرة مثلما أوردت وسائل الإعلام المختلفة والمسبوقة الذكر، وكما يقول الإسرائيليون أنفسهم بعد اغتيال فخري زاده.
وعلى ذلك يتوقع اليكس فيشمان (“يديعوت احرونوت” 29 ـ 11ـ 2020)، “ان الرد الايراني على اغتيال فخري زاده سيكون في الخارج”، ويرى تسفي برئيل (“هآرتس” 3- ـ 11 ـ 2020) أن المواقف الرسمية الإيرانية المتعلقة بإغتيال فخري زاده “تلقي المسؤولة الوحيدة والمباشرة على إسرائيل، وتنوي طهران العمل ضدها، ويبدو أن الرد ضد إسرائيل سيؤجل إلى ما بعد إخلاء البيت الأبيض من عائلة دونالد ترامب”، ويكتب عاموس يادلين في موقع (12 N) في الأول من كانون الأول/ديسمبر 2020 قائلاً:”أثبت الإيرانيون في الماضي قدرة على التحليل والتفكير المعمقين، وعرفوا كيف يؤجلون عمليات ثم ينفذونها ضد الهدف في الوقت والمكان الملائمين”، ويعتقد يوني بن مناحيم (2 ـ 12 ـ 2020) أن لدى إيران “رغبة كبيرة للإنتقام جراء انتهاك الكرامة الوطنية واغتيال فخري زاده”، وأما تشيك فرايليخ (“هآرتس” ـ 2 ـ 12ـ 2020) فيذهب إلى القول:”ما زال الوقت مبكرا كي نحدد اذا كان سيكون هناك رد إيراني شديد، واذا لم ترد إيران في الأيام القليلة المقبلة، فهذا يعني أنها قررت الرد في المكان والزمان اللذين يناسبانها”.
حرب الأذرع الخفية بين إيران وإسرائيل، كان اغتيال محسن فخري زاده احد فصولها، فماذا عن الفصل التالي؟
الإسرائيليون يرجحونه إسرائيلياً.