سُنّة لبنان.. وتحولات العلاقة مع الجار السوري المتغير

شكل إعلان "دولة لبنان الكبير" في الأول من أيلول/سبتمبر سنة 1920 لحظة مفصلية في تاريخ تأسيس لبنان الحديث، لكن هذا الكيان الوليد لم يحظَ بإجماع "وطني شامل". فكانت هذه الولادة تتويجًا لمشروع نخبة مارونية صرفة سعت جاهدة لقيام دولة "لبنانية مستقلة عن سوريا" تلبي طموحاتها وأحلامها السياسية والاقتصادية.

لم يمر إعلان ولادة “لبنان الكبير” بلا اعتراض. فالحلم الماروني النخبوي لاقى اعتراض نخب طائفية سنية وجدت في ضم مناطقها إلى “الكيان الجديد” تهميشًا وانتقاصًا من حضور ومكانة طائفة ستصبح في الدولة الجديدة أقلية لا تقوى على فعل شيء سياسيًا واقتصاديًا. هذا الرفض لم يكن مجرد اعتراض سياسي، بل كان تعبيرًا عن أزمة هوية وانتماء عميقين. إذ بقي “لبنان الكبير” بالنسبة إليهم مجرد كيان مصطنع فُرِضَ عليهم الانتماء إليه، ووجهه “ذو طابع طائفي” يغلب عليه الامتياز الماروني، الأمر الذي ولّد لديهم شعورًا بالاغتراب السياسي. أدى ذلك إلى تشظي نخبهم السياسية وباتوا متأرجحين بين منادٍ بالعودة إلى “حضن سورية الأم”، أو الانتماء إلى الدولة الناشئة والمشاركة في بناء مشروعية وجودهم السياسي الفاعل.

وعلى المقلب الآخر، لم تنظر دمشق منذ نشوء “دولة لبنان الكبير” عام 1920 إلى الكيان اللبناني كدولة مستقلة مكتملة الشرعية. ففي الوعي السياسي السوري، وخصوصًا في عهد البعث والأسدَين (الأب والابن)، تكرّست سردية اعتبرت لبنان “خطأً تاريخيًا” و”مصادفة جغرافية” نتجت عن التقسيم الاستعماري لبلاد الشام. وقد تحولت هذه “النظرية” إلى ما يلامس مفهوم العقيدة السياسية ومفادها أن هذا “اللبنان” هو إقليم طبيعي تابع لسوريا فُصِلَ عنها قسرًا.. وأن استعادته سياسيًا – أمنيًا وثقافيًا “حقٌ استراتيجيٌ لسوريا”. مارست دمشق هذا المنطق لعقود خلت، وتوجته بالتدخل العسكري في الحرب الأهلية اللبنانية (1976)، ولاحقًا عبر تفويضها أميركياً وسعودياً بإدارة الملف اللبناني غداة اتفاق الطائف، وأخيرًا عبر تحالفها العضوي مع حزب الله منذ لحظة خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005.

التحول السوري والتساؤلات اللبنانية

شكّل سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 وامساك أحمد الشرع، قائد “هيئة تحرير الشام”، بالسلطة جزءاً من تسوية داخلية – إقليمية – دولية.. وفي لحظة سياسية مفصلية، انتقلت سوريا من موقع دولة تقودها أقلية طائفية علوية وتحكمها أجهزة أمنية، إلى دولة “سنية الهوية والانتماء”، خارج المحور الإيراني، وبعيدًا عن خطاب المقاومة ودعم الأحزاب التي تدور في الفلك الإيراني.

بعد هذه التغيرات السورية، بات السؤال مشروعًا: كيف سيتعامل “سُنّة لبنان” على اختلاف توجهاتهم السياسية مع الجار الذي تغيّر؟ هل سيعيدون تموضعهم خارج منطق “لبنان أولاً” الذي نادت به نخبهم السياسية منذ استشهاد رفيق الحريري في العام 2005؟ وهل استِعادة سُنّة لبنان لعلاقتهم بسوريا تنطلق من ذات الاعتبارات عند مختلف قواهم الحزبية (تيار المستقبل، الجماعة الإسلامية، الحركات السلفية، جمعية المشاريع، الأحزاب الناصرية، ودار الفتوى إلخ..)؟

في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة الإشكالية كان لا بدّ من استعراض وجهة نظر القوى السنية لفحص مدى بحثها عن زعامة سنيّة من خارج البلد بعد أن ضاقت بها السبل في دواخله.

مواقف القوى السُنيّة اللبنانية

تتباين مواقف القوى السُنيّة في لبنان، مما يعكس تعقيد المشهد واختلاف المصالح والتوجهات:

أولاً؛ تيار المستقبل: هذا التيار الذي رفع رئيسه سعد الحريري شعار “لبنان أولاً” منذ اغتيال مؤسسه الرئيس رفيق الحريري سنة 2005، دخل في قطيعة سياسية مع نظام الأسد الابن حتى سنة 2009. أعادت السعودية وصل ما انقطع بين التيار ودمشق في زمن “السين سين” لحسابات إقليمية ولتجنب فتنة لبنانية داخلية، كما أشيع يومها. تجرّع الحريري الإبن السم ونام في قصر المهاجرين بين أنياب الأسد. لم يطل الأمر حتى عادت القطيعة مع بدء الثورة السورية في سنة 2011، فوجد جمهور المستقبل نفسه معنيًا بالأمر أكثر من رئيسه الذي ينتظر اليوم إشارة سعودية لزيارة دمشق وتهنئة أحمد الشرع واستعادة موقعه في الحياة السياسية اللبنانية، وهي إشارة لن تأتي كما يتبدى للمراقبين حتى الآن. والتيار الأزرق، وبرغم تاريخه المناهض للأسد، قد يرى في سوريا الجديدة فرصة لإعادة تقييم العلاقة بحذر براغماتي، لكن أي خطوة ستكون مرهونة بالضوء الأخضر الإقليمي، لا سيما السعودي، وفي ظل تراجع زعامة التيار، قد يلجأ البعض للبحث عن زعامة خارجية معنوية تتمثّل في أحمد الشرع مع الحفاظ على عبارة “دون المساس بسيادة لبنان”.

ثانياً؛ الجماعة الإسلامية: بالرغم من أن الخط السياسي العام للجماعة يعكس توجهًا قطريًا تركيًا، إلا أنه لم تُسجل أية زيارة رسمية للجماعة إلى دمشق حتى الآن، مع أحاديث تدور في السرّ والعلن عن عدم السماح للإخوان في سوريا بلعب دور سياسي في الحكم الجديد. وبالتالي، فإن موقف الجماعة في لبنان يتّسم بالضبابية، منتظرًا تغيّرات سياسية على مستوى العلاقة مع النظام الجديد. ومن المرجح أن يكون للجماعة تقارب أيديولوجي مع سوريا “السنية”، وأن تنال دعمًا معنويًا وسياسيًا في سياق سعي حكم الشرع لتعزيز المحور السني. وبحكم ارتباطاتها الإقليمية والإيديولوجية، قد تكون الجماعة أكثر استعدادًا للبحث عن زعامة سنية من خارج لبنان، لكن ضمن “حدود” تضعها دمشق الجديدة على دور الإخوان المسلمين.

ثالثاً؛ جمعية المشاريع (الأحباش): برزت جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية كأحد الفاعلين الرئيسيين في الساحة الإسلامية السنية واستفادت تاريخيًا من علاقتها المميزة مع نظام الأسد، الأمر الذي سمح لها بتكريس حضور سياسي وشعبي وديني وخدماتي، معزّزة مكانتها ونفوذها في المشهد السياسي اللبناني. ومع انهيار نظام الأسد، تواجه الجمعية اليوم تحديات متزايدة في الشارع السني الذي صار يحتفظ بصورة نمطية للصعود الصاروخي لجمعية بفعل علاقتها بنظام الأسد السابق بوصفها “أداة عبث بالساحة السنية”، حسب وصف معارضيها. موقف الجمعية يبدو الأكثر تعقيدًا وحذرًا، نظرًا للخلفية السلفية للقيادة السورية الجديدة التي تتعارض مع عقيدتها. وقد تبتعد الجمعية أو تحافظ على مسافة، ونظرًا لما تمتاز به من براغماتية فلا بدّ أنّها في صدد البحث عن دعم خارجي (وتحديدًا سعودي) لا يتعارض مع توجهاتها العقائدية، لكنّ هذا لا يعني أنّها ستواجه صعوبة في الشارع السني بسبب تاريخها مع النظام السابق.

إقرأ على موقع 180  من أفغانستان إلى فيينا.. أي شرق أوسط ننتظر؟

رابعاً؛ الحركات السلفية: تنظر الجماعات السلفية في لبنان إلى النظام السوري الجديد بزعامة أحمد الشرع على أنه نما وترعرع في أحضان الفكر الجهادي السلفي ويمثل خلاصة تجربة جهادية طويلة. ولكن هوة الانقسام الأفقي والعمودي بين أجنحة هذا التيار على الساحة اللبنانية كبيرة. وفي لبنان هناك موقفان للسلفية:

  • السلفية الدعوية: مارست نسبيًا ما يُمكن تسميتها بـ”العقلانية السياسية”. هي لا تعتبر سوريا الجديدة خطرًا طائفيًا بل امتدادًا سنيًا لها يحقق توازنًا مذهبيًا جديدًا. وترى هذه المجموعة في النظام السني الجديد في دمشق عمقًا طبيعيًا للسنّة في لبنان مع تأكيدها على عدم الخروج على الحاكم وتفادي الفتنة والالتزام بمبدأ السمع والطاعة لولي الأمر ما لم يكفر. فالتأييد للنظام الجديد ينطلق من أنه لم يظهر كفرًا بوّاحًا، بل يجب التعامل معه بأقل قدر من التنازع حفاظًا على وحدة وأمن المسلمين.
  • السلفية الجهادية: ترى هذه الجماعة أن النظام السوري الجديد، حتى لو عارض نظام الأسد وأسقطه، فإنه لم يتبنَ مشروعًا إسلاميًا صريحًا (الحكم بشرع الله)، بل ترى أنه جاء نتيجة تسوية دولية، وهذا يصنّفه ضمن مبدأ الموالاة للكفار. كما ترى في لقاء الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب خير دليل على وجهة نظرها، وبالتالي تتهم الشرع بخلع عباءة الجهاد العالمي.

بشكل عام، ستكون الحركات السلفية أكثر المرحبين بسوريا الجديدة، وبخاصة السلفية الدعوية التي ترى فيها عمقًا طبيعيًا وعنوان زعامة خارجية قوية. أما السلفية الجهادية فستبدي حذرًا وتنتقد التسوية، مما يدل على انقسام داخلي في هذا التيار.

خامساً؛ الأحزاب الناصرية والقومية: تعاني معظم الأحزاب الناصرية والقومية في لبنان من حالة ارتباك وجمود في ما خص العلاقة مع النظام السوري الجديد، مع بدء ظهور مرونة خطابية قد تتحول لاحقًا إلى تبني سردية جديدة للالتحاق بالمشهد الجديد إرضاء لجمهورها ذات الغالبية السنية أو محاباة لدول الخليج. فمعظم الأحزاب الناصرية والقومية في لبنان برّرت العلاقة مع سوريا من منطلق قومي استراتيجي يتجاوز الخلافات وما شاب هذه العلاقة من أخطاء وممارسات أمنية وتدخلات في النظام السياسي اللبناني. فالأحزاب الناصرية تنظر إلى العلاقة مع سوريا من منطلق أنها جزء من الوحدة العربية، وأي علاقة هي امتداد طبيعي لمشروع الوحدة العربية. ومعظم هذه الأحزاب كانت من “منظومة الأحزاب” التي وقفت إلى جانب نظام بشار الأسد بحجة مواجهة المؤامرة الكونية أو محاربة الإرهاب، وبرّرت تصرفات النظام السابق. موقفها سيكون حذرًا من هوية سوريا “السنية” التي قد تتعارض مع مبادئها العلمانية والقومية، لكنها قد تتبنى مقاربة براغماتية للحفاظ على قاعدتها الشعبية أو مصالحها الإقليمية.

سادساً؛ دار الفتوى: شكلت زيارة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان على رأس وفد من مفتي المناطق إلى سوريا محطة بارزة في إعادة رسم علاقة الطائفة السنية مع دمشق. وبرغم أن الزيارة اتخذت بعدًا دينيًا، كما تردّد، إلا أنها حملت رسائل سياسية ذات دلالات واضحة. فهي لم تكن لتتم لولا الغطاء الإقليمي والرضى السعودي تحديدًا. وقد أكدت الزيارة اهتمام دار الفتوى بالعلاقة الجيدة مع النظام الجديد بعد طول “سوء فهم” مع النظام السابق، وأراد المفتي دريان أن يقول للشرع إن “سنة دار الفتوى في لبنان” يقفون إلى جانب سوريا الجديدة. ستحافظ دار الفتوى على موقف براغماتي معتدل، مرحبة بالتحول السني في سوريا، وستؤكد على دورها كمرجعية دينية لبنانية مستقلة، مع مراعاة استمرار الاحتضان الإقليمي ولا سيما الخليجي لظاهرة الشرع وإذا تطور الأمر نحو جعل أحمد الشرع مرجعية سياسية سنية للبنان وسوريا، ستكون دار الفتوى في موقع الترحيب لعل ذلك يُعطي دفعا للدار وللسنة في لبنان.

أداة ضبط للساحة السنية

من الواضح أن دمشق الجديدة تراهن على التغلغل الاجتماعي والسياسي داخل البنية الطائفية اللبنانية الهشة، ولا سيما في الطائفة السنية التي تشهد فراغًا قياديًا بعد انكفاء تيار المستقبل وتراجع الدور السعودي المباشر في بيروت. في هذا السياق، ليس مستبعدًا أن تسعى بعض العواصم العربية – وفق التحليلات – إلى إعادة تدوير النفوذ السوري كأداة لضبط الساحة السنية ومنع انفجارها، بدلًا من تركها نهبًا للفراغ والصراعات الداخلية. ويبدو أن الطائفة السنية، بما تحمله من تاريخ حسّاس مع النظام السوري، أصبحت البوابة الأكثر استراتيجية لعودة دمشق إلى بيروت.

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "من يُحرّر يُكرّر".. الإعلان الدستوري السوري المؤقت!