العراقيون والأصول الهندية.. السياسة أولاً!

منذ حوالي الأسبوعين، وأصداء المقولة التي أطلقها الشيخ قيس الخزعلي الأمين العام لحركة "عصائب أهل الحق" العراقية حول الجذور الهندية للرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، تتفاعل في داخل العراق وخارجه، ولا ريب أن هذه المقولة، كغيرها من المقولات الإشكالية، ستكون حاضرة في مجمل السجالات السياسية والهوياتية التي سيخوضها العراقيون لاحقاً.

عموماً، لم تأتِ مقولة قيس الخزعلي بجديد، فالتنابذ بالأصول الهندية أو غيرها يحفل بها تاريخ العراق الحديث، ولعل النبذة الأولى في هذا الشأن انطلقت شرراتها عام 1933 من خلال كتاب “العروبة في الميزان” الذي وضعه عبد الرزاق الحصان، وأخرج فيه مواطني جنوبي العراق بالجملة والإجمال من الرابطة العربية، وفي كتاب “الأعلام” لخير الدين الزركلي أن “عبد الرزاق بن رشيد بن حميد الحصان البغدادي الكرخي مؤرخ للقومية العربية، أثار بعض كتبه نقدا شديدا في بغداد، من كتبه المطبوعة العروبة في الميزان قامت بسببه تظاهرات احتجاج وسُجن مؤلفه أربعة أشهر”.

لا مجال للحديث عن كتاب عبد الرزاق الحصان في هذه المقالة، لكونه لا يرد مكونا عراقيا إلى أصول هندية بل إلى أصول أعجمية أخرى، وأما الجذور الهندية كما قذف بها مؤلفون وسياسيون عراقيون مواطنيهم، فهي أصل هذه المقالة وفصلها، ومفاصلها تتوزع على التالي:

أولاً؛ “فتنة الهند” وصدّام حسين:

بعد انسحاب القوات العراقية الغازية من الكويت في شباط/فبراير 1991، ثار العراقيون في الشمال والجنوب وبعض الوسط، وكُتبت الغلبة لأنصار الرئيس صدّام حسين وحزبه، وابتداء من الثالث من نيسان/ابريل، راحت تظهر في صحيفة “الثورة” العراقية سلسلة مقالات افتتاحية امتدت على أجزاء عدة وانتهت في الرابع عشر من الشهر إياه، تلك المقالات حملت عنوانا طويلا “ماذا حصل في أواخر عام 1990 وهذه الأشهر من عام 1990 ولماذا حصل ما حصل”؟ وفي المقالة الثالثة استعرض كاتب المقالات لائحة اتهامية تفصيلية لأهل الجنوب العراقيين من بينها أن أصولهم الإجتماعية غير عربية “وقد جاؤوا من الهند مع جواميسهم”.

هذه المقالات ما فتئ جانبها السجالي قائما في الأوساط الفكرية والسياسية والإعلامية في العراق بحثا وتنقيبا عن كاتبها، ولكن عبد الجبار محسن مدير التوجيه السابق للجيش العراقي وأحد القلائل الذي شكلوا الحلقة الضيقة حول صدّام حسين يقول في حوار تلفزيوني مع حميد عبدالله عام 2012 بثته قناة “المشرق” العراقية “إن صدّام كان يكتبها أو مكتب التوجيه وتأتي إلى صحيفة “الثورة” مغلقة وعلى غلافها مكتوب: للنشر”.

إريك دايفيس: “بعد قمع الإنتفاضة ـ عام 1991ـ ظهرت مباشرة سلسلة من سبع مقالات صحفية بإسم حزب البعث العربي الإشتراكي في صحيفة الثورة، يعتقد أغلب المحليين بأن صدّام هو كاتبها بالفعل، ويؤكد فيها بأن المجموعة التي نشأت في الأهوار ومستنقعات شط العرب تعاني من القيم المنحرفة الناجمة عن أصولها في الهند حيث كانت ترعى الجواميس”.

ثمة مثقفون عراقيون عديدون تناولوا مقالات صحيفة “الثورة” ومن هؤلاء فالح عبد الجبار في “العمامة والأفندي” ويميل رأيه إلى أن طارق عزيز قد كتبها، ويتطرق إليها سعيد السامرائي في “الطائفية في العراق/الواقع والحل” ويكتب عنها عبد الخالق حسين في “الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق ” فيقول ويُسهب:

“بعد انتفاضة آذار/مارس 1991 ارتكبت السلطة جريمة بحق البيئة لمطاردة الثوار وتجفيف الأهوار، ولم يكتف النظام بما ألحق بهم من خسائر مادية وبشرية بل راح يُشنِّع بأعراضهم ويشكّك بعروبتهم وعراقيتهم، وذلك في سلسلة مقالات مخجلة بعنوان لماذا حصل ماذا حصل نشرتها صحيفة الثورة، وفي الحلقة الثالثة بعنوان فساد أخلاق أهل الأهوار جاء: إن هذا الصنف من الناس بوجه عام، كان مركز إيواء ونقيضة غير شريفة لعناصر الشغب والخيانة التي اجتاحت جنوب العراق ومن الفرات الأوسط في الأحداث الأخيرة، إذا عرفنا كل هذا وغيره، وعرفنا أن بعض هذا الصنف من الناس في أهوار العراق هم من أصول جاءت مع الجاموس الذي استورده القائد العربي محمد القاسم من الهند، وعرفنا أن من أبرز عاداتهم سرقة ممتلكات الخصم، سهُل علينا تفسير ظواهر النهب والتدمير والحرق وانتهاك الأعراض التي أقدم عليها المجرمون المأجورون”.

وفي سياق تحليل المقالات المذكورة وربطها بإنتفاضة ما بعد غزو الكويت، يقول كنعان مكية في “القسوة والصمت” إن هذه المقالات “تُظهر تحولا جذريا في موقف بغداد الرسمي تجاه مواطنيها، وكان الجديد ـ في المقالات ـ هو في فكرة أن المعتدين ـ المنتفضين ـ لم يكونوا فقط غرباء بمقتضى هويتهم وجنسيتهم، بل كانوا غرباء عن العراق بمقتضى ذهنيتهم، وتهاجم المقالات عرب الأهوار مستعرضة عوزهم وتخلفهم وفجورهم، وهي تعتبرهم أشرارا بالسليقة وقذرين ووسخين وأنهم من سلالة العبيد الهنود”.

وحول تلك المقالات والأصول الإجتماعية الهندية لجنوبيي العراق يشير إريك  دايفيس في كتابه “مذكرات دولة/السياسة والتاريخ والهوية الجماعية في العراق الحديث” الصادر عام 2008 إلى التالي:

“بعد قمع الإنتفاضة ـ عام 1991ـ ظهرت مباشرة سلسلة من سبع مقالات صحفية بإسم حزب البعث العربي الإشتراكي في صحيفة الثورة، يعتقد أغلب المحليين بأن صدّام هو كاتبها بالفعل، وكانت هذه السلسلة غير اعتيادية في السجالات التاريخية للسياسة العراقية لأن صدّام يناقش فيها قضايا لم تُواجه مطلقا من قبل على هذا النحو، حيث يمتد نطاق الموضوعات إلى الغزو المغولي للعراق عام 1258، ويؤكد صدّام بأن المجموعة التي نشأت في الأهوار ومستنقعات شط العرب تعاني من القيم المنحرفة الناجمة عن أصولها في الهند حيث كانت ترعى الجواميس”.

وفي شهادة علاء بشير الطبيب الخاص للرئيس صدّام حسين وعائلته أدلى بها في كتاب أصدرته دار “الشروق” المصرية بعنوان “كنت طبيبا لصدّام” إنه ذات صباح وفيما كان يتحدث مع صدّام حسين في قصر الرضوانية قال له الرئيس السابق:

“إن عرب المستنقعات ـ الأهوارـ ليسوا عربا بمعنى الكلمة، منذ ألف ومائتين وخمسين عاما أتوا بثيرانهم السوداء من الهند لأن العباسيين كانوا في حاجة إلى أيد عاملة ولكن منذ ذلك الوقت لم يطوروا أنفسهم هم ليسوا مثل غيرهم من العراقيين، فهم بلا أخلاق، لا يمكن الوثوق بعرب المستنقعات هؤلاء، إنهم يكذبون ويسرقون، وليست عندهم نخوة إنهم ليسوا مثلنا كما أن نساءهم يتسمن بالإباحية المطلقة وبانعدام الأخلاق وحياتهن غير محترمة”.

هذا الإسقاط للجذور الهندية من جانب عراقيين على عراقيين آخرين سيأخذ مداه في مرحلة التغيير السياسي ما بعد عام 2003، ومن مظاهره الملتهبة ذاك الحوار الإنفعالي بين النائبين طه اللهيبي وحنان الفتلاوي على قناة “دجلة” العراقية (29 ـ 10 ـ 2014) حيث أرجع اللهيبي أصول العراقيين في منطقة العمارة إلى الهند وقال إن “ثورة العشرين” أشعلها المتحدرون من جذور هندية.

وكان من تداعيات هذا الحوار أن النائب كاظم الصيادي (قناة “السومرية” ـ 1 ـ 11 ـ 2014)  طالب “الرئاسات الثلاث بإصدار مذكرة إلقاء قبض بحق اللهيبي”، مشيرا إلى أن تلك التصريحات “لم تمس أهل الجنوب فحسب وإنما مست العراق بشكل عام ودعا أعضاء مجلس محافظة الأنبار ونواب المحافظة الى إعلان موقفهم من تصريحات اللهيبي الأخيرة” بشأن اهالي العمارة. “وبغية احتواء الموقف” أعلنت عشيرة اللهيب البراءة من تصريحات النائب السابق طه اللهيبي والتي وصف فيها أبناء محافظة ميسان بـالهنود، مشيرة الى أن تصريحات الأخيرة “لا تمثل خطاب العشيرة الداعي للتوحد، وكان محافظ ميسان علي دواي طالب النائب السابق طه اللهيبي بالإعتذار على خلفية وصفه أهالي مدينة العمارة بـالهنود”.

إقرأ على موقع 180  "عقدة هيكل" في الأرشيف الإسرائيلي!

ثانياً؛ “فتنة الهند” قبل صدّام حسين:

ليست مقالات الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين (أو طارق عزيز) سبّاقة في إخراج شريحة سكانية عراقية من الدائرة العربية وإلحاقها بالهند أو بأية جذور أعجمية أخرى، وفي سياق البحث عن أنساب القبائل العراقية ومن بينها “قبيلة البومحمد” يستعرض محمد الباقر الجلالي في كتابه “موجز تاريخ عشائر العمارة” ما يقال عن أصول “البومحمد”، فيروي ويقول:

“كنا نتحدث في ديوان فقيد الأدب والبيان المرحوم السيد ابراهيم صالح شكر، وكان يومئذ يشغل قائممقامية قضاء قلعة صالح خلال سنة 1934 وجرى الحديث عن تاريخ هذه القبيلة، وكان الأستاذ يشك في عروبة هذه القبيلة متذرعا بأن ملامح أفرادها وسحنتهم تختلف عن ملامح العرب، وكان يميل إلى الإعتقاد بأن هذه العشيرة قد تناسلت من الأشخاص الذين استوردوا الجاموس من الهند أو أن مؤسسها كان تركماني الأصل” مع العلم أن “نفوس قبيلة البو محمد من الرجال أكثر من ثلاثين ألفا” حين صدر هذا الكتاب عام 1947 على ما يقول الجلالي.

وهذا الإعتقاد يضعه عالم الإجتماع علي الوردي في موضع “الطرافة” كما يكتب في “طبيعة المجتمع العراقي” الصادر في طبعته الأولى عام 1965 ومن هنا قوله “من طريف ما يُذكر أن الكاتب المعروف ابراهيم صالح شكر كان قائمقاما في قضاء قلعة صالح التابع للواء العمارة عام 1934، وقد كان يشكك في عروبة قبيلة البومحمد، فهو يميل إلى أنهم من أصل هندي أو تركماني ويستدل على ذلك بأن ملامحهم تختلف عن ملامح العرب”.

قبل علي الوردي، نشرت دار “الإرشاد” البغدادية عام 1961 لعبد الكريم الندواني كتابه المعروف “تاريخ العمارة وعشائرها” وفي الصفحة الخامسة والعشرين يتوسع في الحديث عن سكان لواء العمارة:

“الرحالون في هذا اللواء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام بدو وعرب ومعدان، البدو رعاة الإبل، والعرب رعاة الأغنام، والمعدان رعاة الجاموس، وأما تسمية رعاة الإبل ببدو ورعاة الأغنام بعرب فلها صلة بالمنطق الصحيح، ولكن تسمية رعاة الجاموس بمعدان لا صلة لها بهذا المنطق، في حين أن هؤلاء من صميم العشائر العربية”.

ويضيف الندواني شارحا وموغلا في الإجتهاد والتأويل “ولأجل أن نجعل هذه التسمية تنطبق على رعاة الجاموس، نقول معتمدين على ما قاله البلاذري في فتوح البلدان من أن الجاموس وُجد في العراق أثناء ولاية الحجّاج بن يوسف الثقفي، حين اقتحم محمد بن القاسم بلاد السند والهند، فقد أتى الحجّاج بأناس من شط السند ومعهم أهلوهم وجواميسهم وأسكنهم البطيحة، وهؤلاء طبعا يتكلمون اللغة الهندية، وهنا نبدي ملاحاظتنا بصورة يقرها المنطق، فقد روى لنا بعض المصادر المطلعة أن العرب عندما شاهدوا هؤلاء الهنود وما لديهم من هذا الحيوان الضخم وما يدره من خيرات، فقد أراد بعضهم أن يتعلموا رعاية هذا الحيوان، فإتصلوا بهؤلاء الهنود، فعلموهم ولكن بلغتهم الهندية، وعندما عادوا إلى أهلهم أخذوا يسألونهم عن هذه الرعاية، فيجيبون باللغة الهندية، الأمر الذي جعل ذويهم يستهزئون بهم ويطلقون على من يتكلم بهذه اللغة لقب معيدي، تصغير معدي، من العدوى، أي عداه الهنود بلغتهم”.

علي الوردي: “من طريف ما يُذكر أن الكاتب المعروف ابراهيم صالح شكر كان قائمقاما في قضاء قلعة صالح التابع للواء العمارة عام 1934، وقد كان يشكك في عروبة قبيلة البومحمد، فهو يميل إلى أنهم من أصل هندي أو تركماني ويستدل على ذلك بأن ملامحهم تختلف عن ملامح العرب”

ثالثاً؛ البلاذري المظلوم:

بعد كل هذا، يوجب الحديث عن الهند وجواميسها العودة إلى “فتوح البلدان” للبلاذري ففي طبعة “الفتوح” الصادرة عن مؤسسة “المعارف” في بيروت عام 1987، يورد البلاذري في الصفحة 522 ما يستند إليه الطاعنون بعروبة أهل العمارة وما حولها فيقول “حدثني روح بن عبد المؤمن قال: حدثني يعقوب بن الحضرمي عن سلاّم قال: أتى الحجّاج بخلق من زُط السند وأصناف ممن بها من الأمم ومعهم أهلوهم وأولادهم وجواميسهم فأسكنهم بأسافل كسكر” على ضفاف نهر دجلة في محافظة واسط الحالية.

لكن البلاذري يقول في الصفحة 221 “حدثني أبو حفص الشامي عن محمد بن راشد عن مكحول قال: نقل معاوية في سنة 49 أو سنة 50 إلى السواحل قوما من زُطّ البصرة والسباتجة، وأنزل بعضهم إنطاكية، قال أبو حفص بإنطاكية محلة تُعرف بالزُط، وفي بوقا من عمل إنطاكيا قوم من أولادهم يُعرفون بالزُط، وقد كان الوليد بن عبد الملك نقل إلى إنطاكيا قوما من الزُط السند ممن حمله محمد بن القاسم إلى الحجّاج، فبعث بهم الحجّاج إلى الشام”.

في روايتي البلاذري خلاصتان الأولى أن الحروب القديمة كان من قواعدها السبي والإستعباد وانتزاع الأقوام المقهورة من مناطقها الأصلية وإدماجها القسري في مواطن جديدة، وفي حال صحت رواية البلاذري عن الزُط (وهو أمر يتطلب مراجع إضافية) فهذا ينطبق على مجمل التاريخ العربي وغيره من التواريخ، مما لا يجعل في الحصيلة قومية صافية ولا عرقا مُصفى ولا جنسا نقيا مُنقّى، والثانية ان الزُط الذين استُجلبوا من الهند والسند جرى توزيعهم بين العراق وبلاد الشام على حد ما يقول البلاذري نفسه.

الختام عن الحسب والنسب:

من بين “الضالعين” العرب في كتابة الأنساب أبو المنذر هشام بن الحارث المعروف بإبن الكلبي (728 ــ 819 م) وقد زج في كتابه “جمهرة النسب” ما حلا له وطاب من تنسيب غير العرب إلى العرب، وقد انتبه إلى اعوجاجه صديقه الشاعر أبو نواس إذ لم يُدخله في قبائل قحطان لا قبائل عدنان فمازحه بقصيدة جاء فيها:

أبا منذر ما بال أنساب مذحج/ مغلقة دوني وأنت صديقي.

وفي قصيدة أخرى يقول:

الحمد لله هذا أعجب العجب/ الهيثم ابن عدي صار في العرب.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  عند أعتاب "الريل وحمد".. ومظفر النواب ـ القمة