الكرد الفيليون.. إشكالية المواطنة والجنسية

كان الكرد الفيليون، وهم قبائل لور، تتألف من مجموعة عشائر، جزءًا لا يتجزأ من النسيج المجتمعي العراقي، وحسب المؤلف والجغرافي العربي الكبير ياقوت الحموي المتوفي العام 1229، في كتابه "معجم البلدان"، أن اللور هم جيل من الكرد بين أصفهان وخوزستان، وبلادهم تسمّى لورستان، وفي زمن المغول قُسّمت إلى لورستان الكبرى (لور بزرك)، ولورستان الصغرى (لور كوجك)، الأولى تقع داخل إيران والثانية داخل الأراضي العراقية.

حتى أواسط سبعينيات القرن الماضي، كانت نسبة عالية من الكرد الفيلية تسكن جانب الرصافة، ولا سيّما في محلات الصدرية وباب الشيخ وعقد الأكراد والتسابيل والدهانة والشورجة وجميلة وغيرها، وأيضًا في مدينة الثورة والكاظمية، كما انتشر الكرد الفيلية على مدى قرون على سفحي جبال بشتكوة من الطرفين العراقي والإيراني، وفي سهول العراق الشرقية ومدنها الجنوبية، ولا سيّما علي الغربي والكميت والكوت وزرباطية وبدرة ومندلي وخانقين والناصرية وقلعة سكر وغيرها.

برز من الكرد الفيلية علماء وأدباء وموسيقيون وفنانون ورياضيون، أبرزهم اللغوي والمؤرخ كامل حسن البصير، عضو المجمع العلمي العراقي وعبد المجيد لطفي الصحافي والأديب، والشاعران زاهد محمد وجليل حيدر، ومن أبرز الساسة حبيب محمد كريم (أمين عام الحزب الديمقراطي الكردستاني)، لعقد من الزمن (أواسط الستينيات – أواسط السبعينيات)، وعزيز الحاج أحد أبرز زعماء الحركة الشيوعية في العراق والذي قاد أكبر وأهم تيار فكري “يساري” (1967 – 1969). ومن الرياضيين محمود أسد، لاعب كرة القدم وعضو المنتخب العراقي، والرباع عزيز عباس وغيرهم.

ولعب الكرد الفيليون دورًا في الحياة الاقتصادية والتجارية في العراق، وساهموا في جميع أنشطة المجتمع العراقي. وساهمت المدرسة الفيلية، التي تأسست في أواسط الأربعينيات في تخريج نخب سياسية وطنية انخرطت في صفوف الأحزاب اليسارية. وكان من الوجوه الاجتماعية للكرد الفيليين هادي باقر والحاج أحمد وحميد الملا علي والحاج علي حيدر والد عزيز الحاج الذي ربطته صداقة بالجواهري شاعر العرب الأكبر زادت على ثلاثين عامًا حسب تعبير الجواهري.

تقول ثمينة ناجي يوسف، زوجة سلام عادل (حسين أحمد الرضي) أمين عام الحزب الشيوعي العراقي، الذي استشهد بعد انقلاب 8 شباط/فبراير 1963، عن تلك الفترة “سمع أبي بفصل سلام عادل من وظيفته، وعرف بحصوله على شهادة الثانوي، وهو الذي تابع أخباره، فأرسل في طلبه واقترح عليه العمل في مدرسة أهلية للأكراد الفيلية، تُدار من قبل شخصيات كردية. وكان الحاج علي حيدر ينفق بنفسه على المدرسة، التي فيها طلبة فقراء من الأكرد الفيلية”.

وبعد ثورة 14 تموز/يوليو 1958، جرت محاولات لتحقيق مبدأ المساواة ومنح الكرد الفيليين الجنسية العراقية، حيث تم تشكيل وفد من الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي وشخصيات كردية فيلية لمقابلة الزعيم عبد الكريم قاسم وطرح قضية الكرد الفيلية عليه، لتصحيح الوضع القانوني الخاطئ الذي سببه قانون الجنسية العراقية عام 1924، وكان يقود الوفد عزيز الحاج، وأحد أبرز أعضائه حبيب محمد كريم، لكن هذا الوضع استمرّ وازداد اغلاقًا بعد حملات تهجير عديدة.

وكانت مقدمات الحرب العراقية – الإيرانية التي جاءت في أعقاب سقوط نظام الشاه وصعود تيار ديني إسلامي شيعي في إيران، قد دفعت الحكومة العراقية لتجعل من الكرد والفيليين بشكل خاص كبش فداء هذه المرّة، فقامت بحملة تسفير طالت عشرات الآلاف منهم، بموجب القرار (666)، الذي قرّر إسقاط الجنسية العراقية عن كلّ عراقي من أصل أجنبي إذا تبيّن عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة، وعلى وزير الداخلية أن يأمر بإبعاده ما لم يقتنع بناءً على أسباب كافية بأن بقاءه أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير. واستمرّت مفاعيل هذا القرار طيلة فترة الحرب العراقية – الإيرانية وما بعدها.

يُذكر أن قرار التمييز بحق الكرد الفيليين أو غيرهم ممن تم تهجيرهم يتناقض تناقضًا صارخًا، ليس مع القواعد والقوانين الدولية حسب، بل مع الدستور العراقي النافذ حينها ذاته.

أشارت إحصائية رسمية إلى أن نحو 10 آلاف حالة طلاق حصلت خلال مدّة وجيزة، وهي حالة تكاد تكون نادرة في مجتمع يميل إلى المحافظة وتحكمه العديد من الاعتبارات الدينية والأخلاقية والعشائرية التي تحول دون اللّجوء إلى الطلاق كظاهرة لأسباب عرقية أو إثنية أو دينية أو أصول تاريخية

ودون الدخول في تفصيلات كثيرة، فإن التمييز ضدّ الكرد الفيليين وأصحاب التبعية غير العثمانية، كان واضحًا، فهم المشمولون بعملية نزع الجنسية أو التهجير القسري، حيث صودرت أموالهم وممتلكاتهم بشكل تعسفي دون وجه حق ودون تعويض ودون مهلة لتصفية أعمالهم أو الاحتفاظ بوثائقهم، ولا شكّ أن الكثير من الكرد الفيليين كان قد أدى الخدمة العسكرية، التي لم تكن مجزية لاكتسابهم الجنسية العراقية الأصلية، فضلًا عن التشكيك بعراقيتهم، حيث تم اتّهامهم خلال فترة الحرب العراقية – الإيرانية باعتبارهم من “الفرس المجوس” و”طابورًا خامسًا“، وهم حتى تلك اللحظة لم يخدموا أي جيش دولة أجنبية، فقد ولد غالبيتهم الساحقة في العراق، ولم يعرفوا وطنًا سواه، وقد تعاظمت مشكلتهم في إيران بعد تهجيرهم أيضًا، وهذا موضوع آخر عالجناه في كتابنا “من هو العراقي؟”، وذلك بتسجيل شهادات عديدة عن معاناتهم. 

المرأة الفيلية والمعاناة المركبة

أشارت إحصائية رسمية، بعد صدور قرار مجلس قيادة الثورة رقم 474 في 15 نيسان/أبريل 1981، الخاص بتفريق الزوجين، إذا كان أحدهما لا يحمل شهادة الجنسية العراقية إلى أن نحو 10 آلاف حالة طلاق حصلت خلال مدّة وجيزة، وهي حالة تكاد تكون نادرة في مجتمع يميل إلى المحافظة وتحكمه العديد من الاعتبارات الدينية والأخلاقية والعشائرية التي تحول دون اللّجوء إلى الطلاق كظاهرة لأسباب عرقية أو إثنية أو دينية أو أصول تاريخية. وقد نصّ القرار المذكور على “منح مكافأة” للزوج الذي يُطلّق زوجته، وذلك بمنحه مبلغًا وقدره 4 آلاف دينار عراقي إذا كان عسكريًا، و2500 دينار عراقي إذا كان مدنيًا.

الجدير بالذكر أن العراق وافق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر العام 1948، حيث أكّدت مادته السادسة عشرة على الحقوق المتساوية للمرأة والرجل عند الزواج، وأن لا يُبرم عقد الزواج إلّا برضا الطرفين، كما انضمّ العراق إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966، وذلك بتاريخ 25 شباط/فبراير/1971، حيث كان القانون رقم (93) لسنة 1970 قد صدر بذلك.

ونلاحظ هنا أن الدولة بإجراءاتها ساعدت على انحلال العلاقة الزوجية، كما ساهمت في التمييز بين الزوجين بعد انحلال العلاقة، فمن اعتبرت أو اعتبر من التابعية الإيرانية، تمّ وضع اليد على “ممتلكاته”، ولم يُسمح لها او له بالحصول على المكافأة الضرورية.

وأدّى حرمان الزوجة أو الزوج من جنسيتهما إلى ضياع الأولاد، سواء كانوا مع أمهم أو أبيهم، خصوصًا إذا كانوا صغارًا وفي سنوات الرضاعة، فإذا اعتُبر الأب عراقيًا، فالولد يمكن أن يتبع أبيه بعد ترحيل أمه، وهنا نشأت مشكلة اجتماعية مهمة: وهي ماذا يفعل الاب بالأطفال الرضّع الصغار؟ وإذا كان الموضوع، من الناحية الإنسانية، يُثير تداعيات كثيرة، فإنه من الناحية الاجتماعية والنفسية ترك ويترك أبعاده الخطيرة على سلوك وتصرّف الأولاد ومستقبلهم.

إقرأ على موقع 180  "المنظومة" تُجدّد شبابها بأصوات المرتكبين ـ المرتبكين!

إن الاجراءات التي اتخذتها السلطة العراقية نفت بالكامل منظومة حقوق الإنسان المدنية، وجرّدت المواطن العراقي المهجّر من جميع حقوقه، فهي حرمت حقّه في الحركة والتنقّل، وحقّه في مغادرة البلد والعودة إليها، وحقه في الجنسية، وحقه في الزواج ممن يشاء، وحقه في التملّك وحقه في الإرث وحريّة الفكر والتعبير والاجتماع السلمي، وتلك القضايا لاحقته عند تهجيره بسبب حالة انعدام الجنسية.

إن معظم الوثائق والإتفاقات الدولية تؤكّد أن الجنسية حق من حقوق الإنسان، وهو ما ذهبت إليه المادة (15) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حين أكّدت أن لكلّ فرد الحق في التمتّع بجنسية ما، مشيرةً إلى أنه لا يجوز حرمان أي شخص (تعسفًا) من جنسيته، ولا من حقه في تغييرها، بينما اكتفى الدستور العراقي بنص مبهم ومثير حين لم يتحدّث عن الجنسية باعتبارها حقاً. وتُخالف إجراءات الحكومة العراقية، سواء التهجير أو القرار (474) في 15 نيسان/أبريل 1981 الخاص بتفريق الزوجين الذي سبق أن عرضناه، أو القرار (1610) في 23 كانون الأول/ديسمبر 1982، الذي نصّ على منع العراقية (المتزوجة) من غير العراقي من نقل ملكية أموالها المنقولة وغير المنقولة إلى زوجها، وحرمان الزوج غير العراقي من حقه في التركة، واعتبار الأموال المتنازع عليها بين الزوجة العراقية وزوجها غير العراقي في حالة الوفاة ملكًا للزوجة، ما لم يثبت قانونًا ملكيتها للزوج.

وقد نزلت قرارات التهجير مثل الصاعقة على المجتمع العراقي، وحلّت بعشرات الآلاف من الأسر نكبات لا حدّ لها، بل أن بعضها لاحقتهم حتى في بلدان المنافي حين ظلوا يعانون من “تعويم الجنسية”، أي انعدامها. وكان التأثير الأكبر في ذلك قد وقع على المرأة والطفل.

عوضًا عن الخاتمة

بعد عرض معاناة الكرد الفيليين والمهجرين المُسقطة عنهم الجنسية أو الذين أصبحوا عديمي الجنسية، كنت قد بلورت مقترحًا عامًا أخذ مداه وأُدرج في وثائق العديد من القوى والتيارات السياسية، بما فيها اجتماع المعارضة وهيئاتها، ومفاده، لا بدّ من سنّ قانون جديد للجنسية العراقية، بما يتواءم مع الالتزامات الدولية التي أخذها العراق على عاتقه والمنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

وبالطبع فإن الأمر سيتطلّب سنّ دستور جديد، وهو الإطار الأسمى التي تتفرّع منه وتنضوي تحت خيمته القوانين، بما فيها قانون الجنسية، وإن كان مثل هذا الدستور قد صدر في العام 2005، وإن كان ثمة ألغام ونواقص وثغرات وعيوب جوهرية يحتويها، إلّا أن بعض مواده يمكن الاستفادة منها فيما يتعلّق بالمواطنة وحقوق الإنسان التي وردت فيه وتفعيلها بالاتجاه الإيجابي، خصوصًا حين تتوفّر وحدة وطنية وإرادة سياسية.

وإذا كان إلغاء القرار (666)، الذي اكتسب شهرة واسعة، أصبح أمرًا واقعًا، وأن العديد من الكرد الفيليين عادوا إلى العراق، وبعضهم استعاد جنسيته، إلّا أن أثار الماضي ما تزال قائمة وقاتمة وثقيلة، بما فيها العديد من القوانين وقرارات مجلس قيادة الثورة، وتبعاتها العملية.

إن استعادة الحقوق والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالمهجرين العراقيين تعسفًا، بما فيهم الكرد الفيليين، وكذلك جبر الضرر وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون، يُعتبر من صلب مبادئ العدالة الانتقالية التي يمكن تكييفها لتصلح في معالجة آثار عملية التهجير، والأمر يحتاج إلى إصلاح دستوري وقانوني بالاتجاه الذي يفتح الأبواب والنوافذ لرياح لكي تدخل مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة والقواعد الحديثة للجنسية في العالم إلى مفاصل الدولة ودواوينها المختلفة.

وكنت دعوت إلى تحريم التمييز على أساس عنصري أو سلالي أو ديني أو مذهبي أو لغوي أو أي نوع من أنواع التمييز ولأي سبب كان، وذلك في كامل عقدَيْ الثمانينيات والتسعينيات وإلى العام 2003، حيث وقع العراق تحت الاحتلال الأمريكي وأدّى إلى انفجار الصراع الطائفي في ظلّ نظام المحاصصة القائم على الزبائنية السياسية والحصول على المغانم، وهو ما دعاني لتطوير الفكرة إلى “مشروع قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة” في العام 2008، ونشرته بعد مناقشات عديدة في كتابي “جدل الهويّات في العراق: المواطنة والدولة”، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2010.

ولكي تستكمل حقوق المهجرين عمومًا والكرد الفيليين خصوصًا، لا بدّ هنا من تأكيد أهمية احترام حقوق الإنسان وحريّاته الأساسية وتعزيز المواطنة الحيوية والمتكافئة القائمة على مبادئ الحريّة والمساواة والعدالة، لاسيّما العدالة الاجتماعية والشراكة في الوطن، والمشاركة في اتخاذ القرار، بما يضمن إشاعة جو من احترام الرأي والرأي الآخر والاعتراف بالتعددية والاقرار بالتنوّع والحق بالاختلاف.

ودون أدنى شك فإن مثل هذا التقدير يحتاج إلى أجواء سلمية وطبيعية وتوافق وطني عام ورغبة حقيقية بالتخلّص من آثار الماضي، وذلك بنشر ثقافة التسامح واللّاعنف وتعميمها، خصوصًا إعلاء قيم السلام والعدل والتآخي القومي والديني والتعايش المجتمعي، وإظهار ما هو مشترك وإنساني جامع، خصوصًا باحترام الهويّات الفرعية في إطار الهويّة العامة الموحدّة، والجمع بين الخصوصية والعمومية، والأمر بقدر انطباقه على عموم الدولة العراقية، فإنه يشمل إقليم كردستان أيضًا.

– ذكرت عائلة عراقية تم تهجيرها العام 1980 إلى إيران أن أحد أطفالها تم نسيانه عند الجيران، حيث كان يلعب مع أولادهم، ولم تتذكره الأم إلّا بعد صعودها إلى السيارة التي نقلتهم إلى إحدى مراكز التسفير، ولم يستجب أحد إلى صرخات الاستغاثة التي أطلقتها بأن تحمل ابنها معها إلى المنفى، وهو لا يتجاوز الثلاث سنوات. وذكرت عائلة عراقية أخرى أن ابنها، عند تهجير العائلة، لم يكن في البيت، بل كان عند عمه يلعب مع أولاده، ولما حاول المكلفون بالتسفير طمأنة المرأة، بأنها مجرّد تحقيقات واستفسارات وسيعودون بعدها إلى البيت، فضلت أن يبقى الولد عند عمه، لكنها فوجئت عندما تم احتجازها في أحد مراكز التسفيرات، وتم نقلها بعد أيام وزوجها وأولادها وهم خمسة إلى الحدود العراقية – الإيرانية. ولدى الباحث مجموعة من الشهادات والوثائق تحدّث فيها مهجرون عراقيون عن معاناتهم خلال رحلة التهجير. 

 (*) هذا النص جزء من محاضرة ألقاها الباحث في المؤتمر الدولي حول الأكراد الفيليين الذي انعقد في أربيل (2-4 أيار/مايو 2023)، تحت عنوان “الكرد الفيليون: المواطنة الملتبسة والجنسية المستلبة”.

Print Friendly, PDF & Email
عبد الحسين شعبان

أكاديمي، باحث ومفكر عراقي

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  رئاسة تايوان تُشعل شرارة التوتر بين بكين وتايبيه